ابنة مدينة تطوان، الدكتورة مريم آيت احمد، أستاذة الأديان المقارنة والفكر الإسلامي، ووخبيرة الإيسيكو في مجال الحوار بين الثقافات، تعانق عالم أدب الرحلة.. فبعد روايتها "نداء الروح رحلة في عالم الفرسان" بخواطر تركية، تصدر رواية جديدة "أرض إندونيسيا" وهي تحت الطبع باللغتين العربية والاندونيسية . الفصل الأول : حلم في عوالم أخرى فنجان قهوة في غير موعده المعتاد، أبحر بي نحو مرافئ البواخرالتي ترسي كل ليلة في ذكريات مخيلتي الحالمة…. يأخذني تراقص الموج نحو الأعماق،لتزين ذاكرتي بحكايات جدتي الماضية،تحضن آمالي بحنين يخترق ذكريات مضت وأخرى قادمة. أنسدلت خصلات من شعري الملفوف فوق آخر صفحة من كتاب رحلة ابن بطوطة ،ارتخت أناملي ،انزلق المقروء على حرف وسادتي. الليل في ثلثه الأخير،بين غفو وصحو،عيناي النائمتين، مازالتا تسبحان في عوالم الرحلات، تركب سفينة رحلة المجهول، بوصلتها ثابوت عهد من زمن الكلمة الأبدية، نورفناراتها يضيء كل ليلة ،سماء سقفي المكشوف روحا، هناك حيث تتشابك نجوم أحلامي، تحملني كل ليلة فوق بساط أرجواني مزركش . نباح الكلب طوني لم يغير مجرى أحلامي، أطوار الأحداث في عالمي الخارجي تدور في أماكن أخرى، يؤثر صداها من حين لآخر على توازن بساطي الممتد… موطني الطبيعي في تلك الليلة هو سقف غرفتي، ظهري مسنود بإزاري الأبيض المنسدل أسفل المرتبة،جسدا أحس بكينونتي في هذا المكان المألوف،روحا حلقت فوق بساط الريح، الذي حمل ابن بطوطة في رحلاته، إلى جزر بلا عنوان، ومن بين مئات الجزر جزيرة حطت بها رحال سفينة نوح ، هناك حيث استعاد ركابها في رحاب بساط غاباتها الخضراء ألف نوع من المحبة. محبة طاهرة غطت كل المساحات ولم يعد هناك حقد يظهر حتى من أعالي الشجر، لابوصلة ولااتجاه،فقد مسحت رياح ارساء السفينة، شجرة الغواية ،توقفت رياح السفينة،توارت الأنظار عن المرفأ ،عمود نوريخطف أنظار سكان الجزيرة الجدد،ينير أعاليها بأضواء كانها كثل من قطع ذهبية وفضية ونحاسية،حاولت الاسراع في الخطى ،ومواكبة خط المسير،صفوف متراصة من كل زوج اثنين متساوية خطواتهم،في ممر معبرهم في اتجاه معاكس لشجرة الخلد الابدية، أحسست بغبطة لأنني لم أكن وحيدة في جزيرة مجهولة، لكنني كنت الوحيدة المنفردة من الزوجية،رأيت ضبابا كثيفا ثم نورا ثم صمتا،صوت جدتي فاطمة يرافقني،خصلات من شعرها الأحمر تلامس أناملي، سامقة بطولها تملآ فراغات جنبي ، واصلي طريقك مريمتي، ولاتلتفتي الى الجبل من وراءك، انت في الاض مرة أخرى ،ومنها أتيت ،ولا حق لك للعودة مرة أخرى ….واصلي بصمت فليس أمامك إلا خطوات لتصلي إلى عاصمة الكون، جزيرة الحب، التي طالما أخبرتك عنها كنت في غاية السعادة بوجود جدتي بجانبي، لكن الحيرة لم تبرحني،أمسكت اناملها النحيفتين، اضغط على اصابعها بقوة هزة العذراء لجدع النخلة… ضباب كثيف وأدخنة تتصاعد ،مطرخفيف يرش وجهي المفزوع، ويغازل مسارالبشر والدواب والطير والوحش ، كل ماضي في طريقه، ومن كل زوج اثنين لاغير، وجهة واحدة في خط مستقيم ،اتجاه شجرة ضخمة، تتربع بفروع أغصانها الكثيفة ،ومساحتها الشاسعة ،في وسط قلب الجزيرة … خلا الموقع من أي كائنات أخرى، وكأن جغرافية عوالمه كانت مهياة لإستقبال الوافدين الجدد ،قلبي يرتجف، خفقانه يتحول الى تمتمات أحاول بها جذب انتباه جدتي، أومأت لي بإشارة منع الكلام، ياللهول أصداء الخطى تخترق أذني المشلولة عن سماع ما أرى، حن فؤاد جدتي .. مريم حبيبتي ..لاتخافي ولاتحزني..قد جعل ربك لك رزقا ثريا،انت هنا في أرض محطة رحلة الأنبياء..أنت هنا في دار جنة الدنيا، أرض كل المخلوقات التي فيها غير مؤذية،ولكل الحق في الحب والعيش والسعادة،لايوجد أمامك شيطان من إنس أو جن،فقد خلت ارض الله هاته من شجرة غوايتهم… هب نسيم استوائي بحري خفيف،حمل معه مطرا غزيرا،سيوله حولت أقدامنا الى مجادف لزوارق في برك مائية،رائحة جوز الهند متوغلة في وحل التربة، رحمات مطر ربانية تعانق روحي المرفوعة بنسيم راحة أبدية، أغصان الشجرة المترامية الاطراف ،تتصل بجذوعها الثابثة في الأرض،تنحت بقوامها الممتلئ تمثال حواء ممتدا نحو فروعها في السماء، أسراب الطير عانقتها في جولة آخذة الاذن منها، أصوات سراب الطير تعالت،استعدادا لفرش مساكنها، بانتظام مؤدب نزل كل لون بفرع معين،إلى أن تلونت الشجرة بألوان لم ترد في لوحات أشهر فناني البشر، الوحش تلائم وكذلك البشر …إلهي لا أكاد أصدق ما أشاهد وأرى ،لم أتمالك نفسي… صرخت بصوت خافت النبرة : جدتي أحس أن كل شيئ يتغير، وكل المخلوقات يعاد ترتيب خط رحلتها من جديد، كأنها محطة إركاب عابرة نحو الحقيقة الأبدية، النور لم يكن يغشى أرواحهم الشريرة، القلب لم يكن صافيا،والحب لم يكن وفيا ، النكتة السوداء تقتل كل شيء،وتخنق الأحلام الجميلة، العفو والصفح والتسامح أسماء لعطور نقية تتسامى في الفضاءات بلا حدود، تخترق بنسيمها الابدي قلوب أناس من أراضي أخرى…. غرقت بصوتي هناك في عطر الحب الممزوج برائحة السلام ، ومابين سلام وسلام ،أيقظ مضجعي صوت نباح الكلب طوني ، لاأدري بالضبط إن كان علي أن استفيق، أن أستجيب لإزعاج صوته، الذي أضجر عمق حلمي الهارب، شيئ وحيد كنت متيقنة منه، وانا أعود إلى فضاء محيطي ، هو أن داخلي كان سعيدا بلا حدود، آمنا بلا حدود،صوتي مازال هناك ،وأعماق صداه أصبحت جزءا مني ، كنت أرمش بعيني محاولة العودة، انسحب العالم المرئي فجأة من حولي ، أين انا وأين كنت ؟ لم أجد جوابا في حينها لكنني أحسست بأن عالم جديد يولد بين يدي…. في تلك الليلة كل مارأيته كان مصحوبا برنات صوت جدتي الخفي في فضاء برزخ أنوار العالم العلوي، وبين ملحمة عرس من ألوان المحبة ،ونباح كلب، كنت هنا وهناك ،وبينما كانت جدتي الفهرية تواصل تشابك المسافات بضلالها، كنت هناك الهنا أصر على إتمام رحلتي وتنظيم الأحداث المحيطة بي، الموعد يتجدد كل ليلة الوجهة جزيرة الحب،هناك وما ادراك ماهناك..شلالات العشق الابدي.. هناك حيث تكون الأشياء كلها على ماينبغي ان تكون عليه، تبني الطيور أعشاشا ، والنمل تتحد بتآزر نحو مواقع القوت، تنتظم باقي الأجناس البشرية والحيوانية في سانفونية اجتماعية ،تخلد ملحمة العش المشترك،لتعلن أن امتداد الزمن قد ينتهي بالانسان وهو يعيش مئات الانواع من حياة المحبة،وليس نوعا واحدا محدد المكان ومحدود الزمان..