ظلت أجواء دمشق عربية واستمرت كذلك منذ أن فتح الشام على يد خالد بن الوليد ،ولم يستطع الغزاة تمريغ أنفها وكبريائها العربي في التراب على اختلاف أجناسهم من مغول وصليبيين وأتراك وفرنسيين .وقد ارتبط التاريخ والفكر العربي بهذه المدينة أيما ارتباط ففيها دون الحديث وأصل للفقه الإسلامي في جميع مناحيه ، وفيها أيضا بدأت الدولة العربية الزمنية . كانت الدولة الأموية عربية المنطلق والهياكل وتداول على حكمها خلفاء من بني أمية بمساعدة أعوان لهم من العرب القيسية واليمنية ، وتجاوزوا في حكمهم للرعية أعراف الدولة الأسلامية حديثة العهد إلى النهل من تاريخ العرب القديم والجاهلي، فضلا عن التأثر بالفرس والروم وغيرهم .فاستحالت الخلافة الشورية "الديمقراطية " إلى حكم أوتوقراطي وراثي داخل سلالة معاوية بن أبي سفيان ، وخضع الفقهاء لسان الرعية آنذاك لحملة واسعة استهدفت تنظيمهم في مؤسسة رسمية تعني بالإفتاء و تخضع للبلاط ، وتسفه الخارجين عنه ، وظهرت لأول مرة مقولة الجبر والإرجاء في تحدي سافر للنصوص القطعية عبر تجاوزها أحيانا ولي أعناقها أحيانا أخرى حتى تتناسب مع أهواء الحاكم المستبد ، الذي بدأ متمسكا بأهداب الملك الزمني ، ولم يعد ذلك الخليفة الذي يخاف عثرة بغلة العراق ،واستند في حكمه إلى عشيرة ممتدة وأعوان متسلطون كالحجاج بن يوسف الثقفي .وكان لهذا الوضع كبير أثير على فتوحات الدولة شرقا وغربا وعلى الفكر العربي الإسلامي الذي ركن إلى نوع من التحجر والتكلس المبكر الذي لازال يعاني منه إلى اليوم . استمرت دمشق بكبريائها المعهود فخضعت لبني العباس ومن بعدهم لأقوام أخرى أعجمية في الغالب، إسلامية وغربية ،واستفاقت في العقد الثاني من القرن العشرين بعد أن بلغت التعبئة العربية أوجها ضد الأتراك على مشانق جمال باشا والي العثمانيين التي كانت تصطاد كل هاتف بعروبتها ، وبها ظهرت التنظيمات العربية على اختلاف روادها طائفيا ، وفي بساتينها أزهرت نبتة العروبة التي ظهرت في الحجاز على يد الشريف حسين بن علي وأبنائه بعد تاريخ طويل من العجمة . وفي خضم الأحداث المتسارعة مع انهيار العثمانيين ومجيء الفرنسيين أنجبت مع شقيقاتها حلب وحمص وحماه واللاذقية وجبل الدروز قادة عظام كسلطان الطرش وعبد الرحمان الشاهبندر وهاشم الأتاسي وشكيب ارسلان، وغيرهم من الذين واجهوا المستعمر الغاشم أيما مواجهة وكان أبرزهم القائد العظيم سلطان الأطرش الدرزي الذي عف عن تقلد أي منصب في دولة الأستقلال . وقبل هنيهة من خروج الأحتلال الحتمي ظهر الوافد الجديد الذي حاول سرقة نضال الشعب السوري من خلال التقليل من الملاحم السابقة والتنظير للدولة والمجتمع المنشودين ، ولم يحفل هذا الوافد الجديد طيلة عقدي الأربعينات والخمسينات بتمثيلية مهمة في الجمعية الوطنية السورية فلجأ إلى الانقلاب العسكري ، وككل التنظيمات التوتاليتارية قام حزب البعث بالجمع بين حكم الدولة والمجتمع والتنظير لهما ،كما نحت التماثيل لزعمائه من عائلة الأسد وأبنائه ، ولم يحيد عن نظرائه من التنظيمات" اليمينية" المرتدية لبزة الاشتراكية كالحرب النازي الألماني والحزب الفاشي الأيطالي . أرغم البعث السوريين على تقبل التبعية لنظام استثنائي حيث بدأ لأول مرة توريث الحكم الجمهوري وبدأ البعثيون الذين هم في الأصل عسكريون في تحدي منظري الفكر السياسي والدفاع عن انجازهم الكبير وتسفيه التجارب الإنسانية في حكم الأمم وبناء الدول .واستمروا في استغلال الوضع الجيوستراتيجي للدولة لتبرير جرائمهم ضد الشعب السوري الأعزل عبر استغلال وجود العدو الصهيوني والتهليل لسياسة الممانعة التي يتبعونها والتي لم تحرر الجولان منذ 1667 والتخويف من حكم الأخوان المسلمين والقاعدة .وبما أن حبل الكذب قصير فإن هذه الأقاويل لم تعد تجد صدى لها بعدما وصلت مئات الآلاف من الشباب السوري إلى رشدها ،واستيقظت على حقيقة مفادها أنها تخضع لنظام أوتوقراطي قهري يسخر العائلة والطائفة لتمديد سطوته على السلطة والدولة . خرجت الجماهير عن بكرة أبيها في كل المداشر والقرى والمدن السورية لطرد الأستبداد والهتاف بالحرية والديمقراطية وهي تعاني اليوم اشد المعاناة من قتل للأطفال وهتك لأعراض النساء ومحاصرة للمدن ،ولايزال الأسد وزمرته مستمرين في ترديد أكاذيبهم المفضوحة عن العصابات المسلحة بأسلحة غريبة ،وينتظر منهم بعد استهلاك هاته الأكاذيب البدء في إشعال الجبهتين اللبنانية والسورية مع إسرائيل بعد أن فشلوا في إشعال الحرب الأهلية ، وهذا هو الحل الأخير المتبقي في ظل استمرار المظاهرات واتساع نطاقها رغم الفظاعات المرتكبة في حق الأهالي العزل الذين وبعد انهيار النظام الذي بات قريبا سيسدلون الستار على 15 قرنا من الاستبداد العربي. * طالب باحث بمعهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة *أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي بوجدور