وأجد نفسي وسط صراخ هذه المظاهرات، ورفرفات الأعلام وتورد الشعارات، أجدها حائرة متسائلة: هل تنقضي هذه الليلة في بلدي كما تنقضي الليالي الأخرى من الأيام العالمية المخلدة للأعياد والرموز والتواريخ.. كما ينقضي يوم المرأة، ويوم اللغة العربية، وعيد الحب... ! يقال في بلدي إن من يصرخ في دقيقة يهدأ لساعات طوال، ومن يصرخ لساعة يهدأ لأيام مديدة، فهل نقول من يصرخ في بلدي في يوم يهدأ لعام كامل! قد نقولها، حين نحس الهدوء، فكيف لا نؤكدها حين نغوص فيه ! والهدوء هنا معلم من معالم الفشل والركود، كما يعد الصراخ اليوم رمز من رموز التمرد وقوة الإرادة الموحدة للأفراد. أجل، قد نؤكدها حين نرى الوجوه اليوم مترنمة صارخة عكس الماضي والمستقبل القريبين.. !
فإذا كانت للمرأة يوم عالمي، فهذا باعث للرجال ولها كي ينهضوا من أجل الأنثى في باقي الأيام طالبين لحقوقها ومستحقاتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وليس لنهوضهم في يوم وركودهم في سنة إلا يوم أو بعضه، وإذا كان للغة العربية ذاك اليوم أيضا، فهذا دافع لأصحابها في الوقوف في سبيلها حتى تسترد مكانتها العظيمة في العلم والأدب والواقع، وليس لوقوفهم في يوم وقعودهم لسنة إلا بعضها، وإذا كان للحب عيد مخلَّد، فهذا عامل لحب الأطراف بعضهم بعضا على طول الأيام حبا صادقا نابعا من روح الإنسان السوي، وليس لاصطناع أحدهم بسمة في وجه المحب يوما وارتداء ثياب تجهم قربه دهرا. وعيد العمال والعمل، يوم الشغل والشغيلة، لا ينبغي أن تنجلي ليلته دون رسم مخطط لانتفاض من أجل العمال ذاتهم ولحقوقهم في الأيام الآتية وليس ليوم تظهر في أفقه غبطة المصلحة وعويل الجشع كما تنتهي أيام الأعراس المزيفة التي تواري وراء لياليها سنينا من المعاناة والضجر.
لا ننكر أن هناك من يناضل بهدوء من أجل حقوقه ومكتسباته، لكن هذا المناضل الهادئ يشعل مئات الأفراد صداحا بهدوء إنتاجه، فأين هؤلاء الصداح المشتعلين لندرك وجود المنتجين الهادئين.. !
إن الحقوق والمكتسبات والمطالب لا تتأتى بالخطابات العابرة والصراخ المندثر وتظاهر أبناء السبيل النضالي، ولا تتحقق بحلم يتبدل بين الليالي وحقيقة تتغير بين الأيام. نحن فقط بحاجة لصدق النضال وإخلاص العمل، وتصديق الصدق وإدراك الإخلاص يحتاجا أياما طوالا أو سنين مدادا. بعدئذ نوقن أن اليوم العالمي للعمال هو يوم اختتام العمل في سبيل العمال واحتفاء ببداية أخرى، وليس عيد التشدق ببعض الخواتيم الفاضلة وبعض البدايات المعسولة بلعاب الخيال والوهم.