لم تمنع المسافة ولا الحسابات الاقتصادية المعقدة آلاف المشجعين السنغاليين من تحويل شوارع طنجة، ومقاهيها المطلة على البحر الأبيض المتوسط إلى نسخة مصغرة من أحياء دكار الصاخبة. خلف هذه الأجواء الاحتفالية، التي يقودها أنصار "أسود التيرانغا"، تختبئ قصص تضحية مادية قاسية، إذ بدأ التخطيط لهذه الرحلة قبل أشهر طويلة من انطلاق صافرة البداية. الوصول إلى مدرجات ملعب ابن بطوطة لم يكن مجرد انتقال جغرافي، بل مسار شاق من التقشف اليومي. يروي أحد المشجعين، وهو يشد علم بلاده حول عنقه، كيف تحول حلم السفر إلى المغرب إلى مشروع ادخار صارم امتد لنحو ستة أشهر، اقتطع خلالها كل ما أمكن من دخله، متنازلاً عن كثير من أساسيات الحياة، لتأمين ثمن التذكرة والإقامة. ولا يمثل هذا المشجع حالة فردية، بل نموذجاً لشريحة واسعة من الجمهور السنغالي الذي يرى في مؤازرة المنتخب واجباً شبه مقدس، يبرر المغامرة بالمدخرات. وتكشف شهادات استقتها "طنجة 24" عن لجوء مجموعات من الشباب إلى نظام "التونتيت" التقليدي، وهي جمعيات ادخار تضامنية، لتوفير السيولة اللازمة في ظل الارتفاع اللافت لتكاليف السفر تزامناً مع الحدث القاري. الترحيب المغربي بالضيوف السنغاليين لم يقتصر على المجاملة السياحية، بل تجاوزه إلى استحضار روابط تاريخية عميقة. ويتداول المغاربة بفخر رواية شائعة تُرجع أصل تسمية "السنغال" إلى تحريف نطقي لاسم قبائل "صنهاجة" الأمازيغية، في سردية تعكس الإحساس بوشائج قديمة أكثر مما تقدم حقيقة تاريخية محسومة. هذا البعد الرمزي يمنح وجود السنغاليين في طنجة طابعاً خاصاً؛ فهم لا يُستقبلون كغرباء، بل كامتداد لذاكرة مشتركة، ما يفسر الحفاوة التي تجعل المشجع يشعر وكأنه عاد إلى جذوره لا أنه سافر بعيدا عنها. وسط هذه الجموع، يبرز دور "اللاعب رقم 12"، لجنة المشجعين الرسمية، التي ترى في نفسها شريكاً في صناعة الانتصار، لا مجرد متفرج. ورغم قوة الدعم المعنوي، يبقى العبء المالي تحدياً فردياً يواجهه كل مشجع بمفرده. يؤكد عضو في إحدى الروابط القادمة من دكار أن وجودهم في طنجة هو انتصار للشغف على لغة الأرقام، مشيراً إلى أن فرحة هدف واحد يسجله ساديو ماني كفيلة بمحو تعب أشهر من الحرمان. ومع غروب الشمس واشتعال أضواء الكورنيش، تذوب الفوارق الاجتماعية على وقع الإيقاعات الإفريقية. هناك، يتساوى من أنفق فائض ماله مع من أنفق قوت يومه المؤجل لستة أشهر، إذ يجمعهم حلم واحد: العودة بالكأس القارية، تعويضاً رمزياً عن كل تضحية قُدمت باسم المنتخب.