لم يكن شبابنا من نشطاء الجيل الرقمي"Z" يعتقدون أن خروجهم من المواقع إلى الواقع للاحتجاج على تردي أوضاع عدد من القطاعات الاجتماعية، وعلى رأسها قطاعا الصحة والتعليم، سيتعرض لاختطاف من قبل قراصنة من جيل غير جيلهم، وممن مردوا على الابتزاز والانتهازية والتربص سوءا بالمسيرة التنموية والحقوقية لبلادنا، بل والتربص بهذا الشباب التواق إلى الحرية والتغيير والقطع مع مخلفات الماضي في التسيير والتدبير… فإذا كان هذا الشباب المطْلِق لهذه المبادرة الاحتجاجية يعلن عن نفسه في المواقع كحركة عفوية سلمية تحمل مطالب اجتماعية مشروعة، لا علاقة لها لا بإيديولوجيا ولا بأي توجه سياسي مناهض لمؤسسات البلاد، فإن الذين ركبوا في الواقع على هذه المبادرة الشبابية وجهوا دفتها في اتجاه خدمة أجندات سياسية تخريبية للمؤسسات وتهديدية للأمن والاستقرار، لم تخف على الذين تابعوا تحريف المطالب وتوجيه المسيرات نحو الفوضى، والتحدث باسم الشباب، وانتحال صفة الناطقين باسم هذه المبادرة الشبابية، من كهول المجرمين وشيوخ المؤامرات الذين تكسرت قرونهم على صخرة الوطن دون أن ينالوا من وحدته وتضامنه وتعبئته لإنجاح استحقاقات تنموية تتحقق بها المطالب والانتظارات. إن من راقبوا حركة الخطاب والتوجيهات والنداءات في هذه الاحتجاجات الاجتماعية، سيلحظون أن الظاهر منها هو مطالب سلمية مشروعة لا يختلف حولها اثنان، لكن ما تسرب منها وما أسفرت عنه هو اندساس خطاب سياسي عدمي وتخريبي داخل الخطاب الاحتجاجي الاجتماعي، حوَّل مبادرة شباب جيل "Z" إلى ظهر للركوب والامتطاء، من أجل تحقيق ما عجز عنه التخريبيون، منذ سنوات خلت، من نشر للفوضى وتجنيد للأتباع واستغلال لمناخ الحريات والحقوق والديمقراطية من أجل تصفية حسابات إيديولوجية مقيتة أو سياسوية رديئة أو حتى شخصية وطائفية بغيضة. العتب على شبابنا الذي نتوسم فيه خيرا لحمل مشعل الوطن والحريات والحقوق في هذا البلد، الذي لا يعلم بأن ثمة متربصين بمسيرته ليأكلوا الثوم بفمه، ويحرفوا خطاب السلمية إلى حرب في الشوارع، تقطع الطريق وتعرقل السير والجولان وتهدد أمن وسلامة وممتلكات المواطنين، بل وتحرض من منابر التواصل الاجتماعي على استعمال العنف والتوجه من الشوارع وساحات التجمع والتظاهر إلى المؤسسات والإدارات لحرقها وتخريبها، تطلعا من المندسين للزج بهذا الشباب في مواجهة دامية وصدام مع السلطات الأمنية، التي ستمنعهم حتما بحكم واجبها في حفظ الأمن والحيلولة دون اندفاع المتظاهرين نحو مصير مجهول تقودهم إليه الأيادي الخفية التي تسير، من بعيد أو من قريب أو بينهم، جموع المحتجين. وفي هذا الإطار نشيد بحنكة وخبرة السلطات والأجهزة الأمنية التي فرقت المتظاهرين، دون خسائر تذكر في الأرواح والممتلكات، ودون تحقيق أمنية المتربصين الذين اختطفوا شباب جيل "Z" وسطوا على مبادرتهم الاحتجاجية السلمية ووجهوها عبر نداءات مفضوحة للعنف والحرق والدعوة للعصيان المدني، ومحاولات إجبار المارة على الانضمام للمسيرات، ونشر شعارات سياسية وإيديولوجية تخريبية غير بريئة، بديلة عن شعارات اجتماعية بريئة ومتفهمة، وإلا فما الذي يعنيه أن تطغى في النداءات إلى الشباب المتظاهر شعارات مناهضة للمشاريع التنموية الكبرى للمغرب التي تخدم الشباب وتوفر له فرصا للانعتاق والتحرر وجلب الثروات وتفتيق المواهب، تحت شعار: أننا نريد صحة جيدة وتعليما نافعا، ولا نريد ملاعب ورياضة، وأن المغرب غير آمن، وبدون ثقة شركائه ولا مصداقية لمشاريعه، وعلى شركائه الدوليين سحب تنظيم المونديال منه؟؟؟ وما إليه من شعارات تحريضية وتخريبية، ودعوات لضرب مكتسبات أمة ودولة وشعب، مما لا يخفى تقاطعه مع الخطاب العدائي لإسقاط المغرب الذي تروجه دولة حاقدة وفاشلة بجانبنا، ودول منافسة غير شريفة تسعى بكل الوسائل القذرة لكسر عزة المغرب ومنعته وتحطيم مكتسباته ومعنوياته العالية الراهنة في مواجهة تحديات مصيرية ووجودية، ويتربص خدام هذه الجهات وعملاؤها في المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي للركوب على أي حدث مشين أو واقعة مؤسفة أو خطأ في التقدير والتدبير ببلادنا للإيقاع بمواطنينا، وشبابنا خاصة، في أتون خطاب التيئيس والعدمية والظلامية، ومن ثمة قيادة ذوي النوايا الحسنة والمخدوعين من بسطاء الأمة إلى تخريب بيوتهم بأيديهم، وتحقيق حلم تاريخي بإحراق المغرب على من فيه. وبدخول هذه الأقنعة والمقنعين على خط هذه المظاهرات في النداءات المكثفة للنزول إلى شوارع كل المدن وتحويلها إلى ميادين حرب وعصيان ومواجهة، وكذا اندساس مجرمين محترفين ممن لا تربطهم أية صلة بجيل "Z" لا من حيث السن ولا من حيث المطالب والأهداف، تنكشف خيوط اللعبة القذرة والشباك المنصوبة للاصطياد في المياه العكرة للصحة والتعليم والتشغيل والأسعار وغيرها من مفاسد المفسدين في هذا البلد. العتب كذلك على هيئاتنا ومنظماتنا السياسية والجمعوية والنقابية التي تخلت عن أدوارها التأطيرية والتمثيلية، والتي كانت تحتضن المطالب وحركة التغيير، وتتفاعل مع نبض الشارع، وتعبر عن هموم المواطنين وعن انتظارات فئات الشباب خاصة، وتبلورها وتترجمها في مشاريع قابلة للتنفيذ، وتفتح حولها نقاشات عمومية، تمتص الاحتقانات وتوجه إلى الضغط عبر التظاهر أو الإضراب، وتنظمه وتؤطره وتسهر على نشر الوعي الوطني والمواطن، وتعلي من قيم التفاوض والحوار وانتزاع الحقوق، والوساطة بين الدولة والمجتمع. العتب الأكبر على حكومتنا التي تفتقد إلى الحس الاستباقي للاحتقانات المتعاظمة لدى الفئات الاجتماعية الهشة، التي لم تنل فرصتها في حياة كريمة وإنصاف من الظلم والغلاء الفاحش، وفي عدالة اجتماعية وتعليم نافع وصحة جيدة، كما تفتقد إلى حس تواصلي رفيع ينزع فتيل التوتر، ويمنع استشراء الفساد قبل تطوره إلى ما لا تحمد عقباه من أورام وفتنة للوطن والمواطنين، ويعمل بصدق على تفعيل وتنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومعاقبة كل من أخل بعمله وواجبه ومسؤولياته تجاه المواطنين الذين يلجأون إلى الخدمات العمومية ثم لا يلجونها، ولا يجدون من يخاطبهم ولا من يستجيب لمطالبهم، ولا من يحل مشاكلهم، ولا من يسأل عن مصير ملفاتهم وأقضيتهم، ولا من يعجل بعلاج اختلال أو مرض أو يسد ثغرة أو ثلمة في التدبير والتسيير. العتب كذلك على عدد من منتخبينا الجماعيين الذين اختفوا من ميدان العمل والتضحية من أجل تنمية مدنهم وقراهم وجهاتهم، عاملين بالمقابل على تنمية ثرواتهم ورعاية مصالحهم الشخصية، دون أن يتحرك منهم ضمير وطني، ولا تلهمهم قيم مواطنة حقيقية للحد من بؤس الخصومات والصراعات الضيقة على الكراسي والزعامات والولاءات والغنائم، بينما هم يراكمون الفشل تلو الفشل في تسيير الشأن المحلي والجماعي، مع تعطيل المصالح وتبديد الثروات، والقضاء على ما تبقى لدى المواطنين من أمل في الإصلاح، ومن ثقة في خطاب التغيير عبر صناديق الاقتراع. العتب كل العتب على كل من يسير بالمغرب إلى الوراء وبشكل يعاكس مسيرته التنموية والحقوقية، أو يسير به بسرعة لا تتناسب مع السرعة القياسية التقدمية التي تسير بها الرؤية الملكية ومشاريعها التنموية الكبرى التي يعتبر الأمن الروحي والاجتماعي والاستقرار السياسي ركيزتها الأساسية وضمانتها وجوهرتها. لا مكان بيننا لمِعْوَلَي الهدم المتساندين والمتعاضدين المتآمرين على بلد ناهض مستشرف لمستقبل واعد؛ المِعْول الأول مِعول المفسدين المخلين بمسؤولياتهم المسندة إليهم في خدمة المواطنين، الذين حولوا المسؤوليات إلى أصل تجاري تنهب به ثروات البلاد، ويعبث فيه بمستقبل شبابه وأجياله الجديدة، والمِعول الثاني تلك الخلايا الخائنة النائمة المقموعة التي تنعشها الاحتجاجات والمظاهرات، وتعيدها للظهور في ثوب قيادة ثورة جماهيرية عارمة لإسقاط الفساد. إن الذين اختطفوا أحلام شبابنا وثقتهم وأجهضوها، والذين اختطفوا أصواتهم الحرة والاحتجاجية وحرفوها عن مقاصدها النبيلة، هم سواء في استهداف وطننا وأمننا ومصالحنا المشتركة. والذين أضرموا النار في الأسعار، وأغلقوا الولوج إلى الخدمات الصحية الجيدة وسوق الشغل النشط والتعليم النافع، والذين أضرموا نيران الكراهية والغضب والحطب في مظاهرات، وأغلقوا الطرقات ومنعوا السير والجولان وقضاء المصالح، وسعوا إلى تحويل الاحتجاجات إلى برك من الدماء واستهداف الساهرين على الأمن، هم سواء وأعوان في القصد إلى التخريب والإجرام في حق الوطن والمواطنين وفي حق الدولة والشعب. لقد جنبت اليقظة الأمنية بلادنا كارثة مهولة يختلط فيها الحابل بالنابل، وتضيع فيها معالم الجريمة المخطط لها، ويذوب فيها المجرمون ويختفون وسط الضحايا والمطايا. إن الجموع الغفيرة من الشباب والأحداث في مختلف مدن المملكة، خرجوا استجابة لنداءات متضاربة على مواقع التواصل الاجتماعي للاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية المتردية في بعض القطاعات غير المواكبة لمسيرة التغيير والإصلاح، وللتعبير عن أنفسهم، لا يؤطرهم تنظيم، ولا تتكلم باسمهم جهة معلومة، ومسؤولة عن اختيار الشعارات الهادفة والمسار والهدف، ويسهل القفز على عفويتهم، والاندساس في صفوفهم، والسطو على مسيرتهم واختطافها والاتجاه بها نحو التخريب وتنفيذ أجندات تتحرش منذ مدة بمشاريع النهضة وبمكتسبات ومؤسسات البلد، وتسعى إلى تقويض الأمن وضرب الاستقرار، وهو ما حدث بالفعل لولا يقظة الأجهزة والسلطات الأمنية التي فكت الارتباط والتشابك بين هذه الأجندات والمطالب المشروعة للشباب، وحاولت جهد الإمكان الحفاظ على معادلة ضمان الحريات والحقوق واحترام الأمن وسلامة المواطنين، وعدم خروج النازلة عن حدود السيطرة والتحكم. ورغم كل ذلك لم تخل التظاهرات من أعمال عنف وشغب ورشق بالحجارة وتطاولات على الممتلكات وعلى المؤسسات، تخدش صورة مغرب الاستقرار والأمن والحريات ودولة المؤسسات والحقوق، التي حرصت الأجندات المعلومة على توثيق بعض مشاهدها المؤثرة والمنفرة التي تضرب في الصميم مصداقية الأعمال الباهرة المنجزة ورهاناتها التنموية الواعدة، وتضع علامات استفهام كبرى حول مسؤولياتنا جميعا سياسيين وجمعويين وإعلاميين وفاعلين حكوميين ومنتخبين ومربين ورجال الفكر والأعمال عن هذا التردي وسوء التدبير والتقدير لعواقب عدم التناسب بين سرعتين غير متوازيتين تسير بهما بلادنا، وتعرقل إحداهما الأخرى. بل ليست السرعتان غير متوازيتين فحسب، وإنما هما في كثير من الأحيان متصادمتان ومتعارضتان، إحداهما تدفع قاطرة التنمية إلى الأمام، والأخرى تسحبها إلى الخلف. وحسبنا في هذا الإطار التذكير بالتحذير الملكي في خطاب العرش في يوليوز الماضي من أنه "لا مكان اليوم ولا غدا، لمغرب يسير بسرعتين"، وأن جلالته لن يكون راضيا، "مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم، بشكل ملموس، في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات". فهل مِن مُذَّكِّر؟ خلاصة التذكير والتحذير، أن المغرب بيتنا المشترك فلا تخربوه، ولا تغامروا وتقامروا بمستقبل أجياله الجديدة.