جاءت الرسالة الملكية السامية التي وجهها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس إلى المجلس العلمي الأعلى بمناسبة مرور خمسة عشر قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم لتشكل لحظة فكرية وروحية فارقة، لأنها لم تكتف بالتذكير بذكرى الميلاد الشريف في بعدها الاحتفالي بل تجاوزته إلى إعادة طرح سؤال مركزي: كيف نجعل من سيرة النبي منارة نهتدي بها في القرن الواحد والعشرين، وكيف نحول محبته من مجرد عاطفة وجدانية إلى مشروع حضاري قادر على مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بعالمنا من تطرف وكراهية وانغلاق وصراع. لقد وضعت الرسالة الملكية يدها على جوهر الرسالة النبوية حين أكدت أن أعظم ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو التوحيد، وأن الترجمة الأخلاقية لهذا التوحيد في عصرنا تكمن في تربية الأجيال على التحرر من الأنانية في حياتهم الفردية والجماعية. هذه الإشارة العميقة تعيد قراءة السيرة في ضوء حاضرنا المأزوم حيث يطغى منطق المصلحة الذاتية ويضعف الشعور بالجماعة، في وقت أصبح فيه العالم أحوج ما يكون إلى قيم الرحمة والتضامن والعدل. فالنبي لم يكن مجرد مبلّغ لطقوس جامدة بل كان معلمًا للإنسانية كيف تتحرر من نزعاتها الضيقة لتبني مجتمعًا يقوم على التراحم والتكافل والرحمة والمحبة والاحترام. إن الحديث عن السيرة النبوية في بعدها العملي يعني أن نقترب من شخصية الرسول في إنسانيته وتجربته الواقعية، فقد كان زوجًا وأبًا يعرف معنى الحنان والمسؤولية، وكان جارًا يتفقد جيرانه ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وكان إنسانًا يعرف معنى الألم حين فقد أحبته ومعنى الفرح حين انتصر للعدل، وكان رجلًا يضحك ويمازح أصحابه ويبكي في صلاته . هذه الصورة إذا قُرّبت إلى الأجيال الجديدة ستجعل منه قدوة واقعية يجدون فيها ذواتهم .