توطئة: تُعَدُ القصة القصيرة جدًّا من الفنونِ الأدبيةِ الحديثةِ التي ظهرتْ منذ التسعينيات من القرنِ الماضي؛ نظرًا لمجموعةٍ من الظروفِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسياسيةِ والثقافية. وللقصةِ القصيرةِ جدًّا عدّةُ خصائص نذكر منها: الاختزال والتكثيف: وهي من أهمِّ سماتِ القصةِ القصيرةِ جدًّا، إذ لا ينبغي لكاتبِ القصةِ القصيرةِ جدًّا أنْ يَدخُلَ في التفاصيل، بل عليه أنْ يختزلَ إلى أكبرِ حدٍّ ممكن، ولعلَّ هذا من بين صعوبات كتابة القصةِ القصيرةِ جدًّا، ولعلَّ الغايةَ من هذه الخاصية هي تركُ مساحةٍ للقارئ من أجلِ التأويل، هذا الأخير الذي يختلفُ باختلافِ القارئ، فلو أنَّ الكاتبَ ذَكَرَ كلَّ شيء لنْ يكونَ هناك مجالٌ عند القارئ لتشغيلِ مخيلتِه قصد التأويل، ولهذا الغرض يستعملُ الكاتبُ نقطَ الحذفِ الدالةِ على غيابِ المنطوق، كما أنَّ الاختزالَ والحذفَ قد يكونان لأسباب سياسية واجتماعية وأخلاقية وفنية وإبداعية. السخرية: تُعَدُ السخرية مِن أهمِّ مميزاتِ القصةِ القصيرةِ جدًّا، إذ لا تكادُ تخلو قصةٌ من القصصِ القصيرةِ جدًّا من هذه الخاصية، حتى أنَّ القارئَ لها يَخالُ نفسَه يقرأُ نكتةً أو مستملحة، غير أنَّ توظيفَ الكاتبِ للسخريةِ لا يكون بغرض التّنكيت، وإنما يضمِّنُ القاصُ من خلالِها رسائلَ مشفّرة ينبغي للقارئِ فكّ شفراتها. القفلة المدهشة: ويقصدُ بها النهاية والتي من شروطِها أنْ تكونَ مدهشةً وصادمة، بحيث لا يمكنُ لها أنْ تخطرَ على بالِ القارئ، وفي القفلة المدهشة تكمنُ المُفارقة. محدودية الكلمات: اتفقَ أهلُ الاختصاصِ في هذا المجال على ألا تتجاوزَ ال"ق.ق.ج" الخمسين مفردة دون احتسابِ حروفِ الجر، ففي حالة تم تجاوز هذا العدد قد نصيرُ أمامَ أُقصوصة. وعمومًا هناك خصائص كثيرة تميِّزُ القصةَ القصيرةَ جدًّا كجنسٍ أدبي، منها ما هو فني ومنها ما هو دلالي، وما الخصائص التي ذكرناها إلا جزءٌ بسيطٌ منها. ومِن أهمِّ روّادِ القصةِ القصيرةِ جدًّا: زكريا تامر(من سوريا)، محمود شقير(من فلسطين)، ومن المغرب: فاطمة بوزيان، عبد الله المتقي، الزهرة رميج، وحسن برطال الذي سنتَّخذُ من مجموعتِه القصصية الأخيرة "قبل النوم بقليل" نموذجًا نبيِّنُ من خلاله مقوماتِ القصةِ القصيرةِ جدًّا عنده. "الابن الرقمي" هو عنوان أول قصةٍ ضمن المجموعة: "لم تجد فيه الذكاء المنشود فتركته (فارغًا) وتكفلت بهاتف تشحنه خمس مرات في اليوم". تميَّزتْ هذه القصةُ بالتكثيفِ والاختزال، بحيث لم تتجاوزْ سطرين، وقد استطاعَ الكاتبُ أنْ يُصوِّرَ مِن خلالها واقعَ بعض الأمهات في عصرِنا الحالي، ممن أدمنَّ على الهاتفِ وأغفلنَ تربية أبنائِهن، وهو الأمر الذي نجدُه مع بطلةِ القصة؛ فبدل أنْ "تشحنَ" ابنَها وتهتمَّ لحالِه فضَّلتْ أنْ تشحنَ هاتفَها، كما تميَّزتْ هذه القصة بوجودِ قفلةٍ مدهشةٍ، فالقارئُ للقصةِ ينتظرُ من الأمِّ أنْ "تشحن" ابنَها بعدما لم تجدْ فيه الذكاءَ المطلوب، لكنه في النهاية يُصدَمُ بأنَّها لم تهتم لأمرِه وتركته على نفسِ الحال، وقررتْ في المقابلِ شحنَ هاتفها! القصة السابعة ضمن المجموعة "قبور الأثرياء": "أكدت له العرافة على أن الكنز سيكون في قبر أخيه، فعجل بقتله ليصل إلى مكان دفنه". صوَّرَ لنا الكاتبُ من خلالِها حالَ بعض الإخوة الذين قد يدفعُ بهم الطمعُ إلى قتلِ بعضهم بعضًا، كما هو الشأن بالنسبةِ لبطلِ القصةِ الذي قَتَلَ أخاهُ طمعًا في الحصولِ على الكنز غير آبهٍ بما يجمعهما من أخوة، فكمْ صادفنا على مواقعِ التواصلِ الاجتماعي قصصًا من هذا القبيل لأشخاص قتلوا إخوتَهم من أجلِ الإرث، فكما يُقال: " قديمًا كان الإخوةُ يقسمون الإرثَ، أما اليوم الإرثُ يقسمُ الإخوةَ"، وهذه القصة هي الأخرى تميَّزتْ بالاختزالِ وبوجود قفلةٍ مدهشةٍ. وقد جاءتْ القصةُ الثامنةُ ضمن المجموعة تحت عنوان "رِجل وحذاء": "هو لباس لها وهي تعيش في قلبه، هذه المرة خرجت ولم تعد وفي المخفر تلقى خبر وفاتها تحت التعذيب و(الفلقة) وسؤالا: لماذا يجمعكما (الشارع) ويفرقكما (البيت)؟" وقد اختزلَ من خلالها الكاتبُ كميةَ النفاقِ الاجتماعيّ الذي يتخبّطُ فيه بعض الأزواج، بحيث تجدُهم في البيتِ يعيشونَ في صراعٍ دائم، لكنَّهم يَظهرون للناسِ خارجَ البيت على أنَّهم أزواجٌ مثاليون، وأنَّهم يعيشونَ في سعادةٍ وهناءٍ، والحالُ أنهم ليسوا كذلك البتة. في حين نجده قد مَحوَرَ القصةَ الثانية عشر من مجموعته الموسومة ب "اسمه عزيز" حول مسألة عزةِ النفسِ التي فقدَها الكثيرون حيث يقول: "سُجنت بتهمة الخيانة، ولما زارها الزوج اعتذرت ثم عانقته وقالت: سامحني يا (عزيز) واعتبرني زليخة فأجاب: أنا لست عزيز مصر". إذ ينبغي للرجلِ الحق أنْ تكونَ له غَيرة على زوجتِهِ وأهله، إذ لا ينبغي له أنْ يسمحَ لزوجتِه بأنْ تخونه، وألا يمرَّ مرورَ الكرامِ على أمرٍ كهذا، كما هو الشأن بالنسبةِ لعزيزِ مصر الذي أرادتْ زوجتُه "زليخة" خيانتَه مع يوسف -عليه السلام-، لكن سيدنا يوسف أبى واستعصم، ولمّا عَلِمَ العزيزُ بالقصةِ لم يقمْ بأيِّ ردةِ فعل تبينُ رجولتَه، بل اكتفى بقول: "يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبكِ إنكِ كنتِ من الخاطئين"، فبطلُ القصةِ وإنْ كان يشتركُ مع عزيز مصر في الاسم، إلا أنَّه يختلفُ معه في الرجولة وهو ما يدلُّ عليه قولُ الكاتبِ على لسانِ البطل: "أنا لستُ عزيزَ مصر". وفي القصة الخامسة عشر من نفس المجموعة "نهاية المنع" نجدُ أنَّ الكاتبَ قد تطرَّقَ للحديثِ عن موضوعِ جائحةِ كورونا التي اجتاحتْ العالمَ وقلبتْهُ رأسًا على عقب حيث يقول: "كوفيد منعنا من المصافحة، وهم يطلبون منا أن نضع (اليد في اليد) للوصول إلى المناعة الجماعية". وما ميَّزَ هذه القصة أنَّها احتوتْ على مُفارقةٍ عَجيبةٍ؛ ذلك أنَّ كوفيد فرضَ علينا عدم المصافحة درءًا للإصابةِ به من جهة، وفي الجهةِ المقابلة يُطلبُ منا وضعُ اليدِ في اليد من أجلِ التصدي لهذا الفيروس اللعين. أما القصة السابعة عشر ضمن المجموعة "القياس" والتي قال فيها الكاتب: "كلما قرأ ورقة من مقرره الدراسي يقتلعها.. المعلم يُوبخه، لكن التلميذ يتكلم عن حكايةِ أبيه مع (اليومية العصرية)". فتنبِّهُ لمسألةٍ مهمة، بل مهمة جدًّا ألا وهي تقليدُ الأبناءِ لآبائِهم، فالابنُ في القصةِ حاولَ تقليدَ أبيه، إذ كلما قرأ ورقةً من مقررِه الدراسي يقومُ باقتلاعِها كما يفعلُ والدُه مع اليومية العصرية، لذلك ينبغي للآباء الحرص على أنْ يكونوا قدوةً حسنةً لأبنائِهم؛ فكلُّ تصرفٍ صادرٍ منهم سينتقلُ مبدئيًّا إلى أبنائِهم. وقد تشابهتْ القصة الرابعة والعشرون PCR مع القصة الخامسة عشر من حيث الموضوع، إذ هي الأخرى تمحورتْ حولَ فيروس العصر كوفيد 19! يقول فيها الكاتب: "يحشر أنفه في صندوق القمامة.. الرجلُ يبحث عن دليل على عدم إصابته". فالكلُّ في هذه الفترة كان لديه خوف رهيب من الإصابةِ بالفيروس اللعين، فحتى لو أصيبَ الواحدُ منا بالإنفلونزا تجده خائفًا من أنْ يكونَ مصابًا بكورونا؛ نظرًا لتشابهِ الأعراض، وهو الأمر الذي حدث مع بطلِ القصة؛ إذ قام بحشرِ أنفِه في صندوقِ القمامة بُغيةَ التأكُّدِ من عدمِ إصابته بالفيروس، أو لربما أخبروه في المستشفى بعد قيامِهِ بالتحليلات بأنَّه حاملٌ للفيروس رغم أنَّ التحاليلَ التي أجراها بخصوص هذا الأمر كانتْ سلبية، وقد فعل ما فعلَه ليبيِّنَ لهم أنَّه غير مُصاب. في حين جاءتْ القصةُ الثامنة والخمسون تحت عنوان "دلتا" وتقول: "لم يستوعبْ قيمة (دلتا).. الطالبُ لم يجد حلولا لمعادلة من الدرجة الثانية". وهي قصة تبيِّنُ كيف أنَّ بعضَ الدروسِ التي ندرسها ضمن المناهجِ التعليمية لا تفيدُنا في شيءٍ في الحياة، ولعلَّ هذا ما حصل مع بطلِ القصة، إذ لمْ تنفعْهُ لا دلتا ولا المعادلات أمامَ مصاعبِ الحياة، فهو في حاجةٍ إلى دروسِ الحياةِ حتى يتعلم. وأما قصة "ذخيرة الملاعق" (القصة الواحدة والسبعون ضمن المجموعة): "قصفوا بيوتَ غزة وفتشوا(مطابخها) خوفًا من آليات الحفر الخارقة الموجودة هناك". فتذكّرنا بقصة الفلسطينيين السِّتة الذين هربوا من سجنِ المحتل الإس*رائيلي، وذلك عن طريقِ نفقٍ حفروه بواسطة ملعقة، ولعلَّ هذا ما جعلَ المُحتلَّ في القصةِ يفتِّشُ المطبخَ خوفًا من وجودِ ملاعق حتى لا يُعادُ نفسُ السيناريو، ولعلَّ هذا يشِفُّ عن مدى جبنهِ، كيف لا وهو يخافُ مما قد تفعله ملعقة! وقد ارتبطتْ القصةُ السادسة والسبعون المعنونة ب "الحمال" بظاهرةٍ اجتماعيةٍ خطيرةٍ وهي زواجُ القاصرات حيث يقول فيها الكاتب: "الطفلةُ التي أتعب ثقل المحفظة كتفها تتزوج اليوم.. بعد تسعة أشهر من الحمل، عادت المحفظة إلى ظهرها". فنسبةٌ كبيرةٌ من الفتيات يعانين من هذا الأمر خاصة اللواتي يسكن في البوادي، فتجدهن يتحملنَ مسؤولياتٍ أكبر من عمرهن خاصة بعد الحملِ، في الوقتِ الذي كان من المفترضِ أنْ يتواجدن داخل حجرات الدراسة. وأما قصة "حرية التعبير"(القصة السابعة والسبعون ضمن المجموعة):" والتي يقول فيها حسن برطال "المناضل يُضرِبُ عن الطعام (شهرين متتابعين)، ولمّا سألوه عن السبب، تكلَّمَ عن عدم صومِه رمضان عمدا". فتميَّزتْ بوجودِ مُفارقةٍ عجيبةٍ؛ ذلك أنَّ المناضلَ أضربَ عن الطعام لمدةِ شهرين متتابعين، وحينما سُئِلَ عن السبب تكلَّمَ عن عدم صومِه رمضان عمدًا، ومن هنا يُستنتجُ أنَّ حريةَ التعبيرِ مجرَّدُ إشاعةٍ ليس إلا. وفي قصة جدتي(القصة الواحدة والتسعون ضمن المجموعة): "في بيتنا، كان لدينا (LA VAR) يعود إليه أبي؛ ليتخذَ القرار الصحيح. نجدُ الكاتبَ قد شبَّهَ الجدة ب"La var"، ولعلَّ وجهَ الشبهِ يكمنُ في أنَّ كلًّا مِن La var والجدّة يتمُّ العودةُ إليهما لاتخاذِ القرارِ الصحيح؛ فالقصةُ تصوِّرُ لنا قيمةَ الجدّةِ في البيتِ، وكيف أنَّها صاحبة "الري والشوار" وذلك لما راكمته من تجاربَ عديدةٍ في الحياةِ جعلتْها تحتلُّ مكانةَ الحاكمةِ في كلِّ بيت. ورشح حسن برطال للقصة الثالثة والتسعين من مجموعته عنوان "أقوى من الرصاص" وقال فيها: "حمامي الزاجل الذي يحمل رسائلي تم القبض عليه، الحرف سلاح محظور في زمن (الحرب الكلامية). مبينًا كيف أنَّ أثرَ الكلمةِ أقوى من الرصاص، فكما يُقال: "الجرحُ المادي يُشفى بينما الجرح المعنوي فلا". ولعلَّ هذه القصة تذكِّرنا بقصةِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمّا دخل إلى مكةَ في عُمرةِ القضيِّة وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول: خلوا بني الكفارِ عن سبيله، نحن ضربناكم على تنزيله، ضربًا يزيل الهامَ عن مقيلِهِ، ويذهلُ الخليلَ عن خليلِهِ، فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي حَرم الله تقول الشِّعر؟ فقال له رسول الله -صلي الله عليه وسلم- خلِّ عنه يا عُمر، فلهيَ أسرعُ فيهم من نضجِ النبل. ويقول الكاتب في القصة السابعة والتسعين "حادثة شغل": "عامل البناء يسقط من الطابق الرابع، وفي وجود أبنائه (الثمانية) يكتشف المحققُ أنَّ سببَ الوفاة يعود إلى عدم استعماله لوسائل الوقاية". وهي قصة يمكن تلخيصها في القول القائل "العبرةُ ليست بالكم وإنما بالكيف" فالأب في هذه القصة رغم كثرة عدد أبنائه، إلا أنَّهم لم يفيدوه في شيء وإلا ما كان في حاجةٍ إلى العملِ أصلا، وبالتالي ما كان ليسقطَ من الطابق الرابع أثناء مزاولة عمله. على سبيل الختم: إنَّ قصصَ المبدعِ "حسن برطال" قد تميَّزتْ بمجموعةٍ من الخصائصِ الفنية من قبيل الاختزال والتركيز، السخرية، المُفارقة، القفلة المدهشة، والخصائص الدلالية التي تجلَّتْ في تنوعِ المواضيعِ التي تناولتْها مجموعتُه، وقد نجحَ الكاتبُ من خلال قصصه فضلًا عما امتازتْ به من التكثيف والاختزال أنْ يعالجَ مجموعة من القضايا الاجتماعية والنفسية، وأنْ يمرِّرَ مجموعةً من الرسائلِ القيمة، فيمكن وصف قصصه بأنَّها قليلة المفردات كثيرة المعاني وهذا ما جعلها تستحقُّ وعن جدارة إدراجها ضمن القصص القصيرة جدًّا كجنسٍ أدبي إبداعي له وجوده وخصائصه ومقوماته التي يمتاز بها عن غيره. نبذة مختصرة عن حسن برطال: من مواليد سنة 1958 بالدار البيضاء، يعدُّ أحدَ أهم رواد القصة القصيرة جدًّا في المغرب، حيث صدرتْ له مجموعةٌ من الأعمال القصصية جدًّا، نذكر منها: أبراج، قوس قزح، الماء والبنون، فارسة الأحلام، مغرب الشمس، لا شرقية لا غربية، النرجيلة الرقمية، إلخ...