لا تنبع رغبة عدد متزايد من مغاربة الخارج المنحدرين من شمال المغرب في إطلاق مشاريع اقتصادية بمناطقهم الأصلية من لحظة انفعالية أو اندفاع ظرفي. بل يبدو أن هذا الميل يجد جذوره في تحولات جهوية عميقة، أفرزت واقعاً إنتاجياً قادراً على استيعاب المبادرات، وتمكين أصحابها من التموقع داخل دورة اقتصادية قائمة. - إعلان - في السنوات الأخيرة، أخذت جهة طنجة – تطوان – الحسيمة موقعا متقدما على مستوى مؤشرات الجاذبية الاستثمارية. ويظهر ذلك في ارتفاع عدد المقاولات المحدثة، وتزايد المشاريع المصادق عليها، وتراجع آجال دراسة الملفات. هذه المؤشرات، وإن بدت تقنية، تعكس تحوّلا في البنية المؤسساتية للجهة، جعلها أكثر قدرة على مخاطبة فئة من المستثمرين المغاربة المقيمين بالخارج، خاصة المنحدرين من طنجةوتطوانوالحسيمة. وتشير بيانات رسمية إلى أن الجهة عرفت سنة 2024 المصادقة على 737 مشروعاً استثمارياً، من أصل 838 ملفاً تمت دراسته، بنسبة قبول بلغت 88 بالمئة. وقدّر الغلاف المالي لهذه المشاريع بنحو 85 مليار درهم، مع توقعات بإحداث أكثر من 68 ألف منصب شغل قار، في وقت لا يتعدى فيه متوسط معالجة الملفات أربعة أيام. بموازاة ذلك، تم إحداث 13 ألفاً و882 مقاولة جديدة في نفس السنة، ما يضع الجهة في المرتبة الثالثة وطنياً من حيث دينامية إنشاء المقاولات، خلف الدارالبيضاء–سطاتوالرباط–سلا–القنيطرة. لكن المعطى الأهم لا يكمن في الكمية فقط، بل في قابلية هذا النسيج المقاولاتي للنمو في قطاعات إنتاجية وخدمية، تسمح بمبادرات صغيرة ومتوسطة، كتلك التي يراهن عليها كثير من المستثمرين القادمين من الخارج. فمنطقة طنجة المتوسط لوحدها تستقطب اليوم أزيد من 1200 وحدة إنتاجية، في مجالات متعددة تشمل الصناعة الميكانيكية والكهربائية، والخدمات اللوجستية والتغليف. كما تعرف مناطق صناعية أخرى مثل امغوغة والعوامة والحراريين تمركز وحدات صغيرة ومتوسطة، يسهل على فئات من مغاربة الخارج الاندماج فيها، إما عبر خدمات مساندة أو أنشطة إنتاجية مستقلة. ولا يرتبط هذا التموقع الاقتصادي فقط برغبة في العودة الرمزية، بل يُبنى غالباً على موازنة دقيقة بين الكلفة، والجدوى، وطبيعة الشبكات الاجتماعية التي لا يزال كثير من المغتربين يحتفظون بها داخل المجال الأصلي. فبالنسبة لفئات واسعة، لم تعد فكرة "الاستثمار في المدينة" مجرد مشروع مؤجل، بل تحوّلت إلى خيار استراتيجي، يجد ما يكفي من المبررات الموضوعية للانطلاق. ولا تقتصر دوافع هذا التوجه على العوامل المجتمعية، بل تشمل أيضاً معطيات مرتبطة بانخفاض التكاليف التشغيلية، وسهولة الولوج إلى العقار الصناعي، وتطوّر مسالك التوزيع، واتساع قاعدة الاستهلاك المحلي في عدد من أقاليم الجهة. هذه العناصر مجتمعة تجعل من الاستثمار في الشمال اليوم فعلاً قابلاً للتنفيذ، لا فكرة حالمة كما كان عليه الوضع قبل عقد فقط. وتأتي التعبئة المؤسساتية الأخيرة، من خلال تنظيم "أسبوع الاستثمار لمغاربة العالم" بين 11 و15 غشت، كإطار وظيفي يستجيب لهذا النوع من التوجهات، أكثر مما يخلقه. ففي الوقت الذي يشكّل فيه مغاربة الخارج رافعة مالية واجتماعية مستمرة، خاصة المنحدرين من مدن الشمال، تمثل هذه المبادرات محاولة لترسيخ علاقة استثمارية دائمة، وتسهيل الانتقال من النية إلى الفعل، ضمن بنيات استقبال جهوية باتت أكثر نضجاً وقدرة على المرافقة. وتُسجَّل، إلى جانب الدينامية الذاتية، إشارات دعم مؤسساتي وتمويلي واضحة، تمثّلت في توقيع 44 اتفاقية استثمارية جديدة سنة 2024 بقيمة قاربت 18 مليار درهم، إلى جانب شراكات استراتيجية مع مؤسسات مالية دولية، كمؤسسة التمويل الدولية التابعة لمجموعة البنك الدولي، من أجل رفع تنافسية المنظومة الجهوية وتعزيز الانتقال نحو نماذج إنتاج مستدامة. وتُساهم هذه الآليات في تأطير ما هو قائم، لا في خلقه. فهي لا تملي التوجه، لكنها توفر له بنيات مواكبة، ومسارات تنظيمية أكثر مرونة. وبين من اختار التموقع الكلي داخل الجهة، ومن فضّل الإبقاء على نمط العيش المزدوج، تبدو جهة الشمال اليوم أكثر استعداداً لاحتضان رأسمالها البشري العابر للحدود، في صيغة إنتاج، لا فقط حنين.