الركراكي يرفع إيقاع "أسود الأطلس"    مؤتمر نصرة القدس و"معا للقدس": أية قوة يتم إرسالها لغزة يجب تحديد ولايتها بواسطة مجلس الأمن بالتشاور مع الشعب الفلسطيني    دعم المقاولات الصغرى بالمغرب .. "الباطرونا" تواكب والأبناك تقدم التمويل    47735 شكاية وصلت مجلس السلطة القضائية والأخير: دليل على اتساع الوعي بالحقوق    مقترح عفو عام عن معتقلي حراك "جيل Z"    الحموشي يتقلَّد أرفع وسام أمني للشخصيات الأجنبية بإسبانيا    "لارام" تدشن أول رحلة مباشرة بين الدار البيضاء والسمارة    اتفاق مغربي سعودي لتطوير "المدينة المتوسطية" بطنجة باستثمار يفوق 250 مليون درهم    تحيين مقترح الحكم الذاتي: ضرورة استراتيجية في ضوء المتغيرات الدستورية والسياسية    انتخابات العراق: ما الذي ينتظره العراقيون من مجلس النواب الجديد؟    هجوم انتحاري خارج محكمة في إسلام آباد يودي بحياة 12 شخصاً ويصيب 27 آخرين    ماكرون يؤكد رفض الضم والاستيطان وعباس يتعهد بإصلاحات وانتخابات قريبة    الوالي التازي: المشاريع يجب أن تكون ذات أثر حقيقي وليست جبرا للخواطر    التوقيت والقنوات الناقلة لمباراة المغرب وإيران في نهائي "الفوتسال"    مونديال أقل من 17 سنة.. المغرب يتعرف على منافسه في الدور المقبل    شراكة بين "اليونسكو" ومؤسسة "المغرب 2030" لتعزيز دور الرياضة في التربية والإدماج الاجتماعي    الرصاص يلعلع بأولاد تايمة ويرسل شخصا إلى المستعجلات    مديرية الأرصاد الجوية: أمطار وثلوج ورياح قوية بهذه المناطق المغربية    الرشيدي: إدماج 5 آلاف طفل في وضعية إعاقة في المدارس العمومية خلال 2025    إطلاق طلب عروض دولي لإعداد مخطط تهيئة جديد في 17 جماعة ترابية بساحل إقليم تطوان وعمالة المضيق-الفنيدق    بنسعيد في جبة المدافع: أنا من أقنعت أحرار بالترشح للجمع بين أستاذة ومديرة    "رقصة السالسا الجالسة": الحركة المعجزة التي تساعد في تخفيف آلام الظهر    "الفتيان" يتدربون على استرجاع اللياقة    استئنافية الحسيمة تؤيد أحكاما صادرة في حق متهمين على خلفية أحداث إمزورن    التدبير‮ ‬السياسي‮ ‬للحكم الذاتي‮ ‬و‮..‬مرتكزات تحيينه‮!‬ 2/1    كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم (المغرب 2025).. تعبئة 15 ألف متطوع استعدادا للعرس القاري    إصدارات مغربية جديدة في أروقة الدورة ال44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب    قراءة تأملية في كتاب «في الفلسفة السياسية : مقالات في الدولة، فلسطين، الدين» للباحثة المغربية «نزهة بوعزة»    نادية فتاح تدعو إلى وضع تشغيل النساء في صلب الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية    مراكش تحتفي بعودة السينما وتفتح أبوابها للأصوات الجديدة في دورة تجمع 82 فيلما من 31 دولة    والآن سؤال الكيفية والتنفيذ .. بعد التسليم بالحكم الذاتي كحل وحيد    حادثة سير خطيرة بالطريق السيار العرائش – سيدي اليماني    رسميًا.. المغرب يقرر منح التأشيرات الإلكترونية لجماهير كأس إفريقيا مجانا عبر تطبيق "يلا"    برلمانية تستفسر وزير التربية الوطنية بشأن خروقات التربية الدامجة بتيزنيت    "ساولات أ رباب".. حبيب سلام يستعد لإطلاق أغنية جديدة تثير حماس الجمهور    انعقاد الدورة ال25 للمهرجان الوطني للمسرح بتطوان    ملايين اللاجئين يواجهون شتاء قارسا بعد تراجع المساعدات الدولية    الحكومة تعتزم إطلاق بوابة إلكترونية لتقوية التجارة الخارجية    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    رونالدو يكشف أن مونديال 2026 سيكون الأخير له "حتما"    بموارد ‬تقدر ‬ب712,‬6 ‬مليار ‬درهم ‬ونفقات ‬تبلغ ‬761,‬3 ‬مليار ‬درهم    الكاتب ديفيد سالوي يفوز بجائزة بوكر البريطانية عن روايته "فلش"    الشاعرة والكاتبة الروائية ثريا ماجدولين، تتحدث في برنامج "مدارات " بالإذاعة الوطنية.    المغرب ‬رائد ‬في ‬قضايا ‬التغيرات ‬المناخية ‬حسب ‬تقرير ‬أممي ‬    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    وزير الداخلية يبدأ مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة؟    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل العتبة والتعدّد.. بين جموح تأبيد البلقنة وطموح تأكيد العقلنة
نشر في العمق المغربي يوم 09 - 10 - 2020


مقدمة:
الانتخابات والدمقرطة.. علاقة التلازم وامتناع الانفكاك
تشكّل العملية الانتخابية النزيهة والشفافة واحدة من أهم مؤشرات تقدّم المسارات الديمقراطية واستقرار الأنظمة السياسية المتبنية لخيار المشاركة السياسية، ولفتح المجال أمام عموم المواطنين لممارسة حقهم في تدبير شأنهم العام الوطني والمحلي وفق ما يرتضونه من توجهات وتفضيلات تعبّر عن تحيزاتهم السياسية، وتساهم في بلورة سياسات عمومية تخدم مصالحهم الوطنية الراهنة والمستقبلية.
ذلك أن السياسة، خارج نطاق تقاطبات الصراع حول السلطة والبحث على التوازن كما فسّرها موريس دوفرجيه؛ هي، كما عرّفها جون ماري دونكان، في المبتدأ الأول قدرة على الاختيار، والاختيار وحده، والذي من دونه تنتفي السياسية، ليبرز "عالم اللاسياسة" حيث حكم السلطوية الذي تنتفي معه أي إمكانية للحديث عن الحق في المشاركة السياسية، أو حيث سياسة التقنوقراط التي يؤمن أصحابها بأن حلول المشكلات المجتمعية كامنة في تدبير الأشياء والتقنيات لا في إبداع الأفكار والتوجهات.
وعلى هذا الأساس، يعتبر أغلب علماء السياسة ومفكروها أن كلاً من السلطوية والتقنوقراطية شكلان من أشكال اغتيال الروح العميقة للسياسية ومصادرة معناها القويم، لأنها في الأصل [أي السياسة] مساحة وموضوع لتدافع القوى السياسية [هي هنا بالأساس الأحزاب] على أساس من الانحياز للاختيارات والإيديولجيات والبرامج، في سعيها الدائم للتعبير عن الحساسيات المجتمعية والتفضيلات الشعبية التي تصدع عنها أو تمثلها، والتي تعمل على تنزيلها على أرض الواقع في صورة برامج وسياسات عمومية، من خلال قناة الانتخاب، والتي تعد القناة الأكثر ديمقراطية والمسلك المؤسساتي الأسلم لفرز المؤهل لممارسة الشأن العام باسم الناس.. كما أراد الناس ولصالحهم.
لقد كانت هذه التوجهات أحد الأسباب المؤطرة لنضال أجيال من المغاربة طيلة العقود الستة الأخيرة من مغرب ما بعد الاستقلال. وهي الأجيال التي كانت تتوق إلى تثبيت قواعد ممارسة ديمقراطية أصيلة ومسؤولة، تقطع مع واقع "المراوحة الديمقراطية" الذي بتنا نتخبطه لعقود من الزمن.. نتقدم حينا ونتأخر حينا آخر. وهو ما حسمه دستور 2011، نصّاً، حين أكد تبني المغرب للخيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت الأمة إلى جانب "الدين الإسلامي السمح" و"الوحدة الوطنية متعددة الروافد" و"الملكية الدستورية".
التوجه الدستوري نحو تعزيز دمقرطة العملية الانتخابية بالمغرب
.. فبالرغم من أننا نفتقد إلى المحاضر التي توثق للأعمال التحضيرية لإعداد مقترح دستور 2011 من أجل الاستعانة بها لاستجلاء الغايات والتوجهات المضمرة للقانون الدستوري المغربي، إلا أن الانكباب على قراءة مختلف نصوص الدستور قراءة نسقية بمنطق مقاصدي يجعلنا نقف على العديد من المؤشرات التي ترفع الحجب عن ذلك الأفق السياسي المعتبر الذي يحدو المشرع الدستوري نحو بث مزيد من الروح السياسية في العملية الانتخابية وتوفير مختلف الشروط والضمانات الكفيلة بدمقرطتها.
وليس خفيا أن إصدار الدستور الحالي قد شكّل لحظة مفصلية في الحياة السياسية والدستورية، والتي توجت كل النضالات التي انخرط فيها أجيال من المغاربة لعقود من الزمن، وهي النضالات التي عبر عنها الحراك الديمقراطي الذي شهده المغرب بمناسبة اندلاع الانتفاضات الشعبية بالمنطقة العربية لمواجهة مختلف صنوف الاستبداد والفساد، والتي كانت ولازالت من بين أكبر المعيقات التي تعرقل مسار تطور شعوب العربية وتنمية واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لقد كرس دستور 2011 الكثير من المقتضيات ذات العلاقة بموضوع عقلنة ممارسة السلطة ودمقرطتها، وهي القضايا التي ظلت لعقود مجرد نقاط معلّقة في جدول أعمال المطالبات الإصلاحية السياسية والاجتماعية والمنادية بالحاجة إلى مزيد من الدمقرطة والتنمية والعدالة الاجتماعية.
ولعله من بين هذه المسائل التي عُدَّ أمر دسترتها مكسبا ديموقراطيا حقيقيا ما نص عليه دستور المملكة في فصله الأول بأن: 1) نظام الحكم، فضلا عن طابعه الملكي الدستوري، هو ذو طبيعة ديمقراطية برلمانية؛ ثم (2) اعتماد مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، والذي ببرهان الخلف يعني أنه لا يصلح لتحمل المسؤولية العمومية إلا من يمكن مساءلته ومحاسبته، الأمر الذي يقطع الطريق على الكثير من الدعاوى الزائفة والمشاغبات السياسية التي تدعو إلى التملّص عن هذا النهج والحيد عن هذا المسار من خلال الدعوة إلى إنشاء حكومة خبراء وتقنوقراط.
ولقد تجسد هذا المبدأ الدستوري في العديد من الإجراءات الدستورية الأخرى علّ أهمها: أ) أن اختيار الأمة في انتداب ممثليها لا يتم إلا عبر الانتخابات التي يُشترط فيها أن تكون حرةً ونزيهة ومنتظمة (الفصل 2 من الدستور)؛ ب) ثم اعتبار هذا الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي [وحدها دون غيرها] أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي (الفصل 11 من الدستور)، مع ضمان كافة التدابير التي تكفل الطابع التنافسي لهذه الانتخابات؛ ج) وكذا، كفالة حق كافة المواطنين في الترشح والتصويت، باعتبار ذلك حقا وواجبا في آن واحد.
وبإزاء كل هذه المقتضيات التي بات يحفل بها الدستور الجاري به العمل، يُعد الفصل 47 أحد أهمها، لا فيما له علاقة مباشرة بموضوع تعيين رئيس الحكومة، ولكن في التوجّه الذي استند إليه المشرع الدستوري في تثبيت مختلف الاستحقاقات التي يستوجبها أمر دمقرطة العملية الانتخابية التي من المفترض أن تكون المعبر الوحيد لإفراز وتعيين المعني برئاسة الجهاز الحكومي. وهو الأمر الذي زكّاه اشتراط الدستور تصويت مجلس النواب (المنتخب) بالأغلبية المطلقة على البرنامج الذي يتقدم به رئيس الحكومة، وذلك حتى تعتبر هذه الحكومة منتصبة (الفصل 89).
وذلك بخلاف الوضع القائم في الدساتير السابقة والتي كانت تكتفي بالتعيين الملكي لكي تعتبر الحكومة قائمة (الفصل 24 من دستور 96)، إذ لم يكن الوزير الأول آنذاك معنيا سوى بتقديم برنامج، هو أقرب إلى تصريح حكومي دون اشتراط التصويت البرلماني عليه (الفصل 60 من دستور 96). حيث لم يكن ممكنا الاعتراض عليه إلا وفقا للمسطرة الدستورية المنصوص عليها في الفصل 75 من هذا الدستور (وهي المسطرة التي كانت متعلقة بموضوع سحب الثقة من الحكومة)، وكأننا بصدد حكومة قائمة بمجرد وقوع تعيين الملك لها دون حاجة إلى تنصيب البرلمان لها. وهو ما كان يفرغ الانتخابات من مضمونها السياسي وينفي عنها نفسَها الديمقراطي، حيث لم تكن الانتخابات حاسمة في اختيار مدبري الشأن العام، مادام أن الدساتير السابقة كانت تتيح إمكان تعيين وزير أول لم يخض الانتخابات أصلا، وغير محتاج إلى أن يكون منتميا لحزب سياسي، وغير ملزم بالرجوع إلى الشعب للدفاع عن حصيلته والخضوع لتقييم المواطن له.
على أي، الغرض من هذا الاستعراض الأفقي العاجل، هو إبراز التوجه الدستوري الواضح والصريح نحو تثبيت أركان سياسة وممارسة انتخابيتين قائمتين على التنافس السياسي والحسم الديمقراطي. ولعله الأمر الذي عبرت عنه الإرادة الملكية حين التزامها بمبدأ اختيار رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات في ثلاثة أزمنة مختلفة (2011 و2016 و2017)، وبسياقات متفاوتة.
التعددية السياسية على مشرحة العتبة الانتخابية
بكل تأكيد، كان انخراط المغرب في اعتماد نظام التعددية الحزبية وممانعته لبعض من النزوعات، التي تسربت إلى بعض الفاعلين الحزبيين بالمغرب وبغيره من البلدان تأثرا بالإيديولوجيات الشمولية، خطوة مبكرة لقطع الطريق نحو أي نزعة هيمنية أو تسلطية. وهو الأمر الذي بات يشكل مكسبا ديمقراطيا مهماً كرّس الطابع التنافسي للأحزاب، ولو على سبيل الافتراض والإمكان. حيث ظل أمر تمثيل المتعدد سياسيا وحزبيا والمتنوع ثقافيا واجتماعيا موكولا إلى الملك ومحصورا في شخصه، بما هو مؤسسة تعبر عن المكوِّن السيادي للدولة والمتعالي عن متعلقات التنافس السياسي و"التسابق" الانتخابي.
وقد تبّث التاريخ السياسي المغربي هذا الطابع، منذ أن انتبه المغاربة إلى ضرورة اعتماد الملكية كنظام للحكم، وجعل الملكية في منأى عن منطق الصراع وواقع التقاطب، فاختاروا ملكية على أساس شرعية الشرف المتسامي عن صراعات العصب وتناقضات الفرقاء، ليوكل إلى الملك دور ضبط ورعاية توازنات التعدّد السياسي والاقتصادي والتنوّع الثقافي والاجتماعي، وذلك من خلال المهام التاريخية الموكولة إليه، والتي من بينها أدوار التوجيه والتحكيم الحائلة دون أن تجور فئة على فئة أو تبغي فرقة على أخرى.
ومع الإقرار بهذه الحقيقة التي تختزنها الخبرة السياسية التاريخية للمغاربة، إلا أن ذلك لا يمنع من إمكانية الحديث على مواصفات هذه التعددية السياسية والتنوع الحزبي، والذي يلزمه أن يكون تعددا سياسيا وتنوعا إيديلوجيا حقيقا ومعبّرا، لا تعددا زائفا وتنوعاً مغشوشا. تعدّد سياسي قادر على ترجمة ما يعتمل داخل المجتمع المغربي من ديناميات وحساسيات وتوجهات، من المفروض أن تجد تجلياتها فيما تعتمده الأحزاب السياسية من إيديولوجيات سياسية ومذهبيات فكرية، أو فيما تصوغه في مذكرات مطلبية أو تدعو له من برامج انتخابية، أو فيما تنفذه من سياسيات وبرامج عمومية وبرامج.
لذلك، وعلى قيمة الوعي بحيوية الخاصية التعددية للنسق السياسي الحزبي الوطني، إلا أن هذا الطابع يلزمه أن يكون تعدداً معقلنا لا مبلقنا، وتنوعا معقولا رشيدا ومسؤولا لا تنوعا مصطنعا تم فبركته لغاية خدمة أجندة "لاسياسية" ولا ديمقراطية هدفها التشويش على الوعي السياسي العام والتلاعب باستقرار المؤسسات وإفراغها من مضمونها التمثيلي.
اليوم ونحن أمام مشهد حزبي يضم ما يدنو من عتبة الأربعين حزبا، أغلبها أحزاب وهمية ومجرد دكاكين انتخابية مفتقرة إلى شروط مسمى حزب سياسي، وأقل تلك الشروط ما نص عليها الفصل السابع من الدستور، والذي يُحمل الأحزاب السياسية أمانة تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم سياسيا، وواجب تعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وتدبير الشأن العام.
وليس من باب المجازفة في القول، بأن أغلب المسمى أحزابا هي أقرب إلى "كيانيات" لا هويات سياسية لها ولا أساس فكري وإيديلوجي ينتظم اجتماعها، وهي على كثرتها لا تعبر عن أي حساسية مجتمعية، ولا تتمتع بأي امتداد شعبي. أغلبها أحزاب صُنعت في سياق الصراع السياسي الذي شهده المغرب في العقود السابقة، وجسّدت رغبة الإدارة في اصطناع أحزاب (هنا هي أحزاب الإدارة) من أجل خلق نوع من التوازن مع الأحزاب السياسية المتمتعة بقدر من التجذر الاجتماعي والتي كانت تمتلك طرحا فكريا ومشروعا مجتمعيا وعرضا سياسيا يؤكد الحاجة إلى السياسة ويكرس الجدوى منها.
وللخروج من هذا المأزق، دفع المشرع الدستوري نحو تطوير الحياة الحزبية من خلال الدعوة إلى احترام المبادئ الديمقراطية في تسيير الأحزاب لشؤونها، لأن أغلب الأحزاب (المصطنعة) لا تعمل وفق مبادئ الديمقراطية في تسيير شؤونها (الفصل 7 من الدستور). كما أن القانون التنظيمي الخاص بالأحزاب، والذي يعتبر عنصرا من عناصر الكتلة الدستورية، قد أوجب توفر أي حزب على عدد من الأنظمة التي تحفزه على دمقرطة شأنه الداخلي (المواد 24 و25 و26 و27 و28 في القانون التنظيمي للأحزاب).
ولمزيد من ترشيد الحياة الحزبية ومعالجة عطب تعدديتها الزائفة، فتح المشرع الدستوري الإمكان واسعا أمام الأحزاب لتشكيل اتحادات فيما بينها، بل وإمكانية اندماجها في إطارات سياسية موحدة، بدل هذا التوزيع المبالغ فيه.
وإلى جانب هذه الإجراءات، اعتمد المشرع الدستوري العديد من الإجراءات الأخرى، علّ أهمها الإجراءات المتعلقة بالتأطير القانوني للانتخابات، والتي من بينها اعتماد النمط اللائحي بما يقوي التوجه السياسي للأحزاب بحكم أن التصويت عليها يكون سياسيا وليس لأي اعتبار آخر؛ وكذا اشتراط العتبة الانتخابية والتي تعد أحد أهم الاستحقاقات التي تفرض على الأحزاب السياسية نهوضها بواجبات التواصل مع الرأي العام وتأطير المواطنين طيلة أيام السنة من أجل أن توجد لها قاعدة انتخابية موالية لها. لقد شكل اعتماد شرط العتبة الانتخابية فرصة مواتية لتحفيز الأحزاب على العمل الجدي والمستمر غير المرتبط باللحظة الانتخابية، كما شكل سدا للحيلولة دون أن تنتصب لتدبير الشأن العام أشباه أحزاب سياسية تساهم في تشتيت أصوات الناخبين والعبث بالحياة السياسية والاستقرار المؤسساتي.
في الحاجة إلى عتبة انتخابية: دامجة غير إقصائية.. معقلنة للتعدد ومقاومة للبلقنة
بالفعل، لقد ساهمت العتبة الانتخابية في تحقيق العديد من مقاصد المشرع الدستوري والتفاعل الإيجابي مع المطالب المجتمعية المتنامية من أجل عقلنة التعددية الحزبية من خلال دفع الأحزاب إلى ترشيد وجودها وتقوية أدائها السياسي والنضالي. كما كفل مبدأ اعتماد عتبة انتخابية استقرارا معتبرا للمؤسسات التشريعية والتنفيذية (انظر قرار المحكمة الدستورية رقم 924 الذي أكد على أن توطيد وتقوية المؤسسات يعد غاية دستورية)، وهو الاستقرار المستند إلى نتائج انتخابية معبّرة وموسومة بحد معقول من الثبات.
فمثلا، مكنت العتبة الانتخابية سنة 2011 من تشكيل برلمان مكوّن من 16 حزبا سياسيا فقط، في مقابل العدد الهائل للأحزاب بالمغرب والذي، كما سبقت الإشارة إليه، بات يرنو من الأربعين. كما أن الإصرار على اتباع نفس النهج، وبالرغم من تخفيض العتبة من 6% إلى 3%، عزز فرص استمرار مسلسل الترشيد حيث لم يلج إلى البرلمان سنة 2016 سوى 12 حزبا. وهو الأمر الذي كان له دلالات كبيرة على صعيد الحياة الحزبية ومخرجات العملية الانتخابية.
فبفضل العتبة الانتخابية، مع مختلف آليات دمقرطة العملية الانتخابية، شرع المغرب في تلمس مساره نحو حماية المشهد الحزبي من تهديدات البلقنة التي أعاقت تطور الحياة السياسية، وساهمت في عرقلة تجربة الانتقال الديمقراطي. كما أفضت إلى تشكيل مؤسسات، تشريعية وتنفيذية، حائزة لشروط الانسجام وللحدود الضرورية من التشكيل العقلاني المتوازن، لا سيما من خلال خلق فرق برلمانية متماسكة ومتجانسة والحيلولة دون تشتت أصوات الناخبين.
ويبدو ظاهرا، أن الحاجة إلى عتبة انتخابية متوازنة وإدماجية ومسؤولة لازالت قائمة، لأنها ستجمع بين همّي عقلنة مخرجات العملية الانتخابية دون خطر الإضرار بواقع التعددية الحزبية. ثم من خلال تشجيع القوى الحزبية، كبيرة ومتوسطة وصغيرة، إلى تشكيل التحالفات السياسية والائتلافات الانتخابية، بما سيسهم في تطوير الحياة السياسية ويضمن لها الحدود المعقولة والمسؤولة للاستقرار المؤسساتي والسياسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.