بورصة الدار البيضاء تغلق الأسبوع على ارتفاع ب0,85% في مؤشر "مازي"        نقلة نوعية في تاريخ الرجاء.. شراكة مع "مارسا ماروك" تؤسس للتحول الهيكلي    خريبكة تحتفي بمونية لمكيمل في الدورة العاشرة لمهرجان الرواد    مهدي فاضيلي يزيل الستار عن "ساريني"    "حماس" تكذب مبعوث ترامب: لن نتخلى عن السلاح إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    بطولة العالم للألعاب المائية: السباحة الأمريكية وولش تحرز ذهبية 50 متر فراشة    صادرات قطاع الطيران بالمغرب تتجاوز 14 مليار درهم    الداخلية تُؤكد التزامها بضمان نزاهة وشفافية الانتخابات القادمة        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    في برقية إلى جلالة الملك: الرئيس ترامب يجدد التأكيد على اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على صحرائه ودعمها المطلق لمقترح الحكم الذاتي        تقرير: الدار البيضاء تصعد إلى المرتبة 431 ضمن المدن العالمية.. ومراكش تسجل أدنى تقييم وطني في رأس المال البشري    "العدل والإحسان" تناشد "علماء المغرب" لمغادرة مقاعد الصمت وتوضيح موقفهم مما يجري في غزة ومن التطبيع مع الصهاينة    أعضاء بمجلس الشيوخ الأمريكي: المغرب الحليف العريق والشريك "الأساسي" للولايات المتحدة    خبراء "نخرجو ليها ديريكت": الخطاب الملكي يعكس الرؤية الملكية الحكيمة    صحيفة صينية: المغرب نفّذ إصلاحات منهجية موجهة نحو المستقبل بقيادة الملك محمد السادس    فضيحة أخلاقية تهز جماعة أركمان والناظور بعد تداول فيديو صادم    المغرب يعزز الأمن السيبراني لمواجهة التهديدات الرقمية المتصاعدة    شاطئ ميايمي ببني أنصار يلفظ جثة شاب كان يحاول العبور إلى مليلية    بعد أشهر من الانتظار.. انطلاق أشغال الطريق المنهار بين الحسيمة وتطوان    جلالة الملك يتوصل ببرقية تهنئة من رئيس مجلس السيادة الانتقالي بجمهورية السودان بمناسبة عيد العرش المجيد    سون هيونغ مين يعلن رسميا رحيله عن توتنهام    الدار البيضاء .. نجوم العيطة يلهبون حماس عشاق الفن الشعبي    مجلة أجنبية تشيد بجمال وتنوع المغرب السياحي        وثائق سرية تستعد للخروج إلى النور.. صحراء المغرب في قلب أرشيف إسبانيا    المغربي حمزة الناصيري ضمن طاقم حكام مباراة افتتاح "الشان" بين تنزانيا وبوركينا فاسو    مصرع شاب في حادثة سير مميتة ضواحي سطات        مبابي مدافعا عن حكيمي: أشرف يحترم النساء حتى وهو "سكران"    كيوسك السبت | استثمار إسباني كبير لتحلية المياه والطاقة الريحية بالمغرب    اعتقال صانعتي محتوى لنشر مقاطع فيديو خادشة للحياء في مصر    جامعات أمريكا تواجه ضغوطات ترامب    نجم البحر يهدد الشعاب المرجانية في جزر كوك    نيوزيلندا تفرض رسوما على زيارة الأجانب للمواقع السياحية الأكثر شعبية    الوداد ينهزم أمام كوجالي سبور في أولى مبارياته الودية بتركيا    المغرب، بقيادة جلالة الملك، نف ذ إصلاحات منهجية موجهة نحو المستقبل (صحيفة صينية)    في رحيل زياد الرّحْباني (1956-2025) سيرةُ الابْن الذي كَسَّر النَّاي .. ومَشَى    سباق الذكاء الاصطناعي يدفع عمالقة التكنولوجيا إلى إنفاق 344 مليار دولار    بلجيكا.. اطلاق نار على مراهق في مولنبيك    دراجة نارية مسرعة تصدم شخصين بطريق طنجة البالية وإصابة أحدهما خطيرة        المهرجان المتوسطي للناظور يختتم نسخته الحادية عشرة وسط حضور جماهيري غير مسبوق    عبد العلي النكاع فنان مغربي يبدع بإلهام في فن التصوير الفوتوغرافي الضوئي    رشيد الوالي: فيلم «الطابع» تكريم للعمال المغاربة في مناجم فرنسا    دراسة: مشروب غازي "دايت" واحد يوميا يرفع خطر الإصابة بالسكري بنسبة 38%    دراسة تُظهِر أن البطاطا متحدرة من الطماطم    التوفيق: كلفة الحج مرتبطة بالخدمات    بعد فصيلة "الريف" اكتشاف فصيلة دم جديدة تُسجّل لأول مرة في العالم        ما مدة صلاحية المستحضرات الخاصة بالتجميل؟    في ذكرى عيد العرش: الصحراء المغربية وثلاثة ملوك    تطوان تحتفي بحافظات للقرآن الكريم    على ‬بعد ‬أمتار ‬من ‬المسجد ‬النبوي‮…‬ خيال ‬يشتغل ‬على ‬المدينة ‬الأولى‮!‬    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة، الجنون، والمرأة عند محمد شكري
نشر في طنجة الأدبية يوم 13 - 05 - 2011

اللقاء الصحفي الذي أجراه فؤاد اليزيد السني مع الكاتب محمد شكري في الثمانينات

سنوات بعد وفاته، ما تزال أعمال الكاتب الطنجي الأشهر، محمد شكري، تثير الفضول والنقاش والكثير من الانتقادات أيضا. وما تزال شخصية محمد شكري غامضة ويقال عن حياته وطفولته وتكوينه وعلاقاته الاجتماعية الكثير من الكلام الذي لا يستند في معظمه إلى أي دلائل.
هنا في هذا الحوار الذي أجريته مع الراحل محمد شكري في واحدة من أهم فترات حياته وهي فترة الثمانينات، نستشف بعضا من شخصية صاحب الخبز الحافي ونبحر معه في عوالم طفولته التي رسمت مستقبله الأدبي إلى الأبد.
نعيد إذن نشر هذا الحوار مع مقدمته كما جاءت في الحوار الأصلي، مع الاحتفاظ بالعنوان الذي وسمت به جريدة الرأي الأردنية كاتبنا الكبير، وهي الجريدة التي نُشر فيها الحوار بتاريخ 04/06/1982.
الكتابة، الجنون، المرأة، وأمور أخرى...
في حوار مع القاص المغربي محمد شكري:
الجنون في صدر الكاتب درجة من التصاعد العصبي ولذا فأنا أعيش جنون أبطالي بانسجام حقيقي
كان الوجه العمودي للبحر ينسل برقة مائية متميزة البريق...
في تفاصيل الجسم العاري للرمال القمحية كانت مواسم النوارس تتصاعد مهللة بأغنية العودة إلى مدينة المحيط حيث مرتع الفن والإلهام.
لقد استولى سحر المدينة على بؤرة خيالي فانصرفت بشبق جنوني أتفقد مهد الطفولة في ذكريات المدينة... كنت كمن يستقرئ الصحوة في حلم أسطوري وفي تجربة الخروج هذه من دهاليز الذاكرة أحسست بصدى مجنون الورد يناديني فلم أتمالك نفسي وأنا أتلولب مسرعا في كل اتجاه. استوقفت أحد المارة وسألته عن القاص (محمد شكري) فأشار علي هذا الأخير باللجوء إلى مقهى (زاكورة) وفي المقهى اتخذت مجلسي من زاوية ترصد مدخل البوابة... سرحت بالتطلع في الوجوه المسترسلة في حنين دفء المساء أتفرس في قسماتها بحثا عن الوجه الذي ملأ علي خاطري. في لحظة خلت فيها بالاستغراق الكلي في قراءات الانتظار رأيته يخترق الهدوء بطلعته المتزنة نحو المقعد المعتاد الذي يؤمه كل مساء. تركت فسحة من الوقت ما بين ركونه إلى مقعده، واطمئناني إلى أنه هنا...! ثم تقدمت إليه ودار بيننا الحوار التالي:
- أتمنى أن نتجاذب أطراف الحديث بداية حول الرغبة التي دفعت بك إلى تجربتي (جنون الورد) و (الخبز الحافي)؟
- لم يمر علي في حياتي يوم استشعرت فيه جنوني بمحض الثقة التي أثرتها في أنت... لأنني لا أتعايش مع أبطال قصصي بالوهم بقدر ما أنفعل معهم. فأنا يصعب علي أن أحدد فارقا زمنيا، جغرافيا، أو مكانيا بيني والحدث وقصة الخبز الحافي كانت البداية... فأصغ لما سأقوله... إن هذا الذي (وأشار لنفسه) يترقبه القراء ويصفقون له بحماس لم يكن أكثر من (صرصور ذو ستيفسكي) وبالمناسبة لقد كنت بحجم الحشرة وقضيت أياما طوالا أجوس خلال شرايين المدينة أعاني من الفقر والخوف والوقاحة كنت أتلقف الشتائم وأنا أنحني مثل عبد ذليل، راكضا، على وسخ أحذية الآخرين لأمنحها الصفاء والبريق مقابل بضع شتيمة. لم ترحمني الأيام بل كانت تطوح بي من مكان قذر إلى آخر أقذر منه. تصور (ورفع سبابته كشاهد إثبات على ما يقول)، وأنا في الرابعة عشرة من عمري كنت أنام بدون مأوى أحمل حقائب المسافرين من محطة إلى أخرى ثم أمضي فاقد الإحساس بذاتي، هذه كانت إحدى وظائفي القذرة.
- شعرت بالمرارة تستعاد بكل مرارتها في عيون الكاتب... ولأنني استمعت حقا بهذا الاعتراف إلا أنني أبديت محاولة بريئة في تغيير دفة الحديث... بالإطراء على الكاتب فقلت له:
إن كتابك (الخبز الحافي) يعد صفعة حقيقية للكتاب المهترئين لأنهم لم يعتادوا من كتاباتهم سوى البلاغة السلوكية والتمويه الخرافي فلم تثبت لهم قدم أمام ما جئت به من واقعية في تجربتك الاجتماعية التي ارتفعت بك من مستوى القاص المتطفل إلى قاص تجربته الواقع وأدواته الأبطال العراة.
فطن الكاتب إلى هذا التدخل الفجائي في إصلاح لغة الذكرى فأجابني:
- إنني لم أخجل في أي يوم من الأيام من دناءتي... لأن التجربة تخلق الرجال والواقع يصقل مواهبهم. (توقف قليلا عن الكلام وقد استقرت عيونه برفق على الواجهة الزجاجية لمدخل المقهى في حين تسللت يده المرتعشة إلى جبيبه... تناول بعض الأقراص ثم عاد إلى الحديث...)
تلك كانت البداية في ظلال البحث عن تجاويف الخبز واللعنة بأقدام حافية... لربما يصعب عليك أن تختبر حسن المغامرة مع رحلة العمر لأنني عاينت بصدق كيف يتحول الفقر إلى جهل وقبح حقيقيين ومن أصعب الاصطدامات أن تكون مع أقرب الناس إليك... أبي كان أول إنسان علمني كيف أكره فكرهته.. وتمنيت لو أن الفرصة تسنح لي لأقتله لأنه مجرم... أجل إنه قاتل أخي... لقد عاد ذات يوم إلى البيت وفي إثر مشادة بينه وبين أمي تحول نحو أخي وأطبق على عنقه مثل الدجاجة فخنق الحياة في جسمه النحيل.
أما أمي فلم يكن ليتعرف عليها ذاك الذي كنت أدعوه أبي إلا في حالات الدعوة إلى الجنس أما ما عدا ذلك فإنه كان يتصرف بها كدمية تارة يصفعها وطورا يرفسها بقدمه الإفريقية... ويعاملها في أغلب الأحيان مثل بضاعة مستوردة... وهكذا لم تقتصر المأساة على بيتنا الصغير لأنني كنت أرى مأساة الوطن من خلال ثقب تجربتي الخاصة وبسبب هذا الاعتراف الوقح لم تقبل دور النشر المغربية في نشر كتابي (الخبز الحافي) في حين قبلته دور النشر الإنجليزية والفرنسية إذ قام (الكاتب الطاهر بن جلون) بترجمته للفرنسية.
- (توقف الكاتب عن حديثه بدون سابق إنذار واستغرق في شرود انسيابي إلى أن جذبته مرة أخرى إلى مواصلة الحوار.) قرأت في بعض المجلات عن اللقاء الذي أجراه معك البرنامج التلفزيوني الفرنسي "ابستروفي" فهل لك مزيدا من التفاصيل عن هذا اللقاء؟
- اللقاء كان بصدد كتابي (الخبز الحافي) فقد أحدث ضجة لدى المثقف الفرنسي الذي تلقفه بإعجاب ويعتبر هذا الكتاب منعطفا جديدا في الكتابة المعاصرة ولشد ما كانت دهشة معدي اللقاء كبيرة حين علم بأنني تعلمت القراءة في إحدى المدارس الابتدائية بمدينة (العرائش) عن سن يناهز العشرين عاما، علما بأنني لا أحمل أية شهادة اعترافا مني بأن الشهادة لا تزيد عن كونها كذبة اجتماعية مصدقة. فالواقع الذي حنك (تشارلز ديكنز) أعطاني قناعة بواقعية الاحتكاك بالشيء عن كثب.
- (كان ثمة إيقاع حزين يتخلل صوته الحزين وحين يصمت للحظة أشعر وكأن سكاكين لا مرئية تمزق أوصالي فأندفع مخترقا زجاج صمته ليجعل من الكلام شظايا نووية للمترسبات النفسية) لقد فاجأني كتابك وبهرني لذا سعيت بدافع متعطش أبحث عن قسمات وجهك في عيون قرائك فطالما أن الحلم تحقق فأرى أنه من غرور إشباع الذات أن أستفسرك عن السؤال الذي طرحه في ذاكرتي كتابك (مجنون الورد) ثلاثة أشياء حيرتني: الحنين إلى الطفولة، المرأة الساقطة، والجنون، ترى لماذا تحصر قصصك في هذا الثالوث المقدس؟
- إنك بطيء الفهم وإلا لاستنتجت ذلك من خلال سردي الذي دار حول الخبز الحافي. لكنني لن أحرمك هذا الاستفسار لأنك أشبه ما تكون بالأطفال الذين يصححون معلوماتهم عن طريق الإكثار من الأسئلة المحيرة..
(اتجهت عيون الكاتب إلى مداعبة رقة المدينة المستلقية في إنارة ووقار على عتبة بوابة المقهى، وكمن عثر على سر دفين راح في سرد عميق..) إن فتنة الطفولة عندي لا تكتمل إلا بحضور بكائية المرأة وكآبتها.
ومن هنا كان تصويري للطفولة في قصة (الشباب) دليلا عفويا، على البراءة اللا مفتعلة في عالم الأطفال وبنظري إن كل رجل منا يحمل طفولته في عقله الباطن وكل امرأة بالمقابل تحمل طفولتها في حرارة عينها، إننا كثيرا ما نفتعل ونصطنع أشكالا خارجية لتصرفاتنا لكن أصل الطفولة وكياننا يظل ماثلا في أشد المجالات وعيا بذاتنا ومن هنا بدأ ارتباطي بعكس حقيقتي في صور الطفولة لأنها لا تخدع منطق الكاتب. أما المرأة فإنها الوعاء المستوعب لكل حالات الطفولة ودعني أقول بأنها الأصل الذي يتفرع عنها الإحساس بسذاجة الوعي للواقع الموضوعي. أما أنني أشغل حيزا كبيرا في قصصي في تصوير المرأة الساقطة فلأنها هي التي تدفع ثمن حقارة المجتمع، إنها ساقطة في الأسلوب القصصي لكنها بالرغم من ذلك تظل مرتع الإلهام والحب الحقيقيين في تجربتي ككاتب يعاني من عرض كربونات سوداء للمرأة المحترقة.
أما استحضار ظاهرة الجنون بين هذه الثنائية فلأنني أعيش واقعا مجنونا إن الجنون في صدر الكاتب درجة من التصاعد العصبي ولا تستنكر إذا قلت لك بأنني أعيش جنون أبطالي بانسجام حقيقي.
صحيح أن الناس يرون في الجنون مرض عصري لكنني أرى فيه انعتاما فنيا إحساسا مفرط الحساسية في تعرية الأم العصر.
- تطلعت إلى سحنة الكاتب التي استغرقت إيقاعاتها في رصد مجاهل الذات فشعرت بالألم يحز في مفاصلي لأنني تركته يوقع على أوتار تستنزف شعوره المرهف بعذابات الآخرين فعمدت إلى تغيير مجرى الحديث وقلت له:
أستاذ شكري ما رأيك في جولة قصيرة على شاطيء المحيط نتفقد فيها حبيبتنا طنجة؟!
- إنها فكرة رائعة أن نتحسسها ليلا لأن الليل يضفي على البحر وقار الأنبياء.
خرجنا نجر روعة حب اللقاء من المقهى، وبعد لحظة ابتلعنا ضجيج المدينة فاختفينا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.