مقبرة الرحمة بالجديدة بدون ماء.. معاناة يومية وصمت الجهات المعنية    فيديوهات خلقت جوًّا من الهلع وسط المواطنين.. أمن طنجة يوقف سيدة نشرت ادعاءات كاذبة عن اختطاف الأطفال    العثور على جثث 13 عاملا بالبيرو    طنجة.. حملات أمنية متواصلة لمكافحة الدراجات النارية المخالفة والمعدّلة    كأس أمم إفريقيا U20 .. المغرب يتعادل مع نيجيريا    ريال مدريد ينجو من ريمونتادا سيلتا فيغو    الاحتفاء بالموسيقى الكلاسيكية خلال مسابقة دولية للبيانو بمراكش    احتفاء فريد من نوعه: مهرجان التوائم الدولي يجمع أكثر من ألف مشارك في جنوب غربي الصين    المغرب التطواني يحقق فوزًا ثمينًا على نهضة الزمامرة ويبتعد عن منطقة الخطر    شبكة نصب لتأشيرات الحج والعمرة    اتهامات بالمحاباة والإقصاء تُفجّر جدل مباراة داخلية بمكتب الاستثمار الفلاحي للوكوس    تطوان تحتضن النسخة 16 من الأيام التجارية الجهوية لتعزيز الانفتاح والدينامية الاقتصادية بشمال المملكة    كأس إفريقيا لأقل من 20 سنة: تعادل سلبي بين المغرب ونيجيريا في قمة حذرة يحسم صدارة المجموعة الثانية مؤقتًا    طنجة تحتضن اللقاء الإقليمي التأسيسي لمنظمة النساء الاتحاديات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    جريمة بيئية مزعومة تثير جدلاً بمرتيل... ومستشار يراسل وزير الداخلية    ملتقى بالقدس يشيد بجهود الملك    الدوري الألماني.. بايرن ميونخ يضمن اللقب ال34 في تاريخه بعد تعادل منافسه ليفركوزن    انخفاض جديد في أسعار الغازوال والبنزين في محطات الوقود    وزيرة تكشف عن مستجدات بشأن الانقطاع الكهربائي الذي عرفته إسبانيا    شركة بريطانية تطالب المغرب بتعويض ضخم بقيمة 2.2 مليار دولار    المغرب يتصدر قائمة مورّدي الأسمدة إلى الأرجنتين متفوقًا على قوى اقتصادية كبرى    تحالف مغربي-صيني يفوز بعقد إنشاء نفق السكك الفائقة السرعة في قلب العاصمة الرباط    الأميرة لالة حسناء تشارك كضيفة شرف في مهرجان السجاد الدولي بباكو... تجسيد حي للدبلوماسية الثقافية المغربية    الفن التشكلي يجمع طلاب بجامعة مولاي إسماعيل في رحلة إبداعية بمكناس    الطالبي العلمي يمثل الملك محمد السادس في حفل تنصيب بريس كلوتير أوليغي نغيما رئيسا لجمهورية الغابون (صورة)    "البيجيدي" يؤكد انخراطه إلى جانب المعارضة في ملتمس "الرقابة" ضد حكومة أخنوش    الخيط الناظم في لعبة بنكيران في البحث عن التفاوض مع الدولة: الهجوم على «تازة قبل غزة».. وإيمانويل ماكرون ودونالد ترامب!    المغرب يطلق برنامجًا وطنيًا بأكثر من 100 مليون دولار للحد من ظاهرة الكلاب الضالة بطريقة إنسانية    الشرطة البرازيلية تحبط هجوما بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا في ريو دي جانيرو    إسبانيا: تحديد أسباب انقطاع الكهرباء يتطلب "عدة أيام"    المغرب يجذب الاستثمارات الصينية: "سنتوري تاير" تتخلى عن إسبانيا وتضاعف رهانها على طنجة    الناخب الوطني يعلن عن تشكيلة المنتخب المغربي لأقل من 20 سنة لمواجهة نيجيريا    استشهاد 16 فلسطينيا بينهم أطفال ونساء في قصف إسرائيلي جديد على غزة    العداء الجزائري للإمارات تصعيد غير محسوب في زمن التحولات الجيوسياسية    الحارس الأسبق للملك محمد السادس يقاضي هشام جيراندو    مصادر جزائرية: النيجر تتراجع عن استكمال دراسات أنبوب الغاز العابر للصحراء    معهد الموسيقى بتمارة يطلق الدورة السادسة لملتقى "أوتار"    بريطانيا تطلق رسمياً لقاح جديد واعد ضد السرطان    توقيف 17 شخصا على خلفية أعمال شغب بمحيط مباراة الوداد والجيش الملكي    "الأونروا": الحصار الإسرائيلي الشامل يدفع غزة نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة    علماء يطورون طلاء للأسنان يحمي من التسوس    المنتدى الدولي للبرلمانيين الشباب الاشتراكيين يعبر عن دعمه للوحدة الترابية للمغرب    نجم الراب "50 سنت" يغني في الرباط    من المثقف البروليتاري إلى الكأسمالي !    الداخلة.. أخنوش: حزب التجمع الوطني للأحرار ملتزم بتسريع تنزيل الأوراش الملكية وترسيخ أسس الدولة الاجتماعية    الشرطة البريطانية تعتقل خمسة أشخاص بينهم أربعة إيرانيين بشبهة التحضير لهجوم إرهابي    الجمعية المغربية لطب الأسرة تعقد مؤتمرها العاشر في دكار    دراسة: الشخير الليلي المتكرر قد يكون إنذارا مبكرا لارتفاع ضغط الدم ومشاكل القلب    وهبي: مهمة "أشبال الأطلس" معقدة    وداعاً لكلمة المرور.. مايكروسوفت تغيّر القواعد    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقف والسياسي .. وصاية أم انفلات .. مقاربة غير متأنية
نشر في العمق المغربي يوم 02 - 07 - 2018

على الدوام كانت علاقة المثقفين بالسلطات السياسية تحكمها معايير مركبة وشائكة ومزدوجة وملتبسة في جوهرها وباطنها، وفي أوجهها المتباينة ومستوياتها المتعددة.
إذ أن قطاع المثقفين يشهد تنوعا قزحياً وانتماءات متعارضة. فتجد المثقف الذي يقف بجانب السلطة الحاكمة ويبرر شرعيتها، ويستميت في الدفاع عن قرارات ومواقف السلطة السياسية، ويغالي في تجميل صور الطغاة. وهناك مثقف من نوع آخر ينتقد النظام السياسي ويدافع عن مصالح الشعوب ويتبنى مطالبها. وبينهما نجد أنواع ونماذج متعددة من المثقفين، المثقف المناضل والحزبي والمحايد والمسالم والمستشار والمداهن. المثقف الموضوعي، المثقف المدجن، المثقف الحالم، المثقف المشروع، المثقف الانتهازي، المثقف النموذج.
في مفهوم المثقف
الثقافي في اللغة هو كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية ملكة النقد عند الإنسان. والمثقف في الدلالات الاصطلاحية هو ناقد اجتماعي يسعى إلى تحديد الظواهر وتحليلها ووضع تصورات لمعالجة المشكلات بهدف الوصول إلى مجتمع أفضل. إن تحديد دلالة مفهوم المثقف ما زالت موضع تباين نظراً لصعوبة حصر المفهوم وضبطه بدقة. إذا كانت غالبية التعريفات منحت صفة المثقف لكل من يشتغل في مجال الثقافة عموماً إنتاجاً ونشراً وترويجاً واستهلاكاً، خاصة بعد أن شهدت المجتمعات البشرية تطوراً كبيراً.
المثقف هو كل من ينتمي إلى شريحة أهل الفكر والمعرفة. هم المنتجين للأدب والفنون والعلوم والفلسفة، ولا يمكن حصرهم في قطاع من الكتّاب والصحفيين والعلماء والفنانين والإعلاميين. إذ يعتبر المثقفين أنهم عقول الأمم النيّرة على مدى التاريخ وضمائرها الحية. حيث يتم من خلالهم نشر الوعي في المجتمعات وبهم تتجسد معاني وقيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية. المثقفين هم أول من ينخرط في مراقبة الشأن العام ومحاولة تصويبه عبر إثارة قضايا المجتمع التي تشغل الناس وتتصل بمصائرهم على الصعيد الوطني، وهم المنشغلين أيضاً بهموم البشرية حيث يتشابك المحلي مع الإقليمي والوطني مع العالمي في هذا الكوكب الصغير.
إن تمعنت جيداً في الأدوار البليغة التي يضطلع بها المثقفون لتيقنت أنهم أصحاب سلطة فكرية وأخلاقية ومجتمعية تضعهم في مواجهات متواصلة مع أصحاب السلطة السياسية.
عبر التاريخ كانت الثقافة تعني الحكمة أو الفلسفة أو الدين أحياناً، وكان المثقفين هم الحكماء او الفلاسفة أو الأنبياء أو الأدباء. وكان الملوك والسلاطين فيما مضى يختارون لأولادهم معلمين مثقفين ومربيين يعلمونهم مختلف أنواع العلوم والفنون والآداب ليصبحوا فيما بعد قادة المستقبل.
مفهوم المثقف من التعابير الشائكة، حيث يصعب تحديد تعريف وإطار وحيد له. وقد تبلور هذا المفهوم في القرن التاسع عشر من خلال الدعوات إلى وضع تصورات مستقبلية تبشر بولادة نظام جديد في روسيا عبر مصطلح "الأنتلجنسيا" التي هي في الأصل كلمة بولندية.
منذ ظهور هذا المصطلح -المثقف- بمعناه المنتشر أول مرة في باريس العام 1894 على أثر إصدار حكم بالنفي على ضابط فرنسي اتهم بالتجسس لصالح ألمانيا، وتدخل الرأي العام في قضيته التي أدى إلى تخفيف الحكم، منذ ذلك الحين طرأت على هذا المفهوم تغيرات كثيرة اتسعت أحياناً وضاقت أحياناً أخرى حسب المرحلة والمكان والظروف المحيطة بالمفهوم.
ذكر الدكتور محمد عابد الجابري أن المثقف إنسان يفكر ويعمل بعقله من خلال معطيات وأفكار لها مرجعية يدور فيها وينطلق من خلالها في أعماله وأفكاره.
وصاغ المفكر الإيطالي غرامشي مفهومه الشهير عن المثقف العضوي في السجن من خلال كتاب دفاتر السجن. وطرح المفكر المعروف ادوارد سعيد
أسئلته حول تعريف المثقفين إذا ما كانوا فئة بالغة الكثرة أو فئة ضئيلة العدد ومنتقون بعناية.
لكن الثابت على مر العصور ان ارتباط النظرية والأفكار بالمواقف والممارسة، ومناصرة المضطهدين والانتصار لقيم العدالة والحرية هي من أهم صفات المثقف أينما وجد.
موقع المثقف
المثقف ضمير الأمة وصوتها. إن الثقافة هي انعكاس للوعي الاجتماعي، وأحد المؤشرات المهمة على مدى تقدم وتطور المجتمعات البشرية. ولأن المثقف يساهم في التنوير من خلال إنتاجه وإبداعاته، وهو بذلك يشارك في التأثير على المجتمع وتحديد خياراته. بهذا المفهوم إن المثقف هو فاعل سياسي بامتياز.
إن كانت السياسة هي طريقة إدارة شؤون البلاد والعباد، فإن الثقافة بمعناها الشامل هي أهم محرك رئيسي للمجتمع، وهي أبرز أدوات هذه الإدارة، وبالتالي فإن المثقف لا يمكن أن يكون خارج هذه المعادلة لارتباطه الوثيق بالضمير الجمعي، ولا يمكن أن يكون لإبداع المثقف أية معان ولا اية مفاعيل إن اختار أن يكون خارج المجال الحيوي السياسي لمجتمعه، بالرغم من أن السياسي يسعى إلى أن يتكيّف المثقف والإنتاج الثقافي الإبداعي مع توجهاته خدمة لنظامه القائم.
بظني أن المثقفين في البلدان المتطورة اقتصاديا وسياسياً ينعمون برفاهية الاختيار والانخراط أكثر كثيراً من المثقفين في البلدان النامية. ثم أن المثقف المشهور أينما وجد يتحمل أعباء أكبر من بقية أقرانه مما يجعله الأكثر عرضة إلى ملاحقة الأجهزة الأمنية التابعة للسياسي، أو أن تكون هذه الشهرة بمثابة درع للمثقف يحميه من عسف السياسي في بلدان أخرى.
إن تم تهميش المثقف فهذا لأنه لم يتمكن من استنباط أدواته الثقافية التي تجعل منه قادراً على التأثير والتغيير، وربما نستطيع بسهولة إيجاد ساسة كبار ليسوا مبدعين، لكن من الصعوبة أن تجد مثقفاً عظيماً دون أن يكون سياسياً.
منذ سقراط مروراً بالجاحظ إلى ادوارد سعيد وتشومسكي وما بينهما آلاف من المبدعين الذين كانوا فاعلين في الشأن السياسي كل بأسلوبه وأدواته.
بعض المثقفين يشتبكون مع مجمل القضايا الساخنة لمجتمعاتهم، وبعضهم يفضل أن يكون خاملاً في الظل، والبعض الآخر يظن أنه حيادي، لكن لا يجب ان يصاب المثقف بوهم الحياد فيما يتعلق بالقضايا الكبرى وبمصالح الأوطان والشعوب. وأن رأيتم مثقفاً من هذا النوع فكونوا على ثقة إما أنه لا يدرك شأنه ومقدرته، أو أنه ينتظر اتضاح المسارات النهائية كي يحصل على رزقه وحصته من الكعكة. وهذا أسوأ أنواع المثقفين وهو الذي يضع رأسه في الرمال ليخرجه بعد مرور العاصفة. فما هي فائدة الإنتاج الإبداعي لهؤلاء إذ لم تكن هموم العباد والبلاد في أهم أولوياتهم؟
موقع السياسي
إن السياسة هي فن إدارة مصالح الناس والدول من خلال جلب المنفعة ودرء المضرة. السياسي يتعامل مع ذات الواقع الذي يتعامل معه الثقافي، لكن السياسي ينخرط في العمل اليومي بينما المثقف يتعامل مع الواقع والمستقبل، مع الكلي والجزئي في ذات الوقت.
السياسي مهتم بشكل مباشر في تحويل إنتاج المثقف وتصوراته وافكاره إلى واقع معاش ما أمكن ذلك، وهنا ينخرط بعض المثقفين في النشاط السياسي المباشر، والبعض يحجم عن ذلك.
جدلية ومتلازمة وضرورية، قائمة على تبادل المنفعة، هي علاقة الثقافة بالسياسة، فلا وجود لأحدهما دون الآخر. إن كل من السياسة والثقافة يستثمران في بعضهما، فالثقافة تستثمر في السياسة بهدف تحقيق بعض المكاسب العامة، والسياسة تستثمر في الثقافة لأجل تمرير خطابات سياسية ومواقف محددة.
وكلاهما – السياسي والمثقف – يجتهدان في سعيهما للتوظيف الأكثر جدوى لقنوات العلاقة فيما بينهما. قد يتقدم أحدهما على حساب الآخر، وقد تحدث قطيعة مؤقتة بينهما.
إن المثقف يمارس دوره عبر إنتاجه الإبداعي المختلف، وعبر هذا الإنتاج فإن المثقف يعبر عن رؤيته للعالم كما يراه، وهو بهذا يكون عاكساً للواقع المعاش.
لكن دور المثقف لا يتوقف عند هذه الحدود، إذ عليه أن يقدم تفسير وتحليل فكري وفلسفي وإنساني واجتماعي للواقع، وسبل تطويره وتقدمه.
ينبغي ان نلاحظ أن هناك أداءًا سياسياً منظماً ومؤسساً ضمن أطر وأحزاب وهيئات، وفعلاً سياسياً منفلتاً حراً لا يرتبط بأية منظومة. ولا بد من التفريق بين المثقف السياسي والسياسي المثقف. إن الممارسة السياسية المنظمة تفرض رؤية الجماعة ومفاهيم الحزب بشكل مسبق، في حين أن الفعل السياسي المستقل فهو لا يتقيد بأية مواثيق حزبية. وبظني أن المثقف يكون فاعلاً بقدر ابتعاده من الحزبية وتحرره من الأيديولوجيا والمواقف والمفاهيم التي تفرضها الأحزاب السياسية عادة على أعضاءها. خاصة في الوضع العربي الذي لم يتلمس بعد دربه نحو الديمقراطية الحقيقية، إذ أن الأحزاب يضيق صدرها -على اعتبارها إطار بنيوي فكري سياسي – على الآراء المخالفة مما يؤدي إلى تقليص مساحة الحرية التي يحتاجها المثقف والمبدع للإنتاج الثقافي والفكري، ويشل من قدرتهما، ويحاصر افكارهما وخيالهما، وهم كل ما يملكانه. إذ أن ما يحصل غالباً في العالم العربي أن يقوم السياسي بإجبار المثقف على التمسك بموقف ما دون تغيير، وهذا لا يتلاءم مع دور المثقف. هناك العديد من الأمثلة لمثقفين عرباً انخرطوا في الأحزاب السياسية وتحولوا – يا سبحان الله- إلى أبواق لهذه الأحزاب. وحتى لا يساء فهمنا، نحن هنا لا ندعوا أن يبتعد المثقف تماماً عن الأحزاب، لكن عليه أن يظل محافظاً على استقلاليته وحرية تفكيره لأنهما الوسيلة الأسلم لتحريض مخيلته وذاكرته وبصيرته، ومما يمكنه من المشاركة السياسية عبر إنتاجه الإبداعي الأدبي أو الفني أو الفلسفي الذي يمكن أن يحمل المواقف السياسية في صورة مختلفة عن السياقات التي يمارس فيها السياسي نشاطه. وهكذا يمكن للمثقف أن يمتلك تلك المقدرة التي تمكنه من مقاربة الواقع بكافة مكوناته، فيظهر موقفه السياسي – عبر إنتاجه – واضحاً معبراً عن رؤية سياسية ضمن ارتباطها وتأثرها بالاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والثقافي.
الواقع العربي – حصار مر
في الواقع العربي الحدود غير واضحة بين ما هو مثقف وما هو مبدع، وعادة ما يتم دمج الجميع بصيغة المثقفين. ويتميز المثقفين العرب غالباً بسمة موسوعية وتعدد الاهتمامات وشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، الأمر الذي يؤدي أحياناً انخراط المثقف العربي في السياسة حيث يظن أن المجتمع يحميه، وأنه قادر على أن يصبح منبراً لتمرير الخطابات السياسية في ظل افتقاد معظم الدول العربية إلى مؤسسات المجتمع المدني.
لم يشهد العالم العربي ما شهدته أوروبا من تحولات اجتماعية وفكرية رافقها تغير في تحديد مفاهيم المثقف. فلم يحصل في العالم لا ثورات بورجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة، ولا حدثت فيه ثورات صناعية ولا علمية، ولم يشهد عصور تنويرية.
على مر العصور بقيت ثنائية المثقف والسياسي والعلاقة التي تجمعهما قضية ملتبسة ومتباينة. في الراهن العربي تأخذ هذه العلاقة أبعاداً متصادمة بشكل تصاعدي في كثير من الحالات. وما زالت إشكاليات العلاقة بين المثقف والسياسي، والحدود بينهما، وأدوات كل منهما، وموقع كل منهما ودرجة تأثيره في المجتمع قائمة، ولا زال الجدل والنقاش حولهما يستحوذ على اهتمام المنخرطين بالشأن العام، يخبو أحياناً، ليتوهج هذا الحوار الفكري بين المنشغلين بالثقافة والسياسة.
رغم أن المثقف العربي كان وما زال في معمعة حياة المجتمعات وجزء لا ينفصل من مكوناتها، بل هو – أحياناً – الجزء المتورط في العمل على إحداث تغيرات تؤدي إلى تطور المجتمعات، وهو بهذا المعنى في قلب الحراك السياسي، فيما ينظر له السياسي بارتياب على أنه خطر متوقع يقوض مصالح السياسي.
والتجربة العربية هنا تشير إلى أن معظم الساسة العرب سعوا دوماً بإصرار على إقصاء المثقف العربي من المشاركة في وضع الاستراتيجيات المختلفة للأنظمة العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وكذلك إقصاءه من المساهمة في اختيار آليات إنجاز وتحقيق تلك الاستراتيجيات، بل حتى منعه من تقييمها وإبداء الراي بشأنها. كما كان لمعظم الساسة العرب موقفاً مهيناً من المثقف العربي ومن إنتاجه الفكري، ولم نسمع في عالمنا العربي أن الساسة ومؤسساتهم قد كانت يوماُ حريصة على مشاركة المثقف والمفكر والعالم في وضع تصور حول مشروع وطني وما شابه. ونادراً ما نلاحظ وجود مفكرين ومثقفين متخصصين موجودين كمستشارين في دوائر السياسي، وإن وجدوا فهم للديكور والتزين أكثر منهم للعمل والاستشارة. وعادة ما يتعامل السياسي العربي مع المثقف بخوف وحذر وتجاهل وعدوانية قد تصل إلى سجنه وربما قتله. إذ ان معظم الساسة العرب يتمتعون بخصال منها العنجهية والغرور والتكبر والتعظم والجفاء، لا يقيمون وزناً ولا قيمة للثقافة ولا للمعرفة ولا للفكر ولا البحث العلمي إلا بمقدار ما يخدم مصالحهم ويثبت حكمهم.
لكن وجود المثقف في العملية السياسية هو وجود حتمي وليس اختيارياً، ومن العبث أن يتصور كلاُ من السياسي والمثقف وجود الأخير خارج المشهد، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى أن يفقد المثقف صفته وموقعه، وهو ما يمهد لظهور الوصوليين والانتهازيين والأشباه والأنصاف مما يحاصر الإبداع والكفاءة والنزاهة والفكر، ولنا أن نتصور الأثر المدمر لصعود الغث على حساب النافع للمجتمع.
إذا كانت الأفكار والنظريات يبتدعها الفلاسفة والمفكرين، إلا أن تحويل هذه الأفكار الخصبة إلى واقع عملي يحتاج إلى عقول سياسية عملية تحول الفكرة إلى حلول ناجعة، ذلك أن المثقفين حين يعتزمون التغيير فإنهم غالباً يحتكمون إلى الأيديولوجيا والطوباوية. لذلك عادة المثقف غير مؤهل لهذه المهمة، حيث الأفكار والنظريات تخضع لقوانين التغيير والتعديل والتحول في سياق تطورها وامتحانها في الواقع المحدد. لذلك فإن هذه الأفكار لا تكون بصيغتها الأولى حين ترتقي من مستوى لآخر، وحين تنتقل من مكان لآخر. لا يمكن تعليب وتغليف الأفكار وشحنها ونقلها من واقع إلى واقع آخر، لكن يمكن إعادة تصنيعها وإعادة إنتاجها بصيغ جديدة موائمة لواقعها الجديد. وإن تعاملنا مع الأفكار على أنها هوية ثابتة – دون النظر إلى صيرورتها وقدرتها على التحول- فإنها سوف تفشل.
في المثقف العربي
ما حصل في العالم العربي ومنذ الحملة الفرنسية العام 1789 للآن هو ظهور اتجاهات إصلاحية توفيقية انشغلت بنبش التراث أو الاستعارة من الثقافة الغربية حيناً آخر، مما أدى إلى هزالة ثقافية وولادة مدارس فكرية تقلد الغرب.
في التجربة العربية نجد مفهوم المثقف لا يتوافق تماماً مع المفهوم الأوروبي بعمق التزام "الأنتلجنسيا"، لكننا نجد مثقفين على قدر من مسؤولية الالتزام المجتمعي، ولا نتجاهل أن المثقف العربي يعاني من أنظمة سياسية في معظمها أنظمة قمعية متخلفة تحارب الوعي والثقافة.
على المثقف المساهمة بفعالية في إنتاج وتطوير وترشيد استعمال الأفكار التي تشكل ثقافة المجتمع، يحافظ على قيم وعناصر هذه الثقافة ويعمل على إيصالها وإعادة إنتاجها، ووضعها تحت مجهر السؤال والنقد والبحث.
إن عملية النقد والبحث لتطوير الصيغ هي عملية شاقة جداً تقتضي صياغة خطاب ومفاهيم مختلفة مع ما هو سائد، لكنها تظل أفكاراً تحتاج إلى شروط موضوعية للتحقق لأن المثقف يفتقد الآليات العملية التي يمتلكها السياسي. ومن هنا ضرورة عدم تبعية المثقف للسياسي التي تتناقض غالباً مع ثوابته، لكن من الأهمية قيام تعاون وتنسيق بين الجانبين من خلال أطر نقابية وثقافية مختلفة بما يحقق خدمة أهداف المجتمع.
هذه الرؤية ما زالت بعيدة المنال في الواقع العربي لأسباب متعددة لعل أهمها أن معظم القادة السياسيين العرب لا يعون دورهم التاريخي الذي يتمثل في وعي إرادة الأمة وشرط نهوضها، بل هي قيادة أفرزتها الظروف الطارئة التي مرت بها الشعوب العربية. كما أنها قيادة لا تكن للثقافة والمثقفين أي احترام وتقدير، وتعمل على إخراج المثقفين من المعركة وتحولهم إلى تفاصيل وأدوات في اللعبة السياسية.
ومعظم الرموز والعقول الفكرية والثقافية العربية لا تجد دورها في السياق المجتمعي، لذلك فهي عاجزة عن المساهمة في المشروع الحضاري العربي.
من أبرز المعيقات التي تحول دون ممارسة المثقف العربي لدوره هي نخبوية الثقافة والمثقفين والتي تشكل قطيعة بين المثقف والناس، ثانياً عدم تحديد الأولويات، فعلي سبيل الذكر لا الحصر فإنه منذ عصر النهضة قد أولى المثقفين العرب القضية الوطنية والعمق القومي والوحدة الاهتمام الأكبر على حساب القضايا الاجتماعية.
في الحياة يرتبط الفكر بالواقع المعاش ارتباط جدلي تبادلي وثيق، وهو القاعدة الرئيسية لكل معرفة، وبالتالي فإن هذا الواقع هو المكان الطبيعي الذي تمتحن فيه الأفكار عبر وحدتها مع العمل، إذا أن صيرورة العالم لا تدركها المعرفة الإنسانية إلا عبر الممارسة التاريخية. وبالتالي فإن رؤية الواقع وملامسة عناصره شرط ضروري لفهمه، وامتحان الأفكار من خلاله أهم مقومات تغييره.
هل هذه الشروط متاحة في الواقع العربي؟
لا أظن أنه من اليسير على المثقف العربي تغيير واقعه لأسباب متعددة لعل أبرزها أن معظم المثقفين العرب مازالوا يتعاملون مع أفكارهم على أنها عقائد مقدسة وكشعارات طوباوية وألواح أيديولوجية وإن شئت فلدي البعض هي مستحاثات وخطاب خشبي.
فالتطورات السريعة التي تحصل باستمرار في المشهد العالمي بعد ثورة المعلومات الكبيرة تجاوزت ثنائية المثقف والسياسي بعد أن ظهر لاعبون جدد لهم قدرة مهمة وبارزة في التغيير مثل أصحاب الشركات العملاقة " آبل، مايكروسوفت، فيسبوك، وغيرهم".
ولك أن تتساءل اليوم عمن يؤثر في الواقع أكثر، بيل جيتس ومارك زوكربيرغ وأمثالهم أو جون بول سارتر أو نعوم تشومسكي وادوارد سعيد وغيرهم من كبار المفكرين الإنسانيين؟
مازال المفكرين التقليديين – العرب منهم خاصة – يتحدثون عن الواقع بخطاب يقيني مثالي، بينما هذا الواقع ذاته لا يكف عن مفاجأتهم ويكشف هشاشة أفكارهم وأوهامهم، بينما نلاحظ أن العاملين في الوسائل والأدوات الثقافية الحديثة فإنهم يخلقون واقعاً جديداً. فهل نشهد انقلاباً في المفاهيم الثقافية والاجتماعية يؤدي إلى إعادة صياغة وتحديد المصطلحات الفلسفية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.