من الحرير إلى الشراكة الذكية.. المغرب والصين ينسجان مستقبلًا بحكمة حضارتين    الخليج يحث على التهدئة بين إيران وإسرائيل ويؤكد دعم مساعي الاستقرار الإقليمي    التصعيد الاسرائيلي – الإيراني: تأكيد خليجي على ضرورة وقف إطلاق النار ودعم جهود السلام في المنطقة    تحول "OpenAI" إلى الربحية يشعل الخلاف مع "مايكروسوفت"    ترامب يطالب إيران باستسلام غير مشروط وسط تصاعد التوتر مع إسرائيل    فياريال الإسباني يتعاقد مع لاعب الوسط موليرو لخمس سنوات    توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء    أكلو : السلطات تُحبط تهريب أطنان من "الشيرا" بشاطئ أزرو زكاغن    مشروع سكني بالغرب يجلب انتقادات    كأس العالم للأندية .. قمة إنجليزية مغربية وصدام إسباني سعودي    المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران .. إشكالات وسياقات ومآلات    حجيرة: تعاونيات المغرب تلج التصدير    تأجيل محاكمة محمد بودريقة إلى الأسبوع المقبل بطلب نافيا "أكل الشيك"    شاحنة تدهس شاباً وترديه قتيلاً بجماعة إنشادن    عائلة بودراجة تتوعد بالمتابعة القضائية    "فرانس بريس": الملك سيزور فرنسا في نهاية العام الحالي أو في بداية 2026    إجهاض محاولة تهريب سبعة أطنان و50 كيلوغراما من من من در الشيرا بميناء طنجة المتوسط    ولد الرشيد يستقبل وزير خارجية بنما وهذا الأخير يجدد دعم بلاده لمبادرة الحكم الذاتي    عصام الشرعي مدربا لنادي فيسترلو البلجيكي    قطر تجدد دعمها للمخطط المغربي للحكم الذاتي    من قلب باريس.. وزير الصناعة يكشف عن اتفاقيات واعدة تعزز مكانة المغرب في صناعة الطيران    العصبة الوطنية تعلن عن موعد انطلاق موسم البطولة الاحترافية 2025-2026    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    فاطمة الحمامصي… مسار نسائي رائد يُكرَّم في طنجة    فرع الحزب الاشتراكي الموحد –هولندا يدين العدوان الإسرائيلي على إيران ويؤكد موقفه الثابت ضد الحروب والإمبريالية    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    تهديد مباشر لخامنئي.. ترامب نعرف تحديداً أين يختبئ المرشد الأعلى    برنامج "مدارات" يسلط الضوء على مسيرة المؤرخ والأديب الراحل عبد الحق المريني    تداولات بورصة البيضاء تتشح بالأحمر    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    4.2 مليار درهم عائدات الضريبة على المركبات في 2024    تأجيل الجمع العام للرجاء الرياضي إلى غاية السابع من شهر يوليوز    الصحة والنزاهة على طاولة واحدة .. ورشة تسائل التوريد والممارسات الطبية    في المغرب .. الفاشلون يطاردون المتفوقين عبر ساحات التنمر الإلكتروني    الوداد الرياضي يختتم تحضيراته قبل مواجهة السيتي    رونالدو يهدي قميصه لترامب برسالة غير متوقعة        رئيس الحكومة يؤكد على مكانة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في النموذج التنموي    أمطار رعدية مصحوبة بتساقط للبرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الثلاثاء بعدد من مناطق المغرب    الصويرة ترحب بزوار مهرجان كناوة    طنجة الدولية.. اختبار فرضيتي التحول والتفاعل    الذهب يصعد وسط القتال بين إسرائيل وإيران ودعوة ترامب لإخلاء طهران    مجزرة جديدة تحصد أرواح المجوعين.. مقتل 47 فلسطينيا بنيران إسرائيلية قرب مركز مساعدات في غزة    هلال: المغرب يلتزم بالتصدي للكراهية    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    ترامب يقول إنه يريد "نهاية فعلية" للنزاع بين إسرائيل وإيران "وليس وقف إطلاق نار"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    موازين 2025… أزمة توزيع المنصات تثير استياء الجمهور    الأمير مولاي رشيد يترأس الجمع العام الاستثنائي للجامعة الملكية المغربية للغولف    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    د محمد صبري : الصيدلة دعامة أساسية في الرعاية الصحية القريبة من المواطن..    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    نصائح ذهبية لحماية المسنين من ارتفاع الحرارة    "أرواح غيوانية" يُكرّم رموز المجموعات الغيوانية ويُعيد أمجاد الأغنية الملتزمة    برلماني يطالب بالتحقيق في صفقات "غير شفافة في مستشفى ابن سينا الجديد        فقدان حاسة السمع يرفع خطر الإصابة بالخرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإصلاح الدستوري واللغات الوطنية

تعيش أقطار العالم العربي بكل طوائفه وأعرافه، سواء في شمال إفريقيا أو في الشرق الأوسط أو في الخليج، منذ بداية هذه السنة تحولات اعتبرها أكثر من ملاحظ أنها كانت فجائية بزخمها وقوتها، وذلك بفضل ديناميكية الشباب، الذي حرك أوارها؛ إلا أن المتأمل في دوافعها لا يمكن إلا أن يقر أنها صرخة منطلقة من تراكم الخيبات والأمراض الاجتماعية المتفشية في جسم المجتمعات المذكورة، وما عاشته من نكسات وهزائم في ظل أنظمة تسلطية لم يكن همها الأساسي إلا مراكمة الثروات وتوظيف اقتصاد البلاد لتنمية قواعد ثرائها الفاحش، على حساب مصالح مجموع الشرائح الاجتماعية.
بدهي في تاريخ الشعوب أن تُحْدِثَ كل انتفاضة أو ثورة تحولات عميقة في بنية مجتمعاتها وتصوراتها وأهدافها ورغباتها، وفي هوية ثقافتها ولغتها أو لغاتها، وهذا ما يفرض في آن واحد لحظات للتأمل في مسارها التاريخي، ومجمل العوائق التي حالت دون نهضتها وانتكاساتها الموجعة، وأسباب تخلفها عن سياق العصر، لتنكبَّ بتفكير سليم وجديد مغاير لتحليل كل الممارسات السابقة المعوقة لتطورها وتقدمها، حيث ينصب على التربية والتعليم ومستوى المعارف والعلوم، وكيفية تطويرها لجعل التغيير يستند على ركائز علمية من أجل تدبير سليم للانتقال إلى مرحلة جديدة لا يستقيم عودها إلا بتغيير جذري، لا في المفاهيم فقط، بل وفي العقليات والذهنيات والممارسات المتخلفة.
منذ خطاب جلالة الملك في التاسع من شهر مارس، الذي يؤرخ لبداية مرحلة التغيير، لم يعرف سقف المطالب إلا صعوداً، ولم يتوقف بعد، ويمكن القول إنه ولأول مرة في تاريخ المغرب الحديث، اندفعت الآراء والأفكار في الساحة الوطنية بشكل غير مسبوق لتعبر عن اقتناعاتها وتوجهاتها، حيث اختفت اللغة الخشبية المعهودة ليتم التعبير عن مكامن الضعف والخلل بصراحة مطلقة؛ مما يعد مكسباً وطنياً يسجل للتاريخ.
لقد جاء الخطاب ليدشن عهداً جديداً على قاعدة رؤية جديدة لمواد الدستور من حيث المضامين والمحتوى والتوجهات، ومن دون تكوين مجلس تأسيسي؛ أعتبر شخصياً أن الأوراق التي قدمتها الأحزاب السياسية والنقابات وجمعيات المجتمع المدني، على اختلاف مشاربها تعد بديلاً عن أي مجلس تأسيسي، لأنها تعبر عن الإرادة الشعبية التي ظهرت مطالبها المشروعة في الشارع وليست في الأقبية أو الكواليس، ولم يعد الآن أمام اللجنة الدستورية وخبرائها والقانونيين إلا صياغتها في أفق ترسيخها في مواد واضحة غير قابلة للتأويل، وهذا هو المنتظر.
بعد هذا التقديم الذي يندرج في صلب الاهتمامات الراهنة، أعود لما هو مرتبط بهذه الجلسة العلمية وهو من جملتها، أي المسألة اللغوية ووضع اللغات الوطنية، والإشكالات التي تطرحها لمغرب الغد، وكيف يمكن ضمان الاستجابة للمطالب اللغوية التي تم التعبير عنها شفوياً أوتنظيراً أو علمياً، أو من منطلق لغوي صرف خلال الأشهر الأخيرة، بغض النظر عن خلفياتها الإيديولوجية أو اقتناعاتها الفكرية.
ما يلاحظ في ضوء جل الكتابات التي تناولت المسألة اللغوية سواء ما تعلق منها بوضع اللغة العربية، أو اللغة الأمازيغية، أنها اتسمت بالعنف والعنف المضاد والإثارة والتوتر، وتغييب ما هو موضوعي على حساب ما هو ذاتي، دون مراعاة القواسم المشتركة حضارة وتاريخياً ولغة، ودون مراعاة المصلحة الوطنية، ودقة المرحلة التي تطلب حواراً وطنياً من أجل رؤية مستقبلية على قاعدة التوافق الإيجابي، مهما كانت الصيغة المرتقبة لما سيكون عليه وضع اللغات الوطنية في الدستور المغربي القادم، لأن ما هو أساسي هو الحفاظ على التوحد والوحدة في ظل الاختلاف والتعدد.
تؤكد أغلب الدراسات السوسيولغوية بما فيها أبحاث الاقتصاديين أن من مظاهر تخلف عدد من المجتمعات في العصر الحديث يكمن في تعثر لغاتها الوطنية وإقصائها من التداول المعرفي والعلمي والتكنولوجي. ولقد أسهمت المرحلة الاستعمارية بمخططيها ومفكريها في ترسيخ الرؤية الدونية للغة العربية في علاقة وطيدة بالأهداف المحددة والمقررة، إذ كانوا يرون في اللغة العربية عامل توحد وتوحيد، لا على مستوى المجتمع المغربي فقط، بل في علاقته الوطيدة بمجتمعات الشعوب العربية، وهذا ما تزخر به جل الكتابات الاستعمارية في مجال اللغة، وتدخل في سياق الفكر اللغوي الأوروبي، من منطلق نظرية عنصرية شوفينية تقسم اللغات العالمية إلى مراتب، لغات لا تملك أي بنية نحوية، ولغات تستعمل لواحق، ولغات صوتية، وبهذا التصور تحتل اللغة الهندوالأوروبية قمة الهرم على حد تعبير جورج مونان (George Mounin) في نقده لهذه الرؤية التي استطاعات أن تستمر خمسين سنة على الأقل، إلا أن خيوط شعاعها لا يزال حاضراً على الآن.
يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى كتاب لوي جان كالفي (louis jean calvet) (اللغة والاستعمار) لاستكشاف مدى الاحتقار لكل اللغات الوطنية وفي مقدمتها اللغة العربية، وتعد مقولات وليام مرسي حول مفاهيمه للغة العلم والحضارة والحداثة نموذجاً، إذ لم يكن يقبل حتى بالازدواجية اللغوية وهذا ما أكده بقوله: “إنه لمن العسير والمتعذر أن تتعايش لغتان حضاريتان لفترة طويلة في بلد واحد، وليس من المنطق أن يستمر هذا الواقع”، في الوقت ذاته كان جون دوفري دومنبيس في أطروحته “عمل فرنسا في المغرب” يقول بصريح العبارة: “من الخطر أن نترك كتلة ملتحمة من المغاربة تتكون ولغتها واحدة وأنظمتها واحدة، لابد أن نستعمل لفائدتنا العبارة القديمة (فرق تسد). إن وجود العنصر البربري (هكذا) هو آلة مفيدة لموازنة العنصر العربي، ويمكننا أن نستعمله ضد المخزن نفسه”.
تبدو المفارقة العجيبة بين موقف مرسي ودومنبيس، فالأول يرى أن لا مكان لتعايش لغتين لمسايرة الحضارة، بينما الثاني يسعى لإحياء لغة وطنية لا لدعمها، بل لخلق نزاع داخلي وسط المغاربة من جهة، ووضع سلطة المخزن على حد قوله في مأزق سياسي من جهة أخرى، ولم يكن يعي هذا الأخير تاريخياً وحضارياً أن التعايش هو الممكن والقابل للحياة في ظل المكونات الحضارية، وأن التعدد اللغوي من مقومات المجتمع المغربي وهويته الأصيلة.
ما المقصود بالهوية الأصيلة ؟
ما يميز المجتمع المغربي هو تعدد منابع ثقافاته وتنوع لغاته الوطنية: الأمازيغية بتشكلاتها، والعربية الوافدة والحاملة معها لرسالة الإسلام لتصبح إرثاً مشتركاً بين سكان بلدان شمال إفريقيا التي لم تكن تفصلها حدود سياسية، وساهم هذا الإرث إلى حد بعيد في ذوبان الفوارق الإثنية حيث صار التشبع باللغة العربية والتكوين نحواً وصرفاً وبلاغة وثقافة قيمة مضافة أدت إلى ظهور فقهاء وعلماء وفلاسفة وشعراء وكتاب وسياسيين أمازيغ، وقد أبدعوا فيها إبداعاً فاق متكلميها وناشريها في أغلب البقاع. من هذه الوجهة يمكن القول إن هوية جديدة قد تشكلت عبر التاريخ، دون التخلي عن اللغات الأصيلة التي ظلت متداولة شعبياً بكل لهجاتها، إلا أنها لم ترق إلى المستوى العلمي والأدبي الذي يهيئها لمسايرة اللغة العربية الوافدة، مع العلم هنا أن الأمر لا يتعلق بذات اللغة الأمازيغية، بل بأصحابها الذين لم يهتموا بآلياتها اللغوية، إلا أنهم حافظوا على أدبياتها، كما لا يمكن الحديث هنا عن اكتساح لغوي ما دام قد صار اختيارياً، فرضه الوازع الديني لكونه أصبح بدوره مشتركاً، ولم ينشأ عن هذا التوجه أي تنازع لغوي يذكر، والتاريخ اللغوي في المغرب لا يتحدث عن وجود نزاع أو صراع بين اللغات الأصلية، وما هو وافد، إذ ما يلاحظ هو وجود رغبة ملحة وهادفة للتضلع في اللغة العربية وثقافتها والذهاب إلى روافدها الأصلية للمزيد من المعرفة اللغوية والأدبية لترسيخ هوية جماعية مكتسبة، تقود إلى التوحد، وتراكم المعارف في إطار ما يعرف بالغرب الإسلامي، والإنجازات المرابطية والموحدية علامات بارزة في هذا الصدد، مما يجعلنا نردد بمنظار المرحلة قولة ابن خلدون: “إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم”.
لم تكن لتحدث هذه الغلبة لولا التمازج بين مجمل العناصر التي استقرت بأقاليم البلاد بجهاتها الأربعة، مما فرض تاريخياً الانصهار والتوحد، وأصبح العامل الديني يشكل قاعدة مشتركة بينهم، مما ساعد على اختفاء الانتماء العرقي ليحتل مكانه الانتماء الوطني في كل المواقع الجغرافية المحددة لمعالمه. نتج عن هذا التمازج والانصهار الاختلاط الإيجابي بين العناصر الأمازيغية المعربة والعرب المتمزغة، وهذا ما كََوَّن طبيعة الهوية المغربية عبر التاريخ المتجلية في الدفاع عن الأرض، والقيم المشتركة، منذ المعارك الأولى لنشر الإسلام إلى معركة الاستقلال والدفاع عن حوزة الوطن.
عندما أسأل من أنا ؟ فالإجابة التلقائية والعفوية أني مغربي، وهذه المغربية هي جوهر الهوية التي تحكم علاقتي بالآخر، بغض النظر عن اللغة التي أتكلمها، فالهوية بهذا المفهوم جماعية إلا أنها لا تتنكر للخصوصيات والاختلاف وحسب طبيعة المجتمع ومكوناته.
يقودني هذا المدخل للحديث عن وضعية اللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية باعتبارهما من مكونات الهوية المغربية.
اللغة العربية
لقد أسهمت اللغة العربية في المغرب عبر تاريخها الطويل في تكوين رؤية ثقافية وحضارية عن العالم بأدب وفكر مكتوبين وبأشكال مختلفة، لا في ارتباطها فقط بالمحيط المغربي، بل بالجغرافية الواسعة للأقطار المتكلمة باللغة العربية، وما هو أبعد منها، تجاوزت بها حدود الإقليمية والإثنية، وشكلت بذلك هوية ثقافية استوعبت الثقافات المحلية دون إلغائها، ودون المس بالمعتقدات (أقصد هنا أقطار الشرق العربي التي حافظت على ديانتها المسيحية) وتقاليد الخصوصيات؛ وهذا ما يفسر الانفتاح على تعلمها والتكوين بها، والدفاع عنها. يمكن الإشارة هنا إلى أن أهم السمات التي أدى إليها هذا الانفتاح هو إحداث تأثيرات مشتركة وتداخلات تشابكت معطياتها التاريخية لإضفاء الشرعية على ما هو قائم ومتداول وموافق للطموحات الآنية.
عندما يتأمل المرء أوضاع اللغة العربية في مغربنا قبل الحماية وما بعد الاستقلال فإن أهم ما يلاحظ هو حالات الإقصاء والتهميش، ووجود جوقة بنغمات متشابهة لإبعادها عن المنظومة التعليمية وتوسيع نطاق العداءات، وإحداث عن سوء نية أعطاب وثغرات في أي مشروع يراد به النهوض باللغة الرسمية للبلاد، ويتداخل في هذه الجوقة ما هو مؤسسي/ الدولة، وما هو نخبوي في ارتباط وثيق بثقل توجهات الحماية وأهدافها، فهي لم تخلف فقط استمرار العداء في أفق تقليص دورها وفعاليتها، بل تغذت بإرثها الذي استبد بأكبر عدد من الرموز الوطنية، وهذا ما يفسر التخبط اللغوي المقصود سواء في مشاريع التعريب التي لم تكن تعتمد أي تخطيط علمي، أو المشاريع ذات الارتباط بالتعليم في جميع مراحله.
لن أقف عند مختلف التجارب المرتجلة، التي عرفها المغرب في مجال التعليم أو تعريب الإدارة خلال خمسين سنة، ما دام الميثاق الوطني للتربية التكوين (1999) انتهى إلى مجموعة من الخلاصات والقرارات التي لم تعرف بدورها طريقها إلى التطبيق، وبالأخص ما يتعلق باللغة العربية، وهنا يكمن إشكال الأزمة التي نعاني منها مع العلم أن الدستور المغربي ينص بأنها اللغة الرسمية للبلاد.
يمكن أن نتحدث عن الهدر الزمني بدلا من الحديث عن الهدر المدرسي، هدر تقف وراءه نيات مبيتة، عندما بدأ الحديث مثلا عن تعويض اللغة العربية الفصيحة بالعامية، إلى درجة أن هناك من يدعو إلى ترسيمها لتصبح مادة للتعليم والتربية في المدارس، أي العودة إلى آراء المستشرقين منذ القرن التاسع عشر.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى إظهار أن اللغة العربية غير مؤهلة للممارسة التعليمية والعلمية، وذلك لإحلال مكانها ازدواجية مشوهة، تبعد المغاربة عن هويتهم وخصوصيتهم، فضلاً عما تؤدي إليه هذه التوجهات من أعطاب، لا على مستوى التعليم والتربية فقط، بل في كل ما يمس مجالات التنمية والإنتاج الوطني.
وبالمقابل إن التحولات العلمية والتكنولوجية التي يعرفها العالم لا تنحو فقط إلى تعلم اللغات واكتسابها للانفتاح على عوالم الكون المعاصر، بل أدت أيضاً إلى التشبث بقيم المواطنة والتحرر والوعي بأهمية اللغات الوطنية، إذ لا نهضة مجتمعية وإبداعية وعلمية من دونها للحفاظ على الوحدة الوطنية وهويتها، ولما يشكل وجودها من ثقل تاريخي وحضاري.
وإجمالا يمكن القول ونحن نعيش عصر التحولات إن الاختيارات السياسية ذات الطابع الوطني والمطروحة حالياً على بلادنا ليس أمامها إلا التأكيد على ما يدعم السيادة الوطنية وترسيخ هوية مواطنيها وكرامتهم، والدولة في هذا المضمار أمام مسؤولية تاريخية لبلورة الاختيارات السياسية المعبر عنها للحفاظ على الوحدة الوطنية فيما يتعلق بالمسألة اللغوية وفي مقدمتها تفعيل اللغة الرسمية للبلاد بجانب اللغات الوطنية في أفق دسترتها بما يحافظ على الوجود في مختلف ميادين المعارف والتعليم والإعلام والفنون والحياة العامة.
اللغة الأمازيغية
تعتبر اللغة الأمازيغية من مكونات المشهد اللغوي المغربي والهوية الوطنية لما تشكله جغرافياً من حضور يشمل منطقة الريف التي تتكلم الريفية، ومنطقة جبال الأطلس المتوسط التي تتكلم تامزيغت، ومنطقة الجنوب وجبال الأطلس الكبير التي تتكلم تاشلحيت، هذا بالإضافة إلى الأقاليم الصحراوية التي تتكلم الحسانية؛ وبمحاذاة هذه اللهجات سادت اللهجة العامية المغربية المقتبسة بكل تنوعاتها من اللغة العربية الفصيحة لتصبح بدورها قاسماً مشتركاً بين مجموع الشرائح الاجتماعية.
تعد هذه اللهجات تاريخياً من اللغات الوطنية، ومن معالم الوجه الحضاري للمغرب مترسخة في الذاكرة الشعبية، مما أهلها أن تحافظ على وجودها بكل تصوراتها وتمثلاتها أدباً وتراثاً، وشكل استمرارها عبر القرون قيمة مضافة لأوجه الثقافة المغربية؛ إلا أن هذه اللهجات لم تتمكن من مسايرة التطورات اللغوية، بسبب غياب البحث اللساني القادر على معالجة آلياتها اللغوية – في سياق تطورها التاريخي- نحواً وصرفاً ومعجماً، إذ ظلت متداولة في محيطها الشعبي الذي حافظ على تراثها شفوياً، مع وجود مخطوطات كثيرة بالحرف العربي.
يمكن القول في هذا الصدد إن هذا العطب اللغوي في آليات اللهجات الوطنية لم يكن ليحول دون الدعوة إلى إحيائها وتنميطها أو معيرتها، لا في ضوء دراسات لسانية أو سوسيولسانية حديثة، بل في مجال كل الأبحاث الحقوقية والاقتصادية التي عرفها القرن العشرون، وبداية هذا القرن بكل تحولاته، حيث أضحت اللغات الوطنية من ركائز الهوية جماعياً أو فردياً، إثنياً أو وطنياً، هذا بالإضافة إلى دورها الأساسي في التنمية والإنتاج، فضلاً عن قيمتها الإبداعية وما تزخر به من تراث هائل.
لقد استطاعت هذه التوجهات الحديثة أن تفرض إعادة النظر في أوضاع اللغات الوطنية لتأهيلها بالبحث والدراسة، وهذا ما تصدى له الباحثون الأمازيغيون منذ خطاب الملك بأجدير، والإعلان عن إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيعية، وذلك لبلورة وعي وطني بأهمية اللغة الأمازيغية وثقافتها، ولأنها فوق هذا وذاك من مكونات الحضارة والثقافة المغربية.
لقد تبلور هذا الوعي بامتياز في الساحة السياسية والثقافية، ولم يعد أحد ينازع في أحقية اللغة الأمازيغية وثقافتها في الوجود، وكذا إدراجها في المنظومة التربوية والتعليمية، والسعي الحثيث لتحتل مكانتها في الفضاء الإعلامي السمعي والبصري، مما يساعد على إشعاعها في المجال الاجتماعي.
لقد خطا المعهد خطوات متوالية لتأهيل اللغة الأمازيغية خلال عشر سنوات في إطار تنميطها وتوحيدها ومعيرتها، وأهل المعهد يعترفون في آن بأنهم يعتمدون مقاربة علمية تقوم على مبدإ التدرج، وتدبير التنوع اللغوي للنهوض بها في التعليم، وأمامه إشكالات كما يقرون بذلك، تتلخص فيما يلي:
- الحاجة إلى وضع مخطط استراتيجي وطني لتدبير تدريس الأمازيغية.
- أجرأة النصوص التنظيمية الخاصة بالتدريس وإلزامية تطبيقها.
- تحقيق المبادئ المرتبطة بمنهاج تدريس الأمازيغية وخاصة مبدإ التعميم الأفقي والعمودي ومبدإ التوحيد.
- إيجاد مناصب مالية للأطر المكلفة بتدريس الأمازيغية في كافة مستويات التعليم.
كل هذا الإشكالات لا تزال مطروحة، وأعي أن فترة عشر سنوات غير كافية لتهيئة لغة في مرحلة انتقالها من الشفوية إلى الكتابة، ثم لتصبح لغة التعليم والتربية والعلم والحضارة، وهي بذلك تحتاج إلى جهود مضاعفة باعتبارها لغة وطنية، وتوفير كل الشروط الموضوعية لتحتل مكانتها بجانب اللغة العربية؛ وهذا ما يجعلني شخصياً أقدر الظروف الآنية بتكاليفها وإرهاصاتها، وأي تنصيص في موضوع الدسترة عليه مراعاة هذه الإشكالات وكيفية التغلب عليها بقانون ملحق، وإعمال العقل، والتحلي بكل ما هو علمي وعقلاني وموضوعي.
لا شك أن المطالبة بالتغيير والاحتجاجات المعبرة عنها في بلادنا، وبتناغم مع ما يجري في البلدان العربية منذ بداية أيام هذه السنة الجارية بكل تحولاتها الطارئة والمفاجئة، أدت إلى إحداث هزات عنيفة في جسم المجتمعات العربية، وأسهمت في قلب مفاهيم كثيرة وأعادت النظر في الساكن والثابت ليصير متحولا ناطقاً بطموح أكبر.
من بين القضايا المثارة مجدداً قضية اللغات الوطنية، وقد طرحت بحدة وأحياناً بعنف، وذلك لإيجاد صيغ ملائمة لأوضاعها وتهيئتها ما دام الحوار حولها صار مرتبطاً بوضع دستور جديد لضمان إشعاعها، من منطلق أن اللغة ترتبط بالشخصية الوطنية مما يحدد هويتها ومعالم وجودها، وفوق هذا وذاك فإن الانتقال باللغة إلى الدسترة يعني إضفاء الصبغة التشريعية والقانونية، مما يفرض وضع تخطيط لغوي يؤدي إلى التهيئة والتأهيل وتحديد وظائفها في التعليم بأسلاكه، وفي الإدارة والإعلام والحياة العامة وعلاقاتها باللغات الأخرى فيما يعرف بالتدبير اللغوي القائم على الازدواجية أو التعددية اللغوية.
وينبغي الإشارة هنا أيضاً إلى أن دسترة اللغة وطنياً أو ترسيمها يستدعي تشريعات إضافية معقلنة وقوانين تنظيمية تنسجم وروح الدستور في أفق الإعمال والتفعيل، أي استعمالها في المرافق العامة ليشكل حضورها عاملاً من عوامل الاستقرار المنشود في ظل السلم الاجتماعي وأمنه، مما يسهم في توحيد الأهداف الوطنية.
اللغة الوطنية أو اللغات الوطنية
ليس من السهل فيما يتعلق بالمسألة اللغوية وإشكالاتها، تحديد موقف ما، ما لم يتم التدقيق في ماهية المصطلحات وتعريفاتها في ضوء الدراسات السوسيولسانية والأبحاث الميدانية ذات الصلة باللغات، وذلك من أجل إيضاح طبيعة القرارات الدستورية وأشكالها لتنسجم وطبيعة المرحلة وخصوصياتها.
نجد أنفسنا في هذا السياق وفي ظل الوضعية المغربية أمام مصطلحات كبيرة منها: لغة الأم واللغة الأم، واللغة الوطنية، واللغة الرسمية، واللغة المحلية، واللغة العامية المشتركة المتداولة في المحيط الاجتماعي.
سنحاول في هذا الصدد، تقديم تعريفات لهذه المصطلحات للتمكن من إيضاح الصورة لأي قرار دستوري أو سياسي.
لغة الأم : – إنها اللغة الأولى التي يتعلمها الطفل منذ نشأته، ويحدث أن يتكلم بلغتين معاً في بعض المناطق مع وجود الغلبة لإحداهما، كما هو الشأن بالنسبة للريفية أو تمازيغت أو تشلحيت أوالعامية المغربية في ارتباطها باللغة العربية، لما ينتج عن كل منها من ثنائية لغوية، وحسب الوضع الاجتماعي والعائلي، ونحن في هذا التعريف نتحدث عن العام ولا نقف عما هو استثنائي. وتجدر الإشارة هنا أن لغة الأم يمكن أن تكون لغة وطنية أولغة رسمية، أو لغة محلية أو لغة عامية مشتركة بين أغلب الشرائح الاجتماعية، وفي هذا الصدد من حيث دقة المصطلح يجب التمييز بين لغة الأم واللغة الأم، فالأولى هي التي تم اكتسابها في البيت داخل الأسرة، والثانية، أي اللغة الأم هي ما يمكن إدخالها اصطلاحاً في نطاق اللغة الوطنية لارتباطها بالجغرافية، أي حدود الدولة السياسية، وحسب الوضع اللغوي لكل بلد، حيث يمكن اكتساب لغات جديدة بجانب لغة الأم.
اللغة الوطنية :- إنها لغة أمة أو شعب معترف بها دستورياً من لدن الدولة أو جماعات ممثلة لسلطات جهوية محافظة على إرث لغوي تدافع عنه، وترى في استعمالها وتداولها من منطلق الوحدة الوطنية، ولرغبتها في انتشارها بين مواطنيها الذين يتكلمون بها،وهذا حق من الحقوق اللغوية باعتبارها لغة الأم، إما في محيطها الجهوي أو الوطني، وبهذا المفهوم قد تختلف أصول اللغة الوطنية، وقد تكون ذات طابع إثني أو من أصول حضارية معرفية ارتبط بها سكان البلاد تاريخياً في بقعة جغرافية محددة، استطاعوا تشكيل وعيهم الوطني بها.
اللغة الرسمية: – إنها اللغة المتداولة في التعليم بأسلاكه، وفي الإدارة والإعلام، وتصدر بها المراسيم، لا بحكم الواقع فقط، بل لارتباطها بالشخصية الوطنية وثقافتها وأدبها وحضارتها، وقد تكون مكتسبة تعلماً، وتشكل بذلك قاسماً مشتركاً بين أفراد المجتمع لما لها من خصائص أدبية وعلمية وحضارية.
كما تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الدول ينص دستورها على ترسيم لغتين أو ثلاث لغات كما هو الشأن في سويسرا أو جنوب إفريقيا، أو ترسيم لغات في مناطق جهوية كما هو الحال في إسبانيا، وذلك لإيجاد توافق بين مكوناتها الوطنية.
ولكن ما يجب التأكيد عليه في هذا الصدد هو عدم إسقاط نماذج بخصوصياتها وإشكالاتها الإثنية والعرقية على واقع آخر متميز بواقعه التاريخي والثقافي المشترك؛ وما يزخر به وضعها الداخلي من تناقضات، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وهذا ما يجب مراعاته بدقة لإيجاد حلول واقعية منسجمة مع كل تطور قادم، لأن ما يقود الدولة في توجهاتها في نهاية المطاف هو بعدها السياسي وعلاقاتها بمحيطها الوطني والإقليمي والدولي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.