في قلب جبال واد نون، حيث تتعانق الصخور الحمراء مع التراب العطِش، وقفتُ أمام شجرة صبار عجوز، مهيضة الألواح، مثخنة بالجروح. كان لونها باهتًا كمن أرهقته السنون، لكنها ما زالت تحمل بين أشواكها القاسية ثمارًا خضراء صغيرة، أشبه بهدية أخيرة للفقراء الذين شبعت بطونهم يومًا من عطاياها. تبدأ حكاية الصبار هنا منذ زمن الاستعمار الفرنسي. يُروى أن القبطان بولحية، حاكم منطقة بويزكارن، زار أحد الأسواق الأسبوعية في سنوات القحط. هناك، لفت نظره تجمهر الناس حول تاجر يبيع فاكهة جافة. سأل عن سر الإقبال، فأجابه أحدهم : "هذه فاكهة الفقراء... التين الشوكي. تقاوم الجفاف والحرارة، وتبقى خضراء حتى حين يموت كل شيء." أمر القبطان بزراعتها في الجبال والسهول، فامتدت حقولها كأذرع خضراء تحضن القرية، وصارت غذاءً للإنسان ومرعى للحيوان، وحكاية لا تنفصل عن ذاكرة المكان. لكن الأعوام الأخيرة حملت كابوسًا اسمه الحشرة القرمزية. زحفت كجيش صامت، والتهمت الألواح الخضراء، تاركة خلفها أشباحًا سوداء منكسرة. ومع ذلك، ظل الصبار البري يقاوم، يطلق براعم صغيرة في وجه الموت، كمن يصرّ على أن الفقير لن يجوع ما دام في الأرض حياة. وفي الظل، نشأ صبار آخر... ناعم الملمس، محاط بالبيوت البلاستيكية، بعيد عن شمس واد نون ورياحها، مخصص للأسواق الفاخرة. لكنه بلا طعم، بلا ذاكرة، بلا أشواك تحكي الصبر، ولا ماء مخزون في الجذور العميقة. أما الصبار البري، فكتب وصيته الأخيرة، وكأن الريح نقلتها إليّ همسًا : "سأبقى هنا، حتى آخر نفس، أطعم الفقير، وأحرس ذاكرة الأرض... ولو كان هذا آخر ما أستطيع." شارك هذا المحتوى فيسبوك X واتساب تلغرام لينكدإن نسخ الرابط