بنكيران في قلب عاصفة جديدة بعد تقرير عن إخفاء 30 رأسا من الغنم    انفجار يهز العاصمة الإسبانية مدريد ويخلف 21 مصابا    مدرب جزر القمر يتحدث عن مواجهة فريقه المرتقبة ضد المغرب    توقيف شاب بالقنيطرة بعد ظهوره في فيديوهات سياقة استعراضية تهدد سلامة المواطنين    قضية خيانة زوجية.. محكمة تستبدل الحبس ب 180 ساعة خدمة للمجتمع            الرجاء ينتصر على مضيفه الفتح بهدفين لصفر    آلاف النازحين من غزة مع استمرار الهجمات الإسرائيلية وتدمير المباني            قانون جديد يعيد تنظيم مهنة المفوضين القضائيين بالمغرب    ميناء الناظور .. انخفاض ب10 في المائة للكميات المفرغة من منتجات الصيد البحري    آلية جديدة لمراقبة مواظبة التلاميذ والأساتذة مع بداية السنة الدراسية    رسميا .. باشاك شهير التركي يضم أمين حارث على سبيل الإعارة حتى نهاية الموسم    حياة الكلاب..حياة الماعز    المطبخ المغربي يتألق في القرية الدولية لفنون الطهي بباريس    منظمة الصحة العالمية تسجل ارتفاع حالات الإصابة والوفاة بالكوليرا    دراسة : التدخين يزيد خطر الإصابة بالنوع الثاني من داء السكري    "باراماونت" تنتقد تعهد فنانين بمقاطعة مؤسسات سينمائية إسرائيلية    الخراطي يواصل قيادة جامعة المستهلك    كأس ديفيز.. المغرب يتقدم على جنوب إفريقيا بنتيجة(2-0)    بنهاشم: الوداد سيواجه اتحاد يعقوب المنصور دون تغييرات كبيرة    ابن الحسيمة الباحث عبد الجليل حمدي ينال شهادة الدكتوراه في الكيمياء العضوية    بنكيران: اشعر بخطر قصف اسرائيل لمقر حزبنا.. وعدم حماية الأنظمة العربية لمواطنيها يعني نهاية "البيعة"    قمة عربية وإسلامية في الدوحة.. حزم مع فلسطين وصرامة حيال إسرائيل    المغرب يستقبل 723 حافلة صينية استعدادًا لكأس أمم إفريقيا    شفشاون.. البحرية المغربية تنتشل جثة شخص قبالة شاطئ الجبهة    توقعات بارتفاع انتاج الزيتون وانخفاض أسعار الزيت    مجلس حقوق الإنسان.. منظمات غير حكومية تحذر من استمرار العبودية في مخيمات تندوف    ارتفاع حالات الكوليرا حول العالم    الجامعة المغربية لحقوق المستهلك مستاءة من الاختلالات في العلاقة التعاقدية بين الأبناك والمستهلكين    رئيس مجلس النواب يجري بهلسنكي مباحثات مع مسؤولين فنلنديين    كأس إفريقيا للأمم 'المغرب 2025': الكاف ولجنة التنظيم المحلية يحددان موعد انطلاق بيع تذاكر المباريات    ازدواجية الجزائر تتكشف.. تصويت نيويورك يكذب خطابها عن فلسطين: صوتت على قرار يطالب بإنهاء حكم حماس لغزة وتسليم أسلحتها            العثماني: تصريحات أخنوش تضمنت "معلومات خاطئة"        "العدالة والتنمية" يتهم رئاسة مجلس جماعة سلا بالتحايل في ملف "التعاونية القرائية"    أمريكا تؤكد مطابقة المصايد المغربية لمقتضيات القانون الأمريكي الخاص بحماية الثدييات البحرية (MMPA)    زلزال بقوة 7,4 درجات يضرب سواحل كامتشاتكا الروسية وتحذيرات من تسونامي    الفوضى وسوء التنظيم يطغيان على العرض ما قبل الأول لفيلم "كازا كيرا"    10 أشهر حبسا لمهاجر مغربي نشر صور أمنيين على مواقع التواصل    وفد صحفي إيطالي يستكشف مؤهلات الداخلة... الوجهة الصاعدة للاستثمار والتعاون الدولي    سفير المغرب يفتتح معرض الفن العربي بواشنطن بدعم مغربي    دراسة: "حمية الكيتو" قد تساعد في علاج الاكتئاب    كولومبيا.. جمعية الصحافة والإعلام توشح سفيرة المغرب بأرفع أوسمتها    حجز 260 وحدة من الشهب الاصطناعية المحظورة    كيوسك السبت | إحداث لجنة مشتركة لتتبع توفير الكتاب المدرسي في نقاط البيع        إسبانيا تتحرك لاحتواء بؤر إنفلونزا الطيور.. إعدام طيور وإغلاق حدائق    ناصر الزفزافي يرسل رسالة مؤثرة من داخل سجنه بطنجة بشأن جنازة الفقيد والده    الزاوية الكركرية تحتفي بإصدارات الشيخ محمد فوزي الكركري    أجواء روحانية عبر إفريقيا..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تحيي المولد النبوي    أمير المؤمنين يصدر أمره إلى المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة توضح للناس أحكام الشرع في موضوع الزكاة    الملك محمد السادس يأمر بإصدار فتوى توضح أحكام الشرع في الزكاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعبد رسول الله في غار حراء
نشر في أخبارنا يوم 03 - 04 - 2016


تحبيب الخلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم
تقول عائشة رضي الله عنها: "ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ".

وصياغة عائشة رضي الله عنها تُوحي أن تحبيب الخلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بعد الرؤيا الصادقة، التي كانت قبل البعثة بشهور ستة؛ بينما في رواية ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجاور -أي يعتكف- في غار حراء في شهر رمضان من كل سنة، فكان يختلي في غار حراء قبل الرؤيا الصادقة، فكيف الجمع بينهما؟

غالب الأمر أنه صلى الله عليه وسلم كان بالفعل يختلي في غار حراء بنفسه شهرًا في السنة لعدَّة سنوات قبل البعثة، وليس عندنا دليل ثابت يُحَدِّد عدد هذه السنوات، ويبدو أنه كان يأخذ معه طعامًا كثيرًا يعطي منه للمساكين الذين يذهبون إليه في هذا المكان البعيد فيتصدَّق عليهم؛ ونلحظ هذا في رواية عبيد بن عمير في ابن إسحاق حين قال: "فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلَّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ".

ولكن في الشهور الستة الأخيرة حُبِّب إليه الخلاء كما تقول عائشة رضي الله عنها، وهذا يحتمل أمرين:
أمَّا الأمر الأول فهو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم الآن مشتاقًا إلى الخلاء، محبًّا له، وكان قبل ذلك في مرحلة سابقة؛ وكأنه يدفع نفسه إليه، للتفكُّر في الله، وكيفية عبادته، أمَّا الآن في هذه المرحلة فقد صار محبًّا للخلاء، باحثًا عنه؛ ونحن في مراحلنا الإيمانية قد نمرُّ بمثل هذا، فقد نفعل عبادةً ما كالصلاة أو الصيام أو النفقة أو العمرة فقط لأن الله أمرنا بها، فهي بالنسبة إلينا كواجب يتحتَّم علينا فعله، ولكننا قد ننتقل إلى مرحلة إيمانية أخرى نشعر فيها بالحبِّ الشديد لهذه العبادة؛ حتى إننا ننتظر وقتها بفارغ الصبر، فهذا هو ما نقصده عند حديثنا عن حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلاء في المرحلتين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الحبَّ كان مخالفًا لأعراف الناس وطبيعتهم، فلم يكن هناك مَنْ يفعل ذلك من أهل مكة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة وأنَّ المكان الذي اختاره موحش وقفر ومخيف، وقد اشتُهِر في العرب أمر الجن والشياطين؛ فكانت هذه الأماكن البعيدة أماكن مرعبة لكل أهل مكة بشكل عام، هذا بالإضافة إلى أن الباحث عن الحقيقة لا يذهب عادة إلى مثل هذه الأماكن، بل يذهب إلى أهل العلم؛ ولكن هذا لم يحدث مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلم يذهب إلى ورقة بن نوفل، أو زيد بن عمرو، أو غيرهم ممن يتكلمون في أمور العبودية لله عز وجل؛ فكل هذا يُبَيِّن أنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى غار حراء ذهب ليعتكف مخالفًا بذلك طرق الناس وأعرافهم، وهذا الذي تحمله كلمة عائشة رضي الله عنها: "حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ". أي أنَّ الله عز وجل حَبَّب إليه أمرًا لا يحبُّه الناس في المعتاد.

وأما الأمر الثاني فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد ازداد حبًّا في الخلاء؛ حتى لم يَعُدْ يفعله في شهر رمضان فقط؛ إنما فعله عدَّة شهور من الشهور الستة السابقة للبعثة، ويُؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها: "ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا". ثم قالت: "حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ". فمعنى هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في فترة الرؤيا الصالحة كلها -أي في كل الشهور الستة- يُكرِّر العودة إلى غار حراء للخلاء، وأن هذا استمر حتى لحظة مقابلة الملك. ويُحتمل الأمران معًا.

والسؤال هنا: ماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم في هذه الخلوة؟
تقول عائشة رضي الله عنها: "فيتحنَّث". ثم يفسر ابن شهاب الزهري رحمه الله -على الأغلب- هذه الكلمة بقوله: وهو التعبد .

وبعض العلماء ينسب هذا التفسير إلى "عائشة رضي الله عنها.
وما التحنث الذي وصفته "عائشة رضي الله عنها؟

واضح أن العرب في الجاهلية كانوا بشكل عامٍّ يؤمنون أن الله هو خالق هذا الكون وخالقهم، ولم يَدَّعِ أحد أن اللات والعزى أو هُبل أو غيرها من الأصنام خلقت السماوات والأرض، أو خلقت الإنسان؛ يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان: 25]. لكن العرب كانوا يعبدون الأصنام لكي يتخذوها شفعاء عند الله، أو ليتقربوا بها عند الله؛ قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [يونس: 18].

أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فكان يُبغض هذه الأصنام، ويُدرك أنها ليست الطريقة السليمة للوصول إلى الله عز وجل، وظهر هذا البغض للأصنام في قصة حياته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في أكثر من موقف؛ منها: ما كان من حواره مع خديجة رضي الله عنها قبل البعثة -على الأغلب- حين قال لها: "أَيْ خَدِيجَةُ، وَاللهِ لاَ أَعْبُدُ اللاَّتَ، وَاللهِ لاَ أَعْبُدُ الْعُزَّى أَبَدًا". فردَّت عليه خَدِيجَةُ: خَلِّ اللاَّتَ، خَلِّ الْعُزَّى.

والعلماء مختلفون حول توقيت هذا الحوار، وهل هو قبل النبوة أم بعدها؟ والذي أراه أنه قبل النبوة؛ لأن خديجة رضي الله عنها تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خلِّ اللات، خل العزى. أي اترك اللات والعزى، ويصعب أن يكون هذا هو ردُّ فعلها إن كانت تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نبوته؛ لأنه ليس من المناسب أن تتوجَّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه النصيحة، وهو الذي صار إمام الموحدين.

ويشهد لبغضه صلى الله عليه وسلم للأصنام -أيضًا- موقفه مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، وكان هذا قبل البعثة، فعن زيد بن حارثة رضي الله عنه قال: "وَكَانَ صَنَمَانِ مِنْ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُمَا: إِسَافُ وَنَائِلَةُ. فَطَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -أي بالكعبة- وَطُفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا مَرَرْتُ مَسَحْتُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَمَسَّهُ". وَطُفْنَا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لأَمَسَّنَّهُ أَنْظُرُ مَا يَقُولُ. فَمَسَحْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَمَسَّهُ أَلَمْ تُنْهَ؟" قَالَ: فَوَالَّذِي أَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ مَا اسْتَلَمَ صَنَمًا حَتَّى أَكْرَمَهُ بِالَّذِي أَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ".

فكان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الغار يتفكَّر في خالق هذا الكون؛ لكنه لم يكن يعرف على وجه الحقيقة كيف يعبده، ولا على أي شريعة، ولعلَّ هذا هو أحد المعاني في قوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7].

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن الكون له خالق وله ربٌّ، لكن لم يكن يعرف على أي شريعة يعبده، وبأي طريقة يتقرَّب إليه، خاصة أن شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصحيحة كانت قد اندثرت في معظمها عبر السنين، وهذا هو تفسير الضلال في الآية، وقريب من هذا المعنى -أيضًا- ما قاله الله سبحانه وتعلى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. فالآيات تُوَضِّح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لم يكن يدري ما الكتاب، وما الإيمان؛ ولذلك كان يجلس في غار حراء يتفكَّر في هذا الكون وخالقه، وكيف تكون طريقة الإيمان به.

والحق أنه من العجيب أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يبحث في شرائع النصرانية عند ورقة بن نوفل، ولم يبحث في عقيدة الحنيفية عند زيد بن عمرو بن نفيل، ولم يبحث في شرائع اليهود عند يهود يثرب، وبها أخواله صلى الله عليه وسلم، وكان من الممكن أن يُسافر إلى هذه البلاد ليسمع منهم، فأنا أرى أن هذا من حِفْظِ الله تعالى له؛ حتى لا يقال: إنه نقل عنهم. كما أن عقيدتهم شابها التحريف الشديد؛ ولذلك أراد الله سبحانه أن يحفظ رسوله من هذا التحريف، وأبقاه في غار حراء هذه الفترة يتفكَّر في خالق الكون دون أن يُفَكِّر في سؤال هذه الطوائف عن عقيدتها.

تفكر رسول الله في غار حراء
وكان صلى الله عليه وسلم من هذا المكان في غار حراء يُشاهد الكعبة؛ ذلك البيت المقدَّس الذي يعلم -كما يعلم كل العرب- أنه بيت الله الحرام، وأن له مكانة عند الله وحرمة لا يُدانيها أي مكان آخر في الدنيا؛ ولعلَّ هذا هو السرُّ من وراء اختيار غار حراء تحديدًا؛ لأن الذي يجلس في هذا الغار -وإن كان بعيدًا عن مكة بدرجة كبيرة- يستطيع أن يرى بوضوح بيت الله الحرام من هذا المكان النائي.

ولعلَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يتفكَّر -أيضًا- في هذا الغار في طريقة إصلاح هذا المجتمع الفاسد، الذي انتشرت فيه عادات قبيحة كثيرة؛ كان من أهمها السجود للأصنام من دون الله عز وجل، وكذلك طغت كثير من العادات القبيحة على معاملات الناس، فظهر الظلم، والجور، والإباحية، وشرب الخمور، وإهانة طوائف كثيرة من طوائف المجتمع الضعيفة.

ومع أن هذا الاختلاء كان يُريح نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من الواقع البغيض الذي كانت تعيشه مكة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك طوال السنة؛ إنما كان يفعله في أوقات معينة، وكما تقول الروايات أنه كان يختلي بنفسه شهرًا في السنة، وهو شهر رمضان، وبعد البعثة لم يَعُدِ الرسول صلى الله عليه وسلم يختلي في غار حراء؛ ولكنه عاد إلى هذا الاختلاء بشكل مخفَّف في المدينة عندما بدأ سُنَّة الاعتكاف، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف عشرة أيام في شهر رمضان من كل سنة، أحيانًا تكون العشرة الوسطى، وأحيانًا تكون العشرة الأخير، وأحيانًا أخرى أجلَّها إلى شوال فاعتكف عشرة أيام في شوال.

وهو بذلك صلى الله عليه وسلم يفتح بابًا مهمًّا للدعاة لكي يحافظوا على نقاء نفوسهم دون أن يُخِلُّوا بمهمَّتهم؛ فهم يختلطون بالناس ليدعوهم ويعلموهم ويأخذوا بأيديهم، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ".

ولكن في الوقت ذاته ينبغي للدعاة أن يكونوا حريصين على الاختلاء بأنفسهم، ولو أيامًا معدودة في السنة؛ لكي يُعيدوا ترتيب أوراق حياتهم، ولكي يتفكَّروا في خالقهم، وينظروا في أمور أنفسهم، ويُصلحوا من أحوالهم؛ لكي تكون لهم القدرة بعد ذلك على إصلاح أحوال الناس.

وقبل أن نغادر هذه النقطة لا بُدَّ لنا من وقفة مع موقف خديجة بنت خويلد رضي الله عنها من خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهي كانت تُساعده فيها؛ مع أن الأمر مستغرب في مكة، وليس معتادًا بين الناس، ومع أنها رض الله عنها لا شك كانت مضرورة بغيابه؛ فزوجها يتركها شهرًا كاملاً، لا يعود إليها إلا بضع ساعات يتزوَّد فيها لرحلة جديدة، ومع أنه من الطبيعي أن تخاف عليه وهو في ذلك المكان الموحش، فإنها كانت تُشَجِّعه وتُسانده، وهذه -في الحقيقة- صفة من أهم صفات الزوجة الصالحة، حيث تقف مع زوجها فيما يحبه، وتُؤَيِّده وتُشَجِّعه، وتكون عضدًا له في اختياراته؛ فهذا -لا شكَّ- من أقوى الأمور التي تجعل الرابطة بين الرجل وزوجته من أقوى الروابط مطلقًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.