تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    دراجي يهاجم "الكاف" بعد قراره الذي أنصف نهضة بركان    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    رئيس وزراء اسبانيا يفكر في الاستقالة بعد فتح تحقيق ضد زوجته في قضية فساد    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    العدو الجزائري يقحم الرياضة من جديد في حربه على المغرب    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجامعة الملكية لكرة القدم تتوصل بقرار ال"كاف" بشأن مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    توقعات بتأجيل كأس أمم أفريقيا المغرب 2025 إلى يناير 2026    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    تهديدات بالتصعيد ضد ّبنموسى في حالة إصدار عقوبات "انتقامية" في حقّ الأساتذة الموقوفين    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذائقة الجماليّة عند الفخر الرازي وأثرها في المعنى والتحليل النحوي
(التفسير الكبير نموذجًا)

جُبِل الإنسان في طبعة على حبِّ الجمال, فهو يتلمَّسه في كلِّ ما يصادفه في الحياة, في مسكنه وعمله وعلمه, في طعامه وشرابه ولباسه, وفيما يقرأ ويشاهد ويسمع, وهو معتاد على إطلاق أحكامٍ ذوقيّةٍ تحمل دلالاتِ الاستحسان لما يُعجَب به, والاستهجان لما ينفر منه, فإذا كان متمتِّعًا بشخصيّةٍ فذّةٍ مصقولةٍ في الميدان الذي يُطلِق فيه هذه الأحكام, كانت أحكامه أشبهَ بنقاطٍ جوهريّةٍ تحدّد قيمة ما بين يديه. ولهذا كان نتاج الفكر في قضيّة الجمال يختلف من شخص إلى آخر بحسب التجربة الشخصيّة لكل متلقٍ, وإن كان المفهوم متقاربًا في الأغلب الأعمِّ, إذ رأى البعض أن الجمال يقوم على أساس النظام والتماثل والانسجام, وأخضع آخرون الجمال للأخلاق وربطوه بالاعتدال, حيث لا إفراط ولا تفريط, وقرنه غيرُهم بالخير والمنفعة, وعبّر قومٌ عن الجمال بالتآلف والتكامل والتوازن بين الشكل الخارجيّ للأشياء والمضمون الداخليّ( ). وإذا نظر المرء إلى هذه المفاهيم الفكريّة فلابدّ من أن يصل إلى أنّ الجمال هو تناغم الشكل مع وقعه في النفس وقتَ استقبال الموضوع المتلقَّى أيًّا كان, فإن خُصِّص المفهوم الجماليُّ بما يتعلق بالنصِّ, كان الجمال هو تكامل الألفاظ أو المفردات مع المعنى المراد في نفس المتلقّي (القارئ المبدع), إذ يكون النصّ قادرًا على خلق السموِّ في المتلقّي ليتحسّس هذا التكامل فيصل إلى علم الجمال, الذي يهدف إلى وصف الظواهر الجماليّة وفهمها وتفسيرها من خلال الفلسفة( ).
ولمّا كان القارئ المبدع مشترِكًا في عمليّة إنتاج دلالة النصّ, كان على أحكامه أن تحمل نصيبًا من الدقّة العلميّة, إذ لا يمكن أن ينثر أحكامًا طائشة لا تعليل لإطلاقها, فعليه أن يلجأ إلى تقديم تعليل منطقيٍّ يقدم رؤيتَه بشيء من الموضوعيّة, التي تقترب بأحكامه من حقيقة دلالة النصِّ المقروء, فيبيّن أسباب قبوله أو رفضه لما يتلقَّى, وإذا كانت طبيعة البحث تقتصر على أثر الذائقة الجمالية للرازي(543-606ه)( ) في التحليل النحوي, فإنّ تناول الأحكام الجمالية سيقتصر على إيراد الرازي لها حين تمتزج تعليلاته بالتركيب اللغوي.
حاز القرآن الكريم على إجماع الأمّة بأنّه معجز بفصاحته وبلاغته وجمال نظمه واتساقه معنى ولفظًا, ولهذا أكبّ العلماء على مدارسته حرفًا حرفًا, متدبّرين في معانيه, فازدادوا يقينًا بتفوّقه على الكلام البشريّ أيًا كان, وفي طليعة هؤلاء العلماء كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم, إذ خطّوا لكلّ محبّ علمٍ الطريقَ للوصول إلى حقيقة لا تقبل الجدل, وهي أن نظمه منزّه عن الاختلاف أو التنافر أو التفكّك, بخلاف غيره من النصوص. ولهذا حاول العلماء, لاسيما النحاةُ والمفسرون, أن يتمعّنوا في النظم القرآنيّ جاهدين أن يأخذوا بما يتناسب والاتّساقَ اللغويَّ للنصّ في القرآن, للوصول إلى معايير جماليّة ينبغي أن تراعى عند التحليل النحوي لآيات النصّ المقدّس المترفّع عن أساليب الكلام العادي والضرائر الشعرية( ).
هذا, ولم يكن ليخفى على الرازي تلمّسُ المعاييرَ الجماليّة في النصّ القرآنيّ, للوصول إلى تفسير يليق بالمكانة العظمى لهذا النصّ المقدّس, فقد كان مستحضِرًا للأصول اللغويّة التي يقيس عليها ما يتعرّض له في تحليله, فإذا وقف عند تركيب قرآني عدل عن الأصل المفترض, على الرغم من جواز هذا العدول, فإنّه يقوم بإيضاح النقاط الجماليّة التي جاء التركيب ليقدّمها للإنسان المسلم, وبيان أنّ هذا العدول لم يكن لضرورة أو لنقصِ فصاحة, وإنّما جاء دليلًا على الكمال, ومنه ما أورده الرازي في بيان جماليّة التقديم والتأخير في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾( ), فأصل التركيب يتطلّب أن يقال: نعبدك, وقد جاءت الآية على خلاف هذا الأصل, إذ تمّ تقديم المفعول به على الفعل, وتمّ التعبير عنه بالضمير المنفصل بدلًا من المتّصل, ولإيضاح هذا العدول يورد الرازي تحليلًا نحويًّا جماليًّا بقوله: قال سبحانه: (إياك نعبد)، فقدّم الضمير (إياك) على الفعل (نعبد), ولم يقل: نعبدك، لوجوه:
أحدها: أنّه سبحانه عرّف العابدَ ذاتَه سبحانه أولًا ليتنبّه على أن المعبود هو الله الحق تعالى، فلا يتكاسل في التعظيم, ولتحضُرَ معرفةُ الله في قلبه، فتسهل عليه العباداتُ من القيام والركوع والسجود, لأنّ النفس إذا مسّها طائف من الشيطان تذكّرت حضرة جلال الله من مشرق قوله (إياك نعبد), وبذلك تبصر وتستعدّ لأداء العبادات والطاعات.
الثاني: أنّك إذا قلت (نعبدك) فبدأت بذكر عبادة نفسك, ولم تذكر المعبود، احتمل أن يقول إبليس اللعين هذه العبادة لغير الله تعالى، أمّا إذا غيّرت الترتيب فابتدأت (إيّاك) ثم أتبعته ب(نعبد) كان ابتداؤك ب(إيّاك) بيانًا صريحًا بأنّ المقصود والمعبود هو الله تعالى، فكان تقديم ما يخصّ الله تعالى أبلغَ في التوحيد, وأبعدَ عن احتمال الشرك, ثمّ إنّ الله تعالى قديم واجب لذاته, متقدّم في الوجود على المحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدّمًا على جميع الأذكار, فلهذا السبب قدّم قوله (إيّاك) على (نعبد) ليكون ذكر الخالق متقدّمًا على ذكر الخلق( ).
الثالث: أنّه قدّم (إيّاك) على قوله (نعبد) ليكون العبد مستغرقًا في مشاهدة نور جلال (إيّاك)، ومتى استغرق العبد في ذلك كان في وقت أداء العبادة متنعّمًا مستقرًا في عين الفردوس، كما جاء في الحديث القدسي: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ..."( ). ولهذا قال لأمّة موسى عليه السلام: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾( )، أمّا أمّة محمّد عليه السلام فقد خصّهم بزيادة الفضل فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾( ), فرفعهم بذكره, ومن هذا الذكر تقديم (إيّاك) ( ).
وبعد أن استفاض الرازي في بيان جمال التركيب في تقديم ما يخصّ ذكر الله تعالى في (إيّاك نعبد), لجأ إلى السبر والتقسيم ليكون حكمه الجماليّ في غاية الوضوح للمتلقّي, فلا يخامره أدنى شكٍّ في صحته, وقد قدّم ذلك عن طريق المقارنة في الترتيب بين تركيب (إياك نعبد) وتركيب(الحمد لله), فقال: إن قيل: إنّ جميع ما ذكرتم من أسباب التقديم محقّقٌ في قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾( ), لكن التركيب قُدِّم فيه ذكر الحمد على ذكر الله تعالى, فما سبب هذا الاختلاف؟ فالجواب أن قوله (الحمد) يحتمل أن يكون لله تعالى ولغيره, فإذا قلت (لله) فقد تقيّد الحمد بأن يكون لله فحسب, ومنع عن غيره, أمّا لو قدّم قوله (نعبد) لخرج عن الحصر, ولاحتمل أن تكون العبادة لله تعالى ولغيره, وذلك كفر. ثم إنّ الحمد لما جاز لغير الله, في ظاهر الأمر, كما جاز لله تعالى، لا جرم حسن تقديم الحمد, أمّا العبادة فلا تجوز لغير الله تعالى, ولذلك كان تقديمُ قوله (إيّاك) على (نعبد)، وبهذا التقديم لم يبقَ في الكلام احتمالٌ في أن تقع العبادة لغير الله تعالى( ). ومن هنا كان التقديم والتأخير في التركيب محطّةً جماليّةً بسط فيها الرازي إبداعه في التحليل, مظهرًا تفوّق التركيب القرآني الذي يتوافق والمعنى المراد, فما كان الترتيب إلا انعكاسًا للتفوّق البلاغيّ الذي تنطق به الدلائلُ والمعاني, التي اقتضت العدول عن الأصل المفترض للترتيب في التركيب.
ولمّا استوفى الرازي دلالة التقديم والتأخير في الآية, وقف عند عنصر آخر يتطلّب من الإنسان المبدع أن يتلمّس البلاغة الإلهيّة في مجيئه على صورة مخصوصة دون غيرها, على الرغم من أنّ التركيب يحتمل أن يكون على غيرها, بل يغلب على الكلام البشريّ أن يأتي على غيرها, لأنّ الإنسان إذا كان يسوق كلامًا عن نفسه فالغالب أن يتكلم في صيغة المفرد, فيقول: أعبد, والقارئ أو المصلي هو فرد واحد, فما فائدة التعبير بصيغة الفعل الدالة على الجمع؟ لاسيما أن النون في قوله (نعبد) إمّا أن تكون نون الجمع, وإمّا أن تكون نون التعظيم، والأول باطل، لأنّ المصلي شخص واحد, والواحد لا يكون جمعًا، والثاني باطل, لأنّ اللائق بالإنسان عند أداء العبادة أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة( ). وهذا ما تأمّله الرازي بتمعّنٍ أبرز ذائقةً جماليّةً عاليةَ المستوى حين قال: إنّ فيه وجوهًا تدلّ على حكمة بالغة:
الوجه الأوّل: أنّ المراد من هذه النون نون الجمع, وفيه تنبيه على أنّ الأَوْلى بالإنسان أن يؤدّي الصلاةَ في الجماعة، وفائدة صلاة الجماعة معلومة لقوله عليه السلام: "التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها"( ), وهو حين يصلي بالجماعة فيقول (نعبد)، يريد منه ذلك الجمع، وإن كان يصلي وحده كان المراد: إنّي أعبدك والملائكة معي في العبادة( ).
الوجه الثاني: أنّ المؤمنين أخوة, فلو قال (إيّاك أعبد) لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره، لكنّه بقوله (إيّاك نعبد) يذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقًا وغربًا, فكأنّه سعى في إصلاح أحوال سائر المؤمنين.
الوجه الثالث: كأنّ العبد يقول: إلهي ما بلغَتْ عبادتي إلى حيث أستحقُّ أن أذكرها وحدَها, لأنّها ممزوجة بجهات التقصير، ولكنّي أقرنُها بعبادات جميع العابدين فأقول: (إيّاك نعبد), وبذلك يعرض المصلّي على حضرة الله تعالى عباداتِ العابدين جميعِهم، ولا يليق بكرمه سبحانه أن يميز البعض عن البعض, فيقبَلَ البعض ويردّ الباقي، وردّه للكلّ غير جائز, لدخول عبادات الملائكة والأنبياء والأولياء في قوله (إيّاك نعبد)، وحينها يتحقّق الأمل بقبول الكلّ، وتصير عبادة هذا القائل مقبولةً ببركة قبول عبادة غيره، وكأنّ التقدير: إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردّني, لأنّي لستُ بوحيد في هذه العبادة, بل نحن كثيرون, فإن لم أستحقّ الإجابةَ والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبِّدين فأجبْني( ). وبهذه الوجوه يتبيّن أن صيغة المضارع التي تبدأ بالنون للجمع وليست للعظمة, وهي على الحقيقة لأنّ العبد مأمور بأداء الصلاة في الجماعة, وبذلك يكون في الجمع, ويقتضي منه أن يذكر الفعل بدلالة الجمع, أو لأنّ العبد يعبّر عن عبادته وعبادة غيره من المسلمين, وهذا يتناسب ودلالة الجمع لا الإفراد, أو لأنّه يستحي من تقصيره فيعبّر بصيغة الجمع مرفقًا عبادته بعبادة من لا تُرَدّ عبادته, وبهذا يكون مقبولًا عند الله تعالى, وهو غاية المطلوب للعبد. وعليه فالتركيب القرآني هو المناسب لحالة العبد في مقام العبادة, وفي هذا قمّة التعبير البلاغي الذي تتبعه الرازي في توضيحه للمعنى الذي اقتضى هذا التعبيرَ دون غيره.
ولم يخفَ على الرازي تتبع تماسك العناصر التركيبية من خلال معطيات النصّ من سبكٍ والتحام, فالسبك يقتضي أن تساق العناصرُ التركيبيّة في نسق موحَّد, تتسلسل فيه هذه العناصر مترابطة لتخدم الالتحام المعنوي, الذي يقدّم النص على أنّه وحدة متكاملة تحمل المعنى المراد إلى المتلقّي بغلاف الألفاظ( ), فإذا سيق ما كان في ظاهره كسرًا لمعيار السبك تطلّب من المحلّل الوقوف على الأسباب المعنويّة التي أدّت إلى هذا العدول, ولاشكّ في أنّ بيانَ أمرٍ كهذا في نصٍّ تعالى على بلاغة الناطقين, يقتضي ذائقةً تمنح أيَّ عدول قيمته الجماليّة التي تقترب من حقيقيته, وهذا ما كان من الرازي في تلمّسه لبلاغة الأسلوب القرآني حين برز فيه انتقال الضمائر من الغائب إلى المخاطب, فقد أسهب في بيان جمال الانتقال في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾( ), إذ ارتكز الرازي في تحليله الجمالي على الربط بين النصّ القرآني والمقام الذي يتلو فيه المسلم آياته, فالمقام الذي يكون فيه المصلي لا يناسبه إلّا هذا التغييرُ والانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير الخطاب, لأنّه التعبير المناسب لحال المسلم في جميع أحوال حياته, وبيان هذا في قوله: إنّ الالتفات من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب في قوله (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين) تتجلّى الفائدة منه في وجوه:
الأوّل: أنّ المصلي يكون أجنبيًّا عند الشروع في الصلاة، فيثني على الله تعالى بلفظ ضمير الغائب إلى قوله (مالك يوم الدين)، ثم إنّه تعالى كأنّه يقول له: حمدتَني وأقررتَ بأنّي إله, ربٌّ, رحمن, رحيم, مالك ليوم الدين، فنعم العبد أنت, قد رفعنا الحجاب وقرّبناك, فتكلّم بالخطاب وقل (إيّاك نعبد).
الثاني: أنّ قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ, اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) سؤال, وأحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة، والدليل عليه مشافهة الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم بقولهم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾، و﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾، و﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾, و﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾( )، وسبب الحسن فيه أن الردّ والرفض من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد. ثم إنّ قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) عبادة, والعبادة خدمة، والخدمة في الحضور أولى.
الثالث: أنّ من أوّل السورة إلى قوله (إيّاك نعبد) ثناء، والثناء في الغيبة أولى، ومن قوله (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين) إلى آخر السورة دعاء، والدعاء في الحضور أولى.
الرابع: أنّ العبد حين يشرع في الصلاة ينوي التقرّب إلى الله تعالى، فيذكر أنواعًا من الثناء، ومن ثم يقتضي الكرم الإلهي إجابته في تحصيل تلك القربة بنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، فقال: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)( ). ومن هنا كان العدول عن مفهوم السبك النصّيّ دافعًا للرازي في تحليله الجماليّ, فالنصّ القرآنيّ لم يفقد بالالتفات من الغائب إلى المخاطب التحام السلسة المعنويّة, بل على العكس من ذلك, فالالتفات قد حمّل النصَ معانيَ إضافيةً لم تكن لتوجدَ لولا هذا الانتقال, الذي عبّر عن قرب العبد من معبوده خالقه. وقد نصّ الرازي في تحليله على معايير بلاغية تعين المتلقّي على فهم المراد الإلهيّ, من خلال اختصاص كلّ مقام بمقال يكون معبّرًا عنه, فمقام الثناء والمديح يقتضي المغايبة, ومقام الطلب والدعاء يقتضي الخطاب, وكلّ مقال يكون الأَوْلى بمقامه.
وربّما توسّع الرازي إلى ما يتخطّى به بيانَ المعاني التي حملتها التراكيب القرآنيّة على الصورة التي وردت بها, فيأتي بتحليل كانت الغاية الجماليّة فيه الهدف الأوّل والأخير, ويزيد عليه بأن يجعلها سببًا في ترجيح قراءة على أخرى, ومن هذا ما أورده في تحليله لدلالة التنكير في قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾( ), فقد قال سبحانه: (على حياة) بالتنكير, لأنّه أراد حياة مخصوصة, وهي الحياة المتطاولة, ولذلك كانت القراءة بالتنكير أوْقعَ في نفس السامع من قراءة التعريف (على الحياة)( ). ولا يخفى أثر الذائقة الجماليّة في توجيه معنى التنكير, فقد كان ذا تأثير أكبرَ في المتلقّي, الذي خصَّه الإله بخطابه, ممّا يجعل القراءة به راجحةً لقراءة التعريف عند الرازي.
وقد نال اتّساقُ المعطيات النصيّة حظوةً كبيرة لدى الرازي, الذي كان يتتبّع المعاني التي تُظهر سمة ارتباط النظم والتحامه في النصّ القرآنيّ, وهذا المعيار الجماليّ أخذ حيّزًا واسعًا في تحليل الرازي لتراكيب القرآن الكريم, فربّما كان الوجه النحوي مرجوحًا عنده, على الرغم من قوّته عند غيره من العلماء, لأنّه يؤدّي إلى تفكيك النظم, فقد اختلفوا في المقصودين من ضمير الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾( ), فقال قوم: هم المؤمنون بمحمّد صلى الله عليه وسلم, لأنّ من ينكر الصلاة والصبر على الإسلام لا يكاد يقال له: استعن بالصبر والصلاة، ولهذا وجب صرفه إلى من صدّق بمحمّد صلى الله عليه وسلم, ولا يمتنع أن يكون الخطاب في قوله ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ*...أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾( ) لبني إسرائيل، ثم يكون في (وَاسْتَعِينُوا) خطابًا للمسلمين. لكنّ الرازي يرى أنّ الأقرب أن يكون الخطاب في (وَاسْتَعِينُوا) لبني إسرائيل, لأنّ صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم. وهنا يواجهه إشكالَ هذا التوجيه, فكيف يؤمر بنو إسرائيل بالصبر والصلاة مع أنهم منكرون لهما؟ ويردّ الرازي على هذا الإشكال بقوله: لا نسلّم بأنّهم منكرون لهما, لأنّ كلّ إنسان أيًّا كان يعلم أنّ الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن, وأنّ الصلاة التي هي تواضع للخالق, والاشتغالَ بذكر الله تعالى يسليان عن محن الدنيا وآفاتها، وعليه فبنو إسرائيل يقرّون بالصلاة, غير أنّ الاختلاف فيما بيننا وبينهم في كيفيّة الصلاة لا في حقيقتها، فصلاة اليهود واقعة على كيفيّة مختلفة عن صلاة المسلمين, وبهذا يزول الإشكال المذكور. وليكون هذا الوجه واضحًا نقول: إنّه تعالى لمّا أمر بني إسرائيل بالإيمان وبترك الإضلال وبالتزام شرائع الصلاة والزكاة بقوله: ﴿وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ*وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾( ), كان ذلك شاقًّا عليهم, لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه, ولهذا حدّد الله تعالى علاج هذا المرض فقال: (واستعينوا بالصبر والصلاة)( ). وهكذا كان معيار اتساق النظم سببًا للأخذ بالوجه النحويّ, فالخطاب كان في خمس آيات لبني إسرائيل, والحكم بأنّه صار للمسلمين في الآية السادسة أمر يؤدّي إلى تفكيك النظم القرآني. وقد وضّح الرازي المعنى الذي يؤيّد عودة ضمير الخطاب لبني إسرائيل, وبهذا التفسير غدا الوجه النحوي واضحًا.
وربّما احتمل التركيب تعدّدًا في أوجه التحليل, لكنّ اتّساق النظم وحسنه ومعيار الفصاحة وصحة المعنى القرآني جعل الرازي يرفض التعدّد, ويفرض وجهًا واحدًا للتركيب, فقد اختلف المفسّرون في صاحب الحكاية لقوله: (أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ) من قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾( ), قال البعض: هو من جملة كلام الله تعالى, وقال الآخرون: هو من جملة كلام اليهود، من تتمّة قولهم (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم). وقد بيّن كلّ فريق المعنى على الوجه الذي ذهب إليه, فقال أصحاب الفريق الأوّل: إنّ المعنى على أحد ثلاثة أوجه:
الأوّل: أن يكون المعنى على الاستفهام, وهو على قراءة ابن كثير (45-120ه) ( ) (آن يؤتى) بمدّ الألف ظاهر, وعلى قراءة الجمهور بقصر الألف (أن يؤتى), يحمل على حذف همزة الاستفهام, والاستفهام للتوبيخ, والمعنى: أمن أجل أن يؤتى أحد شرائعَ مثل ما أوتيتم منها تنكرون اتباعه؟ ثم حُذِف الجواب للاختصار( ).
الثاني: أن يكون المعنى على حذف (فلا تنكروا), لدلالة (إِنَّ الهدى هُدَى الله) عليه, فهم لمّا قالوا لأتباعهم: لا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم, أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إنّ الهدى هدى الله, فلا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم من الهدى مثل ما أوتيتموه, أو يحاجّكم المسلمون بذلك عِندَ رَبّكُمْ إن لم تقبَلوا ذلك منهم( ).
الثالث: أنّ الهدى اسم للبيان, وعليه فقوله (إِنَّ الهدى) مبتدأ, و(هُدَى الله) بدل منه, وقوله (أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) خبر, و(لا) محذوفة منه، والتقدير: قل يا محمّد: إن بيان الله هو ألّا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وهو دين الإسلام, وألّا يحاجّكم اليهود, عند ربكم في الآخرة, لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون، وحذف (لا) جائز كما في قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾( ) أي ألّا تضلوا( ).
الرابع: أن (الهدى) اسم (إن), و(هُدَى الله) بدل منه, و(أَن يؤتى أَحَدٌ) خبره, والتقدير: إنّ هدى الله هو أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وعلى هذا التأويل فقوله (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ) لابدّ فيه من تقدير محذوف، والمعنى: أو يحاجّكم اليهود عند ربكم فيقضي لكم عليهم، والمعنى: أنّ الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام, الذي مَنْ حاجكم به عندي قضيت لكم عليه، وفي قوله (عِندَ رَبّكُمْ) ما يدلّ على هذا الحذف, لأنّ حكمه بكونه ربًّا لهم يدلّ على أنّه راضٍ عنهم, وذلك مشعر بأنّه يحكم لهم ولا يحكم عليهم( ).
أمّا القائلون بأن قوله (أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) من تتمّة كلام اليهود، فقد ذهبوا إلى أنّ في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل إنّ الهدى هدى الله، وأنّ الفضل بيد الله. والمعنى: لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا لأهل دينكم، وأسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلّا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين, لئلا يزيدهم ثباتًا, ودون المشركين, لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام. وقوله (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ) عطف على (أن يؤتى)، والضمير في يحاجّوكم ل(أحد)، لأنّه في معنى الجمع, والتقدير: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، إنّ المسلمين يحاجّونكم يوم القيامة بالحقّ, ويغالبونكم عند الله بالحجّة( ).
ويرى الرازي الوجهَ الأخير ضعيفًا، لأنّ اجتهاد اليهود في إبعاد أتباعهم عن قبول الإسلام كان أعظمَ من اجتهادهم في إبعاد غيرهم عنه، فكيف يليق أن يتواصَوا بالإقرار بما يدلّ على صحّة الإسلام عند أتباعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الآخرين؟ هذا بالإضافة إلى ضرورة تقدير الحذف في التركيب, لأنّ التقدير: قل إن الهدى هدى الله, وقُلْ إن الفضل بيد الله. ثم كيف وقع قوله (قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله) بين جزأي كلام واحد؟ وكيف كان التركيب على التقديم والتأخير, وهو يؤدّي إلى اختلال النظم, ويسوق فيه ما لا يليق بكلام الفصحاء؟ وكلّ هذا يجعل التركيب في غاية البعد عن الكلام المستقيم, فكيف بكلام الله تعالى؟ بالإضافة إلى أنّ الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدّى إلى المصدَّقِ بحرف اللام, فلا يقال صدّقت لزيد, بل يقال: صدّقت زيدًا، وعليه فينبغي أن يقال: ولا تؤمنوا إلّا من تبع دينكم، فيحتاج إلى حذف اللام من قوله (لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ), ويحتاج إلى تقدير باء محذوفة أو ما يجري مجراها في قوله (أَن يؤتى), لأنّ التقدير: ولا تصدّقوا إلّا من تبع دينكم، بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وقد اجتمع في هذا التفسير الحذف من الظاهر وتقدير محذوف في أصل التركيب وسوء النظم وفساد المعنى( ), ولهذا كان القول بأنّه من تتمّة كلام اليهود في غاية البعد, ويبقى القول بأنّ التركيب من جملة كلام الله تعالى. ومن هنا أطلق الرازي أحكامًا جماليّةً سوّغ فيها ردّه للوجه الثاني في تأويل الآية, وهذه الأحكام تندرج تحت مفهومي السبك والالتحام, اللذين يقدّمان المعنى وحدةً مترابطةً قائمة على التماسك بين تسلسل الألفاظ وتسلسل دلالاتها في النصّ, وهذا ما افتقده تأويل أصحاب الفريق الثاني كما يرى الرازي.
وقد يكون تناسب الوجه مع معيار التماسك في النظم من أهمّ الأسباب لتأييده لدى الرازي, لاسيما إذا كان الوجه الآخر يؤدّي إلى الضدِّ من ذلك , أي: يؤدّي إلى انقطاع المعنى في النظم, ومنه هذا ما ساقه الرازي في بيان دلالة الموصول في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾( ), فالآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع، لكنّها لم تُفصِح عن ذلك الخير, بل أبهمتْ من خلال الاسم الموصول (بما), ولذلك فقد احتمل أن يكون ما بُخِل به مالًا، وأن يكون علمًا. فعلى الأوّل يكون التركيب وعيدًا على البخل بالمال، والمعنى: لا يتوهمَنّ هؤلاء البخلاء بمالهم أنّ بخلهم هو خير لهم، بل هو شر لهم، لأنّ عقاب بخلهم يرجع عليهم، فهم (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة). وعلى الثاني يكون وعيدًا لليهود الذين يكتمون صفاتِ محمّد صلى الله عليه وسلم، فكان كتمانهم بخلًا. والقول الأوّل أوْلى، لأنّه تعالى أردفه بقوله: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ), وهو في المال حقيقة, وفي العلم مجاز، ثم إنّا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبًا في بذله في الجهاد, فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها من قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ ( ) إلى هذه الآية نظمٌ حسنٌ، ولو حملناها على أنّ اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم، إلّا على سبيل التكلّف، فكان الأوّل أولى( ). فالرازي أبعد الوجه الذي يجعل دلالة الموصول للعلم, لأنّه سيجعل السلسة المعنويّة تنقطع, وأيّد أن يكون للمال, لأنّه يتوافق وسياق الآية الذي يدور في فلك الجهاد, وهذا يدخل في مفهوم الالتحام, الذي يحقّق الاتّساق المعنويّ في النظم القرآنيّ.
وقد تكون جماليّة الاختيار الأسلوبي للتركيب القرآنيّ منبعًا لتفجير الحسّ الأدبيّ المرهف لدى الرازي, إذ يقدّم فيه عناصر التركيب القرآنيّ على كلّ اختيار جاز له أن يحلّ محلّه, وذلك بتوضيحه للغاية المعنويّة التي تناغمت والأسلوب الذي ساقه القرآن الكريم, فلا يمكن لأيّ أسلوب اختياريّ لغويّ آخر أن يوفّيَ كما وفّى التعبير القرآنيّ, فقد يأتي التركيب القرآنيّ وفق أسلوب معيّن يستدعي التأمّل في كيفيّة التركيب وفي جمال مجيئه على هذه الصورة دون غيرها, ومن هذا ما كان من الرازي لبيان جماليّة الاعتراض في تحليله لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾( ), ربّما تبادر الوهم إلى خاطر أحدهم فقال: لو كان تركيب التنزيل على الترتيب التالي: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا, لكان النظم مستقيمًا حسنًا، فلماذا ورد قوله: (كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) بين فعل القول ومفعوله؟
ويتولّى الرازي جوابه: إنّه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن، لأنّ الله تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين, لأنّه كان متخلّفًا عنهم، ثمّ أراد أن ينتقل إلى التعبير عن حزنه عند نصرهم لما فاته من الغنيمة، فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى قوله: (كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ), والمراد من هذا الاعتراض التعجب من موقف المنافق, لأنّ مثل هذا لا يظهر من الإنسان إلّا في حقّ العدو، فمن ودّ إنسانًا فرح لفرحه وحزن لحزنه, فكأنّه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق, فكلامه يُبعِد أن تكون بينكم وبينه مودّة أو مخالطة في الحياة، فهذا هو المراد من الكلام، وهذا الكلام وقع بيانًا لحالة هذا المنافق على سبيل الاعتراض, وهو في غاية الحسن( ). ومن هنا كان الاعتراض بين الفعل (ليقولن) وجملة مقول القول (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا) هو المحطّة الجماليّة التي لا يمكن أن يُعبَّر عن المعنى إلّا من خلالها, فالتعجب من تقلّب المنافق بين السرور والحزن يتطلّب وقفة تظهر مقدار فساد هذه الطريقة, وهذه الوقفة لا تكون إلّا باعتراض يقطع على السامع المعنى المساق ليتنبّه إلى سوء ما يبدر من المنافقين, فيحترس منهم. ولا يخفى على الرازي التقاط أمثال هذا التناسب السامي بين الصورة التركيبيّة والمعنى المراد.
وربّما كان الأسلوب القرآني قد اختار طريقة معينة للتعبير عن المعنى, تتفوّق في البلاغة على كل أسلوب آخر, لاسيما إذا كان المعنى يقتضي رسم صورة مبالغ فيها, تكون قادرة على نقل المشهد إلى المتلقّي, فيحيى معه وكأنّه حقيقة ماثلة أمام عينيه, فالقرآن قد ساق تركيب قوله: ﴿وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾( ) على الإبهام ثم التفسير بالتمييز, وهذا فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل: وفجرنا عيون الأرض، فالبيان بالتمييز هذا موقعه من البلاغة في كثير من مواضع استعماله، لأنّ المعنى فيه أثْبَتُ, ولهذا كان التركيب (وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً) أبلغَ من قولهم: وفجرنا عيون الأرض، لأنّ قولهم (وفجرنا عيون الأرض) يكون حقيقة لا مبالغة فيه، ويكفي في صحته أن يجعل في الأرض عيونًا ثلاثة( ), وهذا ما لا يوفّي بالمراد في وصف حالة من حالات العذاب الإلهيّ التي أهلك الله تعالى فيها قوم نوح عليه السلام, أمّا التعبير القرآنيّ فهو يدلّ على تدفّق المياه من جوانب الأرض كافّة, وهذا المعنى لا يناسبه إلّا الإبهام والتمييز.
ولاشكّ في أنّ التعبير القرآنيّ يختار الأسلوب الذي يترك الأثرَ الأبلغَ في نفس المتلقّي, ومن ثمّ يكون أقربَ إلى القلوب, فتصغي وتتدبّر فيما يبدو لها من المسلّمات التقليديّة, التي لا يخطر لها أن تقف عندها بتأمّل لتصل إلى التوحيد عن طريق الاجتهاد والعقل لا عن طريق التقليد الصرف, فالرازي بيّن سمة هذا الأسلوب في كثير من المواضع, ومنها بيان جماليّة التعبير بالاستفهام في تحليله لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ ( ), إنّ كلّ عاقل يقرّ بأنّ الله تعالى إنّما هو القادر على تكوين العالم من العدم, وبأنّه القادر على إفنائه ثم إعادة إحيائه من جديد, وهذا ممّا يبدو من البديهيات فلماذا ذكر القرآن الكريم هذه الحجة على الخصم في معرض الاستفهام؟ ويأتي الرازي بتحليله الجمالي قائلًا: إنّ معنى الكلام إذا كان ظاهرًا جليًّا حتّى كان حقيقة لا جدل حولها, ثم ذُكِر على سبيل الاستفهام, كان ذلك أبلغَ وأوقعَ في القلوب, لاسيما إذا فُوّض الجوابُ إلى السائل على سبيل الإقرار، على الرغم من أنّ الاحتجاج يحصل لو اعترف الخصم به, لأنّ في هذا تنبيهًا على أنّ هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم، وأنّه سواء أقرّ أم أنكر فالأمر متقرّر ظاهر( ). ولهذا كان اختيار التعبير القرآني لأسلوب الحوار, من خلال الاستفهام والجواب, هو الاختيار المعبّر عن الغاية في التقرير, وبه يكون الاحتجاج أبعد في البلاغة, لأنّ الغاية القصوى من الكلام أن يتخطّى الاتصالّ وصولًا إلى التأثير في النفوس, فإذا تمّ فيه المراد كان قد تفوّق على كلّ تعبير, وهذا سرٌّ من أسرار الإعجاز في النظم القرآنيّ.
وقد يدفع الرازي الوجهَ الأبلغَ في الإعجاز, كما يراه البعض, مراعاةً للتناسق النصيّ, لأنّ ارتباط العناصر التركيبيّة يقتضي أن يكون التحليل متوجّهًا وجهة واحدة, ولا يقبل أيَّ تأويل أو توجيه آخرَ, قال تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾( ), من المشهور أنّ في الآية محذوفًا, والتقدير: اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فضرب فَانْفَجَرَتْ, لكن يمكن أن يقال: هل يجوز أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر فينفجر من غير ضرب حتى يُستغنى عن تقدير هذا المحذوف, وذلك يكون إعجازًا من الله تعالى يؤيّد به نبيه موسى؟ يجيب الرازي: لا يمتنع في القدرة الإلهيّة أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر ومن قبل أن يضرب ينفجر على قدر الحاجة, لأنّ ذلك لو قيل: إنّه أبلغ في الإعجاز لكان أقرب، لكنّ الصحيح أنّه ضرب فانفجرت, لأنّ الله تعالى لو أمر رسوله بشيء ، ثم لم يفعله لصار الرسول عاصيًا، هذا بالإضافة إلى أنّه إذا انفجر من غير ضرب صار الأمر بالضرب بالعصا في الآية عبثًا لا فائدة منه, وهذا ما يترفّع عنه النظم القرآنيّ, وتؤيّده الأخبار في أنه عليه السلام ضرب فانفجرت, كما في قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾( ), فالمراد: فضرب فانفلق, لأنّ المراد الإلهيّ هو إظهار معجزات موسى عليه السلام التي ظهرت بالعصا, ثمّ إنّ الانفلاق والانفجار بالضرب بالعصا أعظم في بيان النعمة على موسى عليه السلام، وأقوى ليعلموا أنّ ذلك إنّما حصل لمكانة موسى عليه السلام عند الله تعالى( ), وبعد هذا لا يبقى في نفوسهم أدنى شكٍّ في أنّه رسول الله تعالى إليهم.
إن التركيب إذا خلا من تقدير جملة محذوفة كان في بيان إعجاز نبوة موسى عليه السلام أبلغَ, كما يرى البعض, لكنّ عدم تقدير الحذف سيؤدّي إلى الطعن في عصمته عليه السلام, لما يحمله من دلالة على أنّ موسى عصى أمر ربه, وسيؤدّي إلى ورود عناصر تركيبيّة لا معنى لها في السياق القرآنيّ, فيذهب معنى الأمر الذي تصدّر الآية بلا فائدة, فعلى الرغم من أن تقدير المحذوف قد يظهر للبعض أنّه أقلُّ دلالةً في البلاغة على الإعجاز, فإنّه في رأي الرازي يدلّ على أن موسى عليه السلام ذو حظوة خاصّة عند ربه, ولهذا جعل انفجار العيون وانفلاق البحر مخصوصًا بضربه مترتّبًا عليه, وفي هذا مزيد تشريف لموسى عليه السلام, وهو ما يقتضيه معنى الإعجاز الذي طلبه بنو إسرائيل, وعليه يكون تقدير المحذوف مما لا يُستغنى عنه في المعنى, وبه يتحقّق الاتّساق النصّيّ, وهو أعظم في البيان وأقوى في التأثير. وأمثال هذا الحذف يدعو المرء إلى التبصر فلا يغرُّه المستوى الظاهر وحده, فالكلمة قد تحذف, والحذف قوة دافعة لابدّ من افتراضها في مكانها, الحذف يحرك الكلمات من وراء ستار, فهو نوع من أنواح السلطة النحويّة المحبّبة( ).
وربّما كان التركيب ممّا يكثر فيه الحذف في الاستعمال اللغويّ, وحين يستعمل في موقف يقتضيه يكون قد وصل حدًّا ساميًا في البلاغة, لما يحدثه من آثار في نفس المتلقّي, تستدعي منه أن يستحضر كل ما يخطر له ليصل إلى وصف الموقف, ومن هذا الحذف ما جاء في قوله تعالى: ﴿ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ *فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾( ). إنّه تعالى لمّا أخبر عن اغترارهم بما هم عليه من الجهل, بيّن أنّه سيجيء يومٌ يزول فيه جهلهم، ويكشف فيه غرورهم, فقال (فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ) وفي الكلام حال محذوفة، والتقدير: فكيف صورتهم وحالهم إذا جمعناهم, ويحذف الحال كثيرًا مع اسم الاستفهام (كيف) لدلالته عليها, وهذا الحذف يوجب مزيد بلاغة لما فيه من تحريك النفس باستحضار كلّ نوع من أنواع العذاب التي سيلقونها( ). فحذف الحال بعد (كيف) من التركيب يرتفع بالمعنى البلاغيّ, لأنّه يتناسب ومقامَ التهويل الذي دلّ عليه المعنى, وبه تتسع دائرة الخيال في رسم تلك الصورة المروّعة. ومن هنا يغدو البحث في حذف الكلمات بحثًا في منابع معاني الكلمات, بحثًا في السمع والبصر والوعي الجمالي, الذي يجعلنا نستهوي العبارة المحكمة, لأنّها خلاصة المباحث في علم معاني النحو الثانية( ).
وقد وصل تتبع الجمال في التركيب القرآنيّ بالرازي إلى بيان المعاني التي يقتضيها تغيّر بعض العناصر في التركيب عمّا هو مألوف في قانون التوارد المعجميّ المتعارف عليه عند العرب, فقد لجأ إلى التحليل الجمالي لتوضيح استعمال الأداة في غير ما هو معروف من مواضع استعمالها, وبيان أنّ الأداة تحمل الكثير من معناها الظاهر, لأنّه أبلغ ممّا هو متعارفٌ عليه, قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾( ). إن الفعل (يقبل) يتعدّى بحرف الجر (من) ولا يتعدى ب(عن), وفي أمثال هذا يلجأ النحاة عادة إلى إلباس الأداة معنى يتوافق وما تتعلق به, أو يقولون بتضمين الفعل معنى فعلٍ آخرَ, وهذا ما أورده الرازي في تحليله, إذ قال: (عَنْ) في قوله تعالى: (عَنْ عِبَادِهِ) يحتمل أن تكون بمعنى (من) لابتداء الغاية, لأنّه لا فرق بين (عَنْ عِبَادِهِ) و(من عباده), لأنّ (قَبِلَ) بمعنى (أخذ), يقال: أخذت هذا منك, وأخذت هذا عنك, وهو في المعنى واحد, لذلك جاز (يقبل التوبة عن عباده). وقال بعضهم: لعل (عَنْ) أبلغ, لأنّها تنبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قُبلت. وهنا يأتي الرازي برأيه قائلًا: لم يستوف هؤلاء البيانَ فيها, إنّ (من) و(عن) متقاربتان، غير أن (عَنْ) تفيد البعد، فإذا قيل: جلس فلان عن يمين الأمير، أفاد أنّه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد, فقوله: (عَنْ عِبَادِهِ) يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنّه صار مبعدًا عن قبول الله تعالى له بسبب ذلك الذنب، ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه، وأبعده عن حضرة نفسه، فلفظة (عَنْ) كالتنبيه على أنّه لابدّ من حصول هذا المعنى للتائب( ), ولهذا كان التعبير بها أبلغَ من التعبير بلفظة (من). وعليه فالأداة (عن) على الرغم من أن اقترابها من معنى ابتداء الغاية, فإنّها تحمل دلالة المجاوزة التي تحملها في أصل الوضع اللغويّ, وهذا المعنى يتناسب وحالة التائب النادم على ذنبه الذي يسيطر عليه إحساس ابتعاده عن الملِك الحقّ.
وربّما كان التركيب القرآنيّ في الظاهر خارجًا على قانون التوارد المعجميّ, وهنا تكمن قوة التحليل النحويّ الجماليّ, فيحكم بالبلاغة للنظم القرآني, الذي لا يدرك كنهه إلّا من متّعه الله تعالى بقريحة فذّة تمكّنه من رؤية ما لا يراه الآخرون, وهذا ما أقرّه الرازي في تحليله لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾( ). إنّ القرآن أورد قوله: (يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ), ولم يقل: يوم لا يغنيهم كيدُهم, مع أنّ الإغناء يتعدّى بنفسه, لفائدة جليلة, وهي أنّ قولهم: أغناني, يُفهم منه أنّه نفعني، وقولهم: أغنى عني, يفهم منه أنّه دفع عني الضرر, وقوله (لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ) أي لا يدفع عنهم الضرر، ولاشكّ أن قوله لا يدفع عنهم ضررًا أبلغُ من قوله لا ينفعهم نفعًا في وصف حال الكافرين, ولو قال في المؤمنين: (يوم يغني عنهم صدقهم) لما فهم منه نفعهم, ولهذا قال فيهم: ﴿يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾( ), فكأنه قال: يوم يغنيهم صدقهم، وهذا يثبت أن التعبير القرآنيّ استعمل في المؤمنين (يغنيهم), وفي الكفار (لا يغني عنهم), وهو ممّا لا يطّلع عليه إلّا من يكون عنده من علم البيان طرفٌ, ويتفكّر بقريحة وقّادة في آيات الله, وقد أنعم الله تعالى عليه بالتوفيق( ). ومن هذا يتوقّد سرّ النظم القرآنيّ المعجز, الذي تساق فيه الألفاظ وفقًا للدلالات, فما كان وصفًا لأحوال الكافرين يختلف عمّا يكون وصفًا لحال المؤمنين, وما كان للرازي أن يصل إلى هذا التذوّق لولا تفكّره في اتّساق النظم القرآنيّ, الذي خصّ الكفار بتعبير ينحرف في العلاقة المعجميّة, وأفرد المؤمنين بتعبير ينتظم والتواردَ المعجميَّ الطبيعيَّ, وكأنّه في ذلك يشير إلى انحراف الكافر عن جادّة الحقّ, وإلى استقامة المؤمن, فما فيه المؤمن هو القانون الطبيعيُّ, وما فيه الكافر هو الانحراف.
وللناظر فيما تقدّم أن يتحقّق من أثر الذوق الجمالي للرازي في توجيه المعنى والتحليل النحوي, وقد كان معيارُه في أحكامه الجمالية التفوّق الفنيّ للنظم القرآنيّ, فكلّ ما يأتي به القرآن هو الأبلغ, وهو المتناسب والملتحم سياقيًّا ومعنويًّا, فإن ظهر خلاف هذا فلقِصَر نظر الناظر( ), ولهذا بسط الشرح في التراكيب التي جاء القرآن وفقها, فأبعد ما أدى إلى الاختلال, وأيّد ما ناصره الاتساق النصي, وقد كان معيار مناسبة المقال للمقام سر البلاغة في أغلب مواضع تحليله.
ولمّا تطرّق البحث لأثر ذائقة الرازي في المعنى والتحليل النحويّ كشف عن حسٍّ متميّزٍ يقف على أسرار الجمال الإعجازيّ لتراكيب القرآن الكريم, فقد كان يرصد جمال التعبير القرآني معطيًا ترابط النظم واتّساق المعنى المركزَ الرئيس في تحليله النحويّ, الذي رصّعه بالقيم الجمالية فأبرزها فيه. ولم يهمل جمالية الأسلوب القرآني في اختيار المفردات كما في رصف التراكيب, فالتعبير القرآني هو المناسب للمعنى المراد, إذ يحذف حيث يُقتضى الحذف, ويذكر حيث يُقتضى الذكر, ويعرّف وينكّر في المكان والوقت المناسبين, والجمال يكمن في التعبير القرآني كما هو, لا كما يؤوّله المتأوّلون, فالتفوّق الفني للنظم القرآني الذي تتجلى فيه البلاغة بمناسبة المقال للمقام, والغاية الأولى والأخيرة هي أن يكون أثر القرآن بالغًا في نفس متلقّيه, فيجد نفسه وقد استسلم لهذا الجمال فكان مسلمًا.
مصادر البحث ومراجعه:
• ابن حجر العسقلاني, أحمد بن علي أبو الفضل الشافعي: لسان الميزان, تحقيق دائرة المعارف النظامية- الهند, مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت, ط3, 1406ه, 1986م.
• ابن خالويه, الحسين بن أحمد أبو عبد الله: الحجة في القراءات السبع, تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم, دار الشروق- بيروت, ط4, 1401ه.
• ابن خلكان, أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان, تحقيق: د. إحسان عباس, دار صادر – بيروت, د ت.
• ابن زنجلة, عبد الرحمن بن محمّد أبو زرعة: حجة القراءات, نحقيق: سعيد الأفغاني, مؤسسة الرسالة- بيروت, ط2, 1402ه, 1982م.
• ابن مجاهد, أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس التميمي البغدادي: السبعة في القراءات, تحقيق: د. شوقي ضيف, دار المعارف- القاهرة, ط2, 1400ه.
• البخاري, محمّد بن إسماعيل أبو عبد الله الجعفي: الجامع الصحيح المختصر, تحقيق: مصطفي ديب البغا, دار ابن كثير, اليمامة- بيروت, 1407ھ, 1987م.
• البيهقي, أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر: سنن البيهقي الكبرى, تحقيق: محمّد عبد القادر عطا, مكتبة دار الباز- مكة المكرمة, 1414ھ, 1994م.
• الجاسم, د. محمود حسن: تأويل النص القرآني وقضايا النحو, دار الفكر, دمشق, ط1, 1431ھ, 2010م.
• الرازي, فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الشافعي: التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب, قدم له هاني الحاج, حقّقه وعلّق عليه وخرج أحاديثه: عماد زكي البارودي, المكتبة التوفيقية -القاهرة, د ت.
• الزركلي, خير الدين: الأعلام, (قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين), دار العلم للملايين, بيروت, ط15, 2002م.
• الزمخشري, جار الله أبو القاسم محمود بن عمر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل, تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود, وعلي محمد معوّض, مكتبة العبيكان-الرياض, ط1, 1418ه, 1998م.
• السيوطي, عبد الرحمن بن أبي بكر: طبقات المفسرين, تحقيق: علي محمّد عمر, مكتبة وهبة- القاهرة, ط1, 1396ه.
• عبد الحميد, د. شاكر: التفضيل الجمالي (دراسة في سيكولوجية التذوق الفني), سلسلة عالم المعرفة, ع267, مارس2001م.
• عفيفي, د. أحمد: نحو النص (اتجاه جديد في الدرس النحوي), مكتبة زهراء الشرق- القاهرة, ط1, 2001م.
• ناصف, د. مصطفى: النقد العربي (نحو نظرية ثانية), سلسلة عالم المعرفة, ع255, مارس 2001م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.