صحافيون ينتقدون تصويت مجلس المستشارين على قانون مجلس الصحافة ويهددون بالتصعيد    ارتفاع مخزون سد عبد الكريم الخطابي بإقليم الحسيمة بعد التساقطات المطرية الأخيرة    السيول تسلب حياة شاب في الدريوش    مسؤولية الجزائر لا غبار عليها في قضية طرد 45 ألف أسرة مغربية    المعارضة بمجلس المستشارين تنسحب من الجلسة العامة وتطلب من رئيسه إحالة مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة على المحكمة الدستورية    نشرة إنذارية.. زخات رعدية قوية وتساقطات ثلجية وطقس بارد من الأربعاء إلى السبت بعدد من مناطق المملكة    أمطار وثلوج تنعش منطقة الريف وتبعث آمال موسم فلاحي واعد بعد سنوات من الجفاف    "كان المغرب".. المنتخب الجزائري يتغلب على السودان (3-0) في أولى مبارياته في دور المجموعات    وهبي: الحكومة امتثلت لملاحظات القضاء الدستوري في "المسطرة المدنية"    السلطة القضائية تنضم إلى PNDAI    مخطط التخفيف من آثار موجة البرد يستهدف حوالي 833 ألف نسمة    كأس إفريقيا للأمم 2025.. الملاعب المغربية تتغلب على تقلبات أحوال الطقس    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    توقيف شخص بحوزته أقراص مهلوسة وكوكايين بنقطة المراقبة المرورية بطنجة    "ريدوان": أحمل المغرب في قلبي أينما حللت وارتحلت    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    قضية البرلماني بولعيش بين الحكم القضائي وتسريب المعطيات الشخصية .. أسئلة مشروعة حول الخلفيات وحدود النشر    كأس إفريقيا للأمم 2025 .. منتخب بوركينا فاسو يحقق فوزا مثيرا على غينيا الاستوائية    توفيق الحماني: بين الفن والفلسفة... تحقيق في تجربة مؤثرة    المخرج عبد الكريم الدرقاوي يفجر قنبلة بمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي ويكشف عن «مفارقة مؤلمة في السينما المغربية»        وفاة رئيس أركان وعدد من قادة الجيش الليبي في حادث سقوط طائرة في تركيا    شخص يزهق روح زوجته خنقا بطنجة‬    نص: عصافير محتجزة    وزير الصحة يترأس الدورة الثانية للمجلس الإداري للوكالة المغربية للدم ومشتقاته    رباط النغم بين موسكو والرباط.. أكثر من 5 قارات تعزف على وتر واحد ختام يليق بمدينة تتنفس فنا    أطروحة دكتوراة عن أدب سناء الشعلان في جامعة الأزهر المصريّة    الكشف عن مشاريع الأفلام المستفيدة من الدعم    المغرب في المرتبة الثامنة إفريقيا ضمن فئة "الازدهار المنخفض"    روسيا تعتزم إنشاء محطة طاقة نووية على القمر خلال عقد    رهبة الكون تسحق غرور البشر    الحكومة تصادق على مرسوم إعانة الأطفال اليتامى والمهملين    الأمطار لم توقّف الكرة .. مدرب تونس يُثني على ملاعب المغرب    الاقتصاد المغربي في 2025 عنوان مرونة هيكلية وطموحات نحو نمو مستدام    بول بوت: العناصر الأوغندية افتقدت للروح القتالية    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب تايوان    كأس إفريقيا بالمغرب .. مباريات الأربعاء    انفجار دموي يهز العاصمة الروسية    فرنسا تندد بحظر واشنطن منح تأشيرة دخول لمفوض أوروبي سابق على خلفية قانون الخدمات الرقمية    مواجهات قوية للمجموعتين الخامسة والسادسة في كأس إفريقيا    انتصارات افتتاحية تعزز طموحات نيجيريا والسنغال وتونس في كأس إفريقيا    الذهب يسجل مستوى قياسيا جديدا متجاوزا 4500 دولار للأونصة    "الهيلولة".. موسم حجّ يهود العالم إلى ضريح "دافيد بن باروخ" في ضواحي تارودانت    عجز ميزانية المغرب يقترب من 72 مليار درهم نهاية نونبر 2025    فدرالية الجمعيات الأمازيغية تهاجم "الدستور المركزي" وتطالب بفصل السلط والمساواة اللغوية    طقس ممطر في توقعات اليوم الأربعاء بالمغرب    بكين وموسكو تتهمان واشنطن بممارسة سلوك رعاة البقر ضد فنزويلا    عاصفة قوية تضرب كاليفورنيا وتتسبب في إجلاء المئات    كأس أمم إفريقيا 2025.. بنك المغرب يصدر قطعة نقدية تذكارية فضية من فئة 250 درهما ويطرح للتداول ورقة بنكية تذكارية من فئة 100 درهم    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها        الولايات المتحدة توافق على أول نسخة أقراص من علاج رائج لإنقاص الوزن    دراسة: ضوء النهار الطبيعي يساعد في ضبط مستويات الغلوكوز في الدم لدى مرضى السكري    دراسة صينية: تناول الجبن والقشدة يقلل من خطر الإصابة بالخرف    خطر صحي في البيوت.. أجهزة في مطبخك تهاجم رئتيك    مشروبات الطاقة تحت المجهر الطبي: تحذير من مضاعفات دماغية خطيرة    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النقد والملاءمة
بصدد كتاب «في رحاب السرد: قراءة في البنيات والدلالات الروائية ل» د.عبد السلام أقلمون»
نشر في العلم يوم 19 - 03 - 2009


1-»في رحاب السرد» والمحمولات الكبرى
بناء على الترابط العلائقي بين هندسه النص البنائية، ومحتويات هذا البناء، نشير إلى أن المنجز النقدي «في رحاب السرد» تبنين في سبعة فصول ومقدمة موجزة، ويعتمد مفهوم «القراءة» استراتيجية نقدية للإنصات والتحليل ودراسة النصوص الروائية، أو منتج النص الروائي ومبدعه، مما جعل الخطاب النقدي متمفصلا إلى شقين؛ الأول «خطاب نظري» يتمحور حول مبدع النص الروائي، وهو خطاب يقتصر تجليه النصي على الفصل الأول. أما الخطاب الثاني فهو «خطاب تطبيقي» يدرس النص الروائي، ويفككه، ويبني دلالاته بناء على مكوناته البانية والمهيمنة. من هنا، أمكننا الحديث عن نمطين نقديين في مقاربة المحمولات الأساسية لهذا المنجز النقدي:
أ- الاعتراف النقدي:
يتخذ الاعتراف سمته النقدية في كتاب «في رحاب السرد» من الاشتغال على قامة إبداعية متمثلة في الروائي المصري «نجيب محفوظ»، وإبراز دوره في المشهد الروائي العربي المعاصر، فيستقي، بذلك، الاعتراف النقدي أهميته من تجديد الوعي بأهمية المبدع في تشييد نصوص روائية يسمها بميسم التميز، وتغدو هي خطابا دلاليا وجماليا دالا على مبدعها، ضمن صيرورة فكرية تحتفي بالمبدع، وتشير إلى تميز نصوصه الروائية. وبذلك تتجه الممارسة النقدية صوب الاحتفاء النقدي بالمبدع من منظور ثقافي معرفي، وليس من زاوية بيوغرافية وذوقية ضيقة، مادام «حكم الذوق ليس حكم معرفة»(3) كما يقول كانط. هكذا، توجه الفصل الأول صوب الروائي العربي المتميز «نجيب محفوظ»، مستثمرا خطابا نقديا إبستيمولوجيا؛ لأنه خطاب منصب على قضايا تخص المعرفة والبناء الروائي أفصح عنها المسار الحياتي النوعي «لنجيب محفوظ»، أو أضمرها وعمل الناقد على كشفها.
لذلك كان الحفر النقدي آلية منهجية ومعرفية اتخذها الناقد عبد السلام أقلمون ليذكر بالوضع الاعتباري والرمزي للروائي المصري «نجيب محفوظ»؛ وضع ساهمت في تحققه الذات المبدعة من جهة، وإنتاجها الروائي النوعي من جهة ثانية. فبالنظر إلى مميزات السياق العام لبداية القرن العشرين، التي يمكن اختزالها في ثلاث مقولات جوهرية: الأصالة التراثية، والمثاقفة، والصدمة الكولونيالية، استطاع «نجيب محفوظ» أن يتأقلم إبداعيا مع كل التغيرات والتحولات، مما أفضى به إلى اكتساب شرعية ثقافية قوامها «ملاءمة» الإنتاج الروائي لرؤاه الفكرية والجمالية، ولواقع ثقافي وتاريخي متغير باستمرار. لكن هذه الملاءمة تسندها، حسب الناقد، «صناعة إبداعية» تجعل الفعل الروائي محكوما بسلطة النموذج؛ حيث كان «نجيب محفوظ» أمام قيد التقليد قبل خلق «الأسلوب» الخاص به. ويظهر ذلك بقوة في تأثر «محفوظ» بنموذج الكتابة الروائية التي اختطها «جرجي زيدان» (ص13)، كما تعبر عنه بقوة الروايات الثلاث: رادوبيس، وكفاح طيبة، وعبث الأقدار.
وفي سياق الاعتراف النقدي يلح الناقد على أهمية الإنتاج المحفوظي الروائي؛ باعتباره إبداعا ولودا ومنتجا قوامه البناء المنتظم، كما يعكسه مساره الروائي القائم على ثلاثية مرحلية: التأسيس والتطوير والتجريب، وفتح كل مرحلة على قضية التأصيل والتثقيف، مما جعل الإنتاج الروائي محكوما بشرطية التراكم المفضي لجاوز الذات في كل تجربة روائية، وبشرطية الإنصات لنبض المجتمع وتفاعلاته وتحولاته وصراعات فرقائه أو تآلفها.. إلخ. ليصير النص الروائي المحفوظي، بناء على هذين الشرطين، تجربة فنية ومعرفية؛ حيث تغدو نصوصه الروائية: «خزانا للفكر والمعرفة، ومختبرا لتشريح المجتمع واستكناه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وانعكاساتها في نفوس الناس، ونشوء مؤهلاتهم وخمود طموحهم، وأسباب إقبالهم على الحياة بهمة وعزم، وأسباب إدبارهم عنها في نكوص وجزع» (ص20). إنه المنطق الذي يؤكد التصاق الروائي بالمؤسسة الاجتماعية بكل مكوناتها وامتداداتها، مما يجعل النص الروائي المحفوظي منسجما والتصور الذي ينطلق منه «إيتالو كالفينو» من أن «الرواية المعاصرة كموسوعة، كمنهج معرفة، وفوق كل شيء كشبكة من الصلات بين الأحداث والناس والعالم»(4)
.
ويبدو الناقد، في الفصل الأول، متجها صوب التنصيص على أن «نجيب محفوظ» «ظاهرة» استثنائية في المشهد الروائي العربي؛ حيث يتجلى خطاب الاعتراف النقدي محكوما بمبدأين: الأول أساسه التحسيس بأهمية الإنتاج الروائي ل»نجيب محفوظ» من زاوية الملاءمة الفنية والفكرية التي يفرزها النص جراء انتمائه إلى لحظة مفارقة للأخرى، والثاني قوامه ترسيخ صورة نموذجية لمبدع فذ يتبني «فلسفة الماء» القائمة على التكيف مع الوضعيات الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. التي تعيشها الذات المبدعة.
ب-التحليل النقدي:
يصير الخطاب النقدي، في هذا المستوى، «قراءة» لستة نصوص روائية يحكمها مبدأ التنوع التيماتي والانتماء الجغرافي، مع هيمنة واضحة للنصوص الروائية المغربية. وتسعف طبيعة الخطاب النقدي المعتمد في دراسة النصوص الروائية الستة في تبين معالم التنوع النقدي، أثناء عملية الدراسة والتحليل.
هكذا، يقارب الناقد رواية محمود المسعدي «حدث أبو هريرة قال..» من منظور نقدي يتأسس على ثلاثة منطلقات؛ تاريخي وأجناسي وجمالي. في المنطلق الأول يقرر الناقد عبد السلام أقلمون أهمية الرواية في المسار الروائي العربي؛ أهمية تؤكد أنها «نص تأسيسي»(ص25)، بناء على التمايز النوعي لهذا النص عن غيره من الروايات المعاصرة له. وهو إقرار تأتى بعدما غير الناقد مسار «القراءة» معتمدا على مؤشر زمني في المقاربة والتحليل، يتمثل في زمن الكتابة (1940) لا زمن النشر (1972). وفي المنطلق الثاني يستنتج الناقد أن الانتماء الأجناسي لهذا النص يتحدد في كونه «رواية تأسيسية شعرية تراثية فلسفية»(ص27). إنه قانون النحت الذي يحتكم إلى الصيرورة الزمنية ليقر بتأسيسية الرواية، وإلى الانزياح اللغوي للإقرار بشعريتها، وإلى بنيتها المعجمية والتركيبية لإثبات تراثيتها، وإلى محكي أفكارها وأقوالها لتأكيد فلسفيتها. وفي المنطلق الثالث ينطلق الناقد في مساءلة بعض العناصر الجمالية المؤسسة للفعل الروائي؛ حيث توجَّه الخطاب النقدي صوب العناصر البانية؛ خاصة الشخصية الروائية التي تنفتح على دلالات شتى، أهمها «القلق الوجودي» للكائن البشري (ص31).
ويتخذ الناقد إشكالية الخلخلة التي أحدثها نص «أوراق» لعبد الله العروي على مستوى التعيين الأجناسي مدخلا هاما لتحليل ودراسة هذا النص، منتقدا في البداية فعل الخلخلة الذي لا يستجيب لقانون التراكم، مما جعل الناقد لا يكف عن طرح الأسئلة المعبرة عن قلق الانشغال بمساءلة نقدية لجنس أدبي «طريف»، ولنص سردي يحكمه انشطار الحكاية التقليدية، لكن تؤطره بنيات تيماتية محورية حصرها الناقد في «الوطنية والإسلام والفكر الغربي»(ص40)، ويمكن من جهتنا أن نظيف المؤسسة والتعبير، وهو ما أكده الناقد حينما أقر بأن «أوراق» «خليط من الأجناس التعبيرية»(ص47) التي يمكننا أن نظيف لما أورده (تسعة أشكال تعبيرية)، المقالة والحكاية التراثية والسيرة الذاتية والغيرية، مما أفضى إلى ترك سؤال الانتماء الأجناسي ل»أوراق» معلقا: «وبعد؛ في أي جنس أدبي نستطيع أن نصنف «أوراق»؟ (ص48). يمكننا أن نجيب ببساطة إنه جنس «السيرة الذهنية»(5)؛ الجنس الذي أبدع فيه ابن طفيل والغزالي والعقاد وجبرا إبراهيم جبرا وكولن ولسون...إلخ.
ووجد الناقد في رواية «السيل» لأحمد التوفيق «مذاقا» خاصا، نعته «بمذاق مغربي»؛ لكنه مذاق مر، لأن الرواية، من منظور الناقد، تقربنا في حركيتها الرحلية، من البادية وإليها بعد الاسقرار الجزئي في المدينة من عوالم السوداوية والظلامية والبؤس والحزن والمأساة، عبر بناء فني ينهض على «جمالية البشاعة» (ص53)، التي اكتشفها بودلير(6). وتدعم رواية «غريبة الحسين» التوجه المغربي لأحمد التوفيق في منجزه الروائي؛ لكن ليس المغربية الشوفينية ذات التوجه الإثنوغرافي الضيق، بل المغربية المحتفية بالهوية المحلية، حيث صار المغرب قبلة للآخر الأجنبي المحمل برؤية إيجابية تعمق المثاقفة المنتجة، وتخترق الخطاب الاستشراقي المحمل بقيم الانتقاص، مما جعل رحلة «كلود» بطلة الرواية «هجرة نحو الجنوب»، في سياق ما يسميه إدوارد سعيد ب»الرحلة إلى الداخل»(7)؛ رحلة تحطم التمثلات الجاهزة والمصوغة وفق متخيل الليالي الألف.
وإذا كانت المرجعية الرحلية هي المدخل لقراءة النص الروائي السابق، فإن قراءة رواية «البوار» لزهرة المنصوري كان من زاوية المرجعية الفضائية؛ التي تمركز محكيها حول جغرافية القرية أوالجبل المهملة والمهمشة والمتحققة الوجود، يقول الناقد: «وحسنا فعلت «البوار» وهي تلتفت إلى هذا الفضاء الطبيعي الأسطوري المسمى القرية المغربية» (ص94). كل ذلك جعل من رواية «البوار» رواية قضية (ص99) بمواصفات جمالية وفنية ملائمة للمرجعة الفضائية؛ حيث انزاحت فيها البطولة لصالح الفضاء بامتداداته المتنوعة. وضمن نفس السياق، يقارب الناقد قصة «شجرة الأرغان» لسليمان القوابعة، بادئا بالحديث عن إشكالية المهمش الفضائي في المنجز الروائي؛ حيث تظل الكثير من المدن المغربية، مثل مدينة تارودانت، ذات الصيت التاريخي، والخصوصيات الثقافية والاجتماعية النوعية منفلتة من التداول الإبداعي، عكس بعض المدن المتمركزة في الأنطولوجيا الروائية المغربية والعربية. لذلك تشكل القصة استثناء هاما في الالتفات لهذا الفضاء؛ بيد أنها التفاته لم تكن محكومة بصنعة قصصية تبرز هذا الفضاء، الذي جاء باهتا في النص، ومحكوما بمبدأ التعالي على الشرط المكاني، مما جعل
المكان القصصي مطلقا في امتداده الجغرافي رغم ارتباطه بشجرة الأرغان وزيته.
2-»في رحاب السرد» والخلفية المنهجية
لا يقدم الناقد في خطابه المقدماتي إشارة دقيقة للخلفية المنهجية المؤطرة للفعل النقدي، بيد أن الخطاب النقدي يعبر عن خلفية منهجية تقوم على التنويع والملاءمة أثناء «القراءة» والتحليل، فيصير الفعل النقدي مدعوما بخلفيات منهجية يفصح عنها الخطاب النقدي الذي يترك النص يفرض منهجية خاصة لقراءته وتفكيك بنياته، وبناء دلالاته. ويمكن إجمال المنطلق المنهجي في السيميائيات السردية، ونظرية التأويل. في المنطلق الأول توجه العناية صوب المكونات البنائية للنص الروائي، وتفكيك العلامات والرموز النصية. وفي التوجه الثاني يحتكم بناء الدلالة إلى إضاءة العتمات، وتحويل «الإنصات» إلى النص إلى فعل دينامي يفعل كل صمت يتسرب من شقوق النص الروائي وفراغاته.
3-»في رحاب السرد» ومبادئ الممارسة النقدية
نروم في هذه الخطوة الإجابة عن السؤال التالي: ما هي المبادئ التي احتكم إليها الناقد عبد السلام أقلمون في دراسته للنصوص الروائية؟
لقد تحكمت عدة مبادئ في الخطاب النقدي للمنجز النقدي «في رحاب السرد»، من بينها:
-مبدأ التأصيل: يتجلى هذا المبدأ في رغبة الناقد القوية لإثبات العلاقة الوطيدة بين الفعل الروائي والمادة التاريخية التراثية؛ حيث يؤكد أن البداية الروائية ل»نجيب محفوظ» اقترنت ب»التاريخ الفرعوني». ويتخذ التأصيل، أحيانا، طابع الدفاع عن الهوية المحلية، وهو ما نلمسه بقوة في «قراءة» النصوص الروائية «البوار» و»غريبة الحسين» و»السيل»، التي يتحدث عنها وعن مبدعها بحماس نقدي قائلا: «هذه الطريقة تشي بقدرة أحمد التوفيق على إنتاج نص تكون نسبته إلى «المغربية» فوق الجدل، أي الرواية بمذاق مغربي قادر على المنافسة في سوق الإبداع الروائي العربي» (ص66).
-مبدأ التنظير: يسجل هذا المبدأ حضوره القوي في الفصل الأول، ويبدو مدمجا في سياق التحليل النقدي لباقي فصول المؤلف النقدي. ويتخذ هذا المبدأ أداة للتداول النقدي في القضايا المتصلة بالنص الروائي؛ بدءا بالتعيين الأجناسي وإشكالية التجريب (نص أوراق)، مرورا باللغة الروائية التي تتمرد على لغة النثر التقليدي (نص السيل)، وصولا إلى الرواية و»التحدي الثقافي للآخر»(ص72) عبر بنية إبدالية للطروحات الاستشراقية التحقيرية والجاهزة (نص غريبة الحسين)، انتهاء بالفضاء الروائي الذي تلائمه منهجيا «السيميوطيقا الطوبولوجية» لقراءة أبعاد الفضاء المضمرة والغنية، وبنائه الجمالي المحكم كما يعبر عنه النسيج الفضائي لرواية «البوار». أو بنائه الفني الهش، ودلالاته المألوفة، كما تعبر عن ذلك قصة «شجرة الأركان».
-مبدأ النحت: ينشَدُّ هذا المبدأ إلى الجانب المفاهيمي، مدعما إنتاجية الخطاب النقدي؛ سواء من زاوية الإنتاجية، أم من زاوية إعادة الإنتاج وتجديد الصياغة. ويمكننا التمثيل بالمقولات التالية: رواية تأسيسية شعرية تراثية فلسفية (ص27)، الفحولة الروائية (ص66)، البيان الروائي ?البيان بمفهومه البلاغي-(ص69)، التفضية.. إلخ.
-مبدأ الاقتحام النقدي: ونقصد به الإعلان الصريح عن مظاهر القوة والضعف في النص الروائي في سياق نقدي يحاول إعادة الاعتبار لمبدأ التقويم الذي يتأسس عليه الفعل النقدي، وهو ما يمارسه الناقد تجاه النصوص الروائية المدروسة، لأنه ينطلق من قناعة فكرية مفادها: «أن النقد الروائي إما أن يكون مجاملا إما أن يكون تبريريا. وأنا أعرف أن النقد الروائي المغربي قد حاز من العلم بمجاله ما لا أعتقد أن مثله تهيأ لموقع آخر في عالمنا العربي.. ولكن.. كل ما ينجزه حتى الآن عبارة عن قراءة النصوص وتحليلها دون إبداء الرأي في روائيتها ومستواها من الإقناع» (ص51).
-مبدأ القلب المنهجي: يظهر هذا المبدأ بقوة حينما يعمد الناقد إلى ختم دراسته النقدية لبعض النصوص الروائية بمقاربة العنوان؛ حيث يعكس ويقلب التمرحل المنهجي المألوف الذي يجعل دراسة العنوان، وغيره من العتبات النصية في بداية التحليل. وهذا ما نلمسه في دراسة عنوان روايتي «غريبة الحسين» و»شجرة الأركان» في نهاية الدراسة النقدية.
-مبدأ المقارنة والاستدلال: يكشف هذا المبدأ عن تراكم قرائي إبداعي ونقدي كبير؛ سواء كان المنتوج المقروء غربيا أم عربيا. وتتجلى معالم المقارنة بين الروائيين والنصوص الروائية في استحضار نصوص موازية للمتن المدروس. هكذا، تتم الإشارة إلى النصوص الإبداعية التالية، على سبيل المقارنة،جارات أبي موسى، موسم الهجرة إلى الشمال، ثلاثية غرناطة، عرس الزين. وإلى المنجز النقدي، على سبيل الاستدلال والحوار النقدي، لكل من ابن خلدون، ولوكاتش، وأورباخ، وكريزنسكي، وجان ماري شيفر، وكريستيفا، وفليب هامون، وغريماس، وغريفل، وباختين، وجينيت، ولينتفيلت، وعبد الله العروي، وأحمد التوفيق، وحميد لحمداني، ومحمد برادة، وإدريس الناقوري، وعبد السلام أقلمون..إلخ.
4-»في رحاب السرد» واللغة النقدية
يتمرد الناقد عبد السلام أقلون على الصرامة اللغوية للخطاب النقدي، فيحررها، أحيانا، من طابعها التقريري الجاف، ويجنح بها، أحيانا أخرى، إلى السخرية اللاذعة. وللتدليل على ذلك نسوق الأمثلة التالية:
-إن الوجود منطو على أسراره الجميلة في صدفات أغوار المتعة الحسية. فاستفاق على تلك الحقيقة وأكل منها صورا من الإحساس بروعة الوجود، تعكسه رقصة الفتى والفتاة في محفل هو الحياة، تدعو الأشواق إلى أن تبعث على ندائها... (ص31).
-والغفلة عن هذه المعطيات قد يوقع الناقد والقارئ على السواء في دوامة الحيرة والتيه في خلجان هذا المركب النصي. (ص44).
-ف»أوراق» عملية حفر شديدة في الذاكرة، تحاول أن تعرض الذهن للشمس، وأن تخترق به العتمة والظلمة.. وأن تكشف كل شيء في النور. (ص47).
-فداخل الوطن الواحد تستمر وتتعايش جميع الأزمنة التاريخية حيث لا يزال العصر الحجري والخشبي والحديدي.. أزمنة حية في الواقع أيضا وليس فقط في وثائق المؤرخين. (ص61).
-..لينظر في البوار أي شيء هو، وأي شيء أفضى إليه، ولأي شيء تبور الأشياء، ولما لا يتراجع البوار أمام صبيب غيث يرفع الجدب، ويحيي موات هذه الأرض لتهتز وتطرز أديمها المشقوق بوشي الطبيعة الغناء؟ (ص85).
-لعلها أوهام تحز نياط العاشقين الصمود والصعود، غزلتها الكتابة بألف لون من خيوط الحياة فنسجت بها ذلك السجاد القروي الباذخ بأشكاله الفطرية وألوانه الفانتاستيكية.. (ص86).
تعبر هذه النماذج أولا عن الحس الشاعري المضمر عند الناقد عبد السلام أقلمون، وثانيا عن المرح النقدي، الذي يساعد في متابعة القراءة النقدية ببسمة تفجرها اللغة، بدل التجهم الذي تولده الكثير من المنجزات النقدية.
قدمت هذه الورقة في حفل توقيع الكتاب ضمن أنشطة المعرض الجهوي للكتاب: صيف الكتاب 2008 بأكادير، يوم الثلاثاء 08 يوليوز 2008.
1- د. عبد السلام أقلمون، في رحاب السرد: قراءة في البنيات والدلالات الروائية، ربانيت RABAT NET، المغرب، ط1، 2008، وأرقام الصفحات داخل المقال التي لا تحيل على الهامش هي أرقام صفحات الكتاب.
2 - يشير الناقد في بداية كل فصل إلى أنه في الأصل مقال نشر في منبر ثقافي وطني، أو مقال شارك به الناقد في إحدى الملتقيات الثقافية الوطنية.
3 - إمانويل كانت، نقد ملكة الحكم، ترجمة: غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2005، ص: 101.
4 - إيتالو كالفينو، ست وصايا للألفية القادمة: محاضرات في الإبداع، ترجمة وتقديم: محمد الأسعد، سلسلة إبداعات عالمية، الكويت، العدد 321، ديسمبر 1999، ص: 101.
5 - يمكن العودة للدراسة القيمة للأستاذ محمد الداهي حول السيرة الذهنية وبعض تحققاتها النصية، انظر: شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل، دار وليلي للطبع، مراكش، ط1، 2000.
6 -د.حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة: تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت، ط1، 2003، ص: 17.
7 -إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب، ط2، 1998، ص: 274.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.