طنجة.. توقيف المتورط الرئيسي في سرقة قبعة "كوتشي" بحي بئر الشعيري    "كان فوتسال السيدات" يفرح السايح    عادل الفقير    محمد وهبي: كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة (مصر – 2025).. "أشبال الأطلس" يطموحون للذهاب بعيدا في هذا العرس الكروي    حكومة أخنوش تُطلق أكبر مراجعة للأجور والحماية الاجتماعية    الملك يهنئ أعضاء المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة للسيدات بمناسبة فوزه بكأس إفريقيا للأمم 2025    نواب بريطانيون عن الصحراء المغربية: مخطط الحكم الذاتي محفّز حقيقي للتنمية والاستقرار في المنطقة بأكملها    سيدات القاعة يفلتن من فخ تنزانيا في ليلة التتويج بلقب كأس إفريقيا    افتتاح فندق فاخر يعزز العرض السياحي بمدينة طنجة    ترامب يستقبل رئيس الوزراء الكندي    انطلاقة أشغال المركز الفيدرالي لتكوين لاعبي كرة القدم بالقصر الكبير    منتخب المغرب لأقل من 20 سنة يدخل غمار كاس افريقيا للأمم غدا بمصر    بهدف قاتل.. منتخب السيدات للفوتسال يتوج بلقب الكان في أول نسخة    زخات رعدية مصحوبة بتساقط البرد وهبات رياح قوية مرتقبة بعدد من أقاليم المملكة    جهة طنجة-تطوان-الحسيمة تتصدر تعيينات الأطباء المتخصصين لسنة 2025 ب97 منصباً جديداً    طنجة .. كرنفال مدرسي يضفي على الشوارع جمالية بديعة وألوانا بهيجة    عبد النباوي: العقوبات البديلة علامة فارقة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب    الاستيلاء على سيارة شرطي وسرقة سلاحه الوظيفي على يد مخمورين يستنفر الأجهزة الأمنية    خبير صيني يحذر: مساعي الولايات المتحدة لإعادة الصناعات التحويلية إلى أراضيها قد تُفضي إلى نتائج عكسية    تجار السمك بالجملة بميناء الحسيمة ينددون بالتهميش ويطالبون بالتحقيق في تدبير عقارات الميناء    سلطات سوريا تلتزم بحماية الدروز    مأسسة الحوار وزيادة الأجور .. مطالب تجمع النقابات عشية "عيد الشغل"    القصر الكبير.. شرطي متقاعد يضع حداً لحياته داخل منزله    موتسيبي: اختيار لقجع قناعة راسخة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إدريس لشكر …لا ندين بالولاء إلا للمغرب    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    دراسة.. الأوروبيون مستعدون للتخلي عن المنتجات الأميركية    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    العراق ولا شيء آخر على الإطلاق    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعد الصوفي في رواية:حدثنا أبو هريرة لمحمود المسعدي
نشر في العلم يوم 16 - 07 - 2009

توسل الصوفية بالشعرية للتعبير عن مواجيدهم و مكابداتهم ومكاشفاتهم، و توسل المبدع بالتصوف لدغدغة مخيلته بما يوفره لها من فسحات للتأمل و شحذ للتخييل، و بحثا عن لغة جديدة تفيد بانزياحها العملية الإبداعية، ولا نبعد باعث التجربة الصوفية عند البعض.كما أننا لا نبعد حضور البعد أو الخطاب الصوفي عند البعض دون قصد لذلك،الأمر الذي يجعلنا نعتبر التصوف كتجربة روحية في بعدها،قد تلتقي مع تجارب أخرى يكون لها نفس الطابع(التأمل، الشوق، الإنعتاق...التجاوز...).
و بصفتنا كدارسين للأدب الصوفي أو المتأثر بالتصوف، فإننا سنعمل على الكشف عن البعد الصوفي في نص هو (عبارة عن مقطع من رواية "حدثنا أبو هريرة " لمحمود المسعدي)1. يقول فيه :
( حدث أبو هريرة قال:
جاءني صديق لي يوما فقال:أحب أن أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك، فهل لك في ذلك؟فقلت:إن وجوه الانصراف عن الدنيا كثيرة، و أحب أن تعرفني أيها اخترت لي.فقال:أخفها وقعا على النفس و ألذها مساغا. قلت:إني أخاف أن يكون انصرافا ليس بعده عود، و لست متهيئا للرحيل.أفلا سبيل إلى الإفصاح؟قال:لا. و ضرب بكفه على كتفي. قلت:إذن يكون ذلك متى؟قال:غدا.
فلما كان من الغد سبق الفجرَ إلي. و كنت لا أعهده مبكارا. فاستغربته في تلك الساعة وقلت:هممت أن أقسم أنك لم تبكر كيومك قط. ما الذي عجل بك؟قال:ننصرف لساعتنا. قلت:مهلا يا عافاك الله.فإني لم أتوضأ وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.نتوضأ فنصلي ثم ننصرف.فقال:لو فعلنا لفاتنا خير كثير.دع الصلاة اليوم فالله غافرها لك. و لنذهب فليس منه بد.فلم أجد إلا القيام معه.فقمت و أنا أستغفر الله و أصلح من ثيابي. فذهب بي إلى بيته،و كانت بفنائه نجيبتان مرحلتان،فقال:اركب هاته. ففعلت وركب الأخرى.
ثم خرجنا من مكة و انصرفنا عن طريق القوافل، و سرنا حثيثا حتى أصبنا الرمال وجعلتِ النجيبتان تغرسان و تقلعان فإذا خطاهما لينة عذبة كأنها مس خفيف،و نحن نصوب و نصعد من كثيب إلى كثيب.و كنا في غور إذ قال:الآن نترجل.فقلت:و الله ذاك ما كنت أريد، فقد أخذ مني الرمل و لونه ولطفه.ثم ترجلنا و أنحنا راحلتينا و عقلناهما وجلسنا على الرمل. فجعلت أضرب برجلي و أقلب يدي فأجد منه كمس لطيف النهود، وكانت قد نامت فيه برودة الليل فهو كاليقين بعد الحيرة.و صاحبي مستلق مٌصيخٌ كأنه يتوقع سمعا.
و مضت ساعة.ثم إذا هو يومئ بيده أن اصعد في الكثيب.فصعدت فرأيت على رأس الكثيب المقابل من وجه الشرق شبحين.و كان عاليا فكأنهما على صفحة السماء المبيضة.وقال لي صديقي:انظر و لا تتكلم.و تبينت الشبحين فتبين لي فتاة و فتى،في زي آدم و حواء،ممدودان جنبا إلى جنب متجهان إلى مطلع الشمس،و كانت على وشك البزوغ فالمشرق كلهيب النار.)
رغم قصر النص إلا أنه يتميز بالاقتصاد اللغوي و بالكثافة الدلالية،هذه السمة التي يمكن أن نعتبرها أول أثر صوفي في النص،على اعتبار أن الكتابة الصوفية تتجاوز مقولة" ما قل و دل" إلى مقولة "إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" على حد قول النفري.و قد تميز الأدب النثري الصوفي بطغيان البنية الكشفية التي تختزل التعبير اللغوي مقابل تمطيط المعنى الدلالي، لذلك تفاجئنا مثلا الشروح الغزيرة على الصلاة المشيشية،أو على الحكم العطائية و غيرهما .
فبعدما تملكنا النص في القراءة الأولى، نسعى في القراءة الناقدة الكشف عما يزخر به من بعد صوفي، والذي تبدى لنا على الشكل الآتي:
1) في مستوى الخطاب
أ?- العنوان:انطلاقا من عنوان النص،فإنه يوقفنا اسم "أبو هريرة" الذي يحيلنا على المرجعية الدينية. والفعل الماضي "حدثنا" يوهمنا بحديث نبوي ما، خصوصا و أن أبا هريرة من رجال الحديث و الرواية. و يتستر على هذا المعنى قول السارد:»حدث أبو هريرة قال:«فهذه الجملة محكي قول لطالما تصدرت الأحاديث النبوية بعد السند.لكن بعد قراءة الجملة الأولى بعد هذا المحكي:»جاءني صديق لي يوما«يتكسر أفق انتظارنا،لكون الجملة تضم لفظة "صديق" الغريبة عن المعجم العربي القديم(أو عن سند الأحاديث)وبالتالي فنحن لسنا أمام حديث نبوي بل أمام نص إبداعي استثمر البعد الرمزي لهذه الشخصية الدينية،و لما نعلم أن هذا الصديق قد جاء عند أبي هريرة رغبة في أن يصرفه عن الدنيا عامة،و أبو هريرة من الصحابة الأجلاء(و إن كان النص لا يعني أبا هريرة هذا)، يبرز الأثر الصوفي في النص،وذلك أن الصوفية يفرقون بين أهل الشريعة،و أهل الطريقة و أهل الحقيقة 3.
ب- اللغة الرمزية: أغلب كتابات الصوفية توسلت بالرمز ، يقول نيكلسون:"فالصوفية قد اصطنعوا الأسلوب الرمزي لأنهم لم يجدوا طريقا آخر ممكنا،يترجمون به عن رياضتهم الصوفية"4،وكذلك لأنهم أرادوا إخفاء أسرارهم كما يقول ابن الفارض:
رموز كنوز معاني إشارة
بمكنون ما تخفي السرائر حفت
و نلمس في النص هذه الرمزية، في قول صديق أبي هريرة؛ إذ يخبره عن وجه الانصراف عن الدنيا الذي اختاره له،فيقول:»...أخفها وقعا على النفس وألذها مساغا«،اكتفى بهذا دون أن يفصح له عن المقصود،ودون تحقيق الوظيفة الإفهامية للخطاب؛حيث لم يستطيع أبو هريرة كشف هذه الرمزية،وسأله قائلا:"أفلا سبيل إلى الإفصاح؟"،فأجاب ب"لا"،وضرب بكفه على كتفه.فالموقف أو الأمر لا يحتمل كشف السر قبل معاينته مباشرة.
ج)المصطلح: وإضافة للرمزية يبرز الأثر الصوفي في النص من خلال المصطلح؛ومن أول المصطلحات التي تباشرنا في النص نجد مصطلح "النفس"،والنفس حسب القشيري"فهي التي يراد بها ما كان معلولا من أوصاف العبد ومذموما من أخلاقه وأفعاله،وأشد أحكام النفس وأصعبها توهمها أن شيئا منها حسن أو أن لها استحقاق قدر"5.
وعندما نقارن دلالة المصطلح الصوفية مع سياقه في النص:"أخفها وقعا على النفس وألذها مساغا" نتبين أنه وُظِّف من غير دلالته تلك،وهذه الملاحظة تنطبق على جميع المصطلحات التي رصدناها.ومنها أيضا:
-"الاستغفار"،يقول أبو هريرة(=السارد):"فقمت وأنا أستغفر الله".وللاستغفار حضور قوي في أوراد الطرق الصوفية ،ففي الورد التجاني مثلا، يردد مائة صباحا ومثلها مساءً6 لتطهير النفس من الكدورات والذنوب.
- "اليقين"،جاء في النص مشبها به؛حيث شبه به الرمل ،في قول السارد(=أبو هريرة(:"وكانت قد نامت به برودة الليل فهو كاليقين بعد الحيرة"
واليقين في اصطلاح الصوفية هو:سكون القلب إلى الله بعلم لا يتغير ولا يتحول،ولا يقلب ولا يزول عند هيجان المحركات،أو ارتفاع الريب في مشاهدة الغيب.7
-أما "الحيرة" فهي عندهم:"عتبة أساسية من عتبات السلوك والكشف الصوفيين، هي بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم، تحجبهم عن التفكر والفهم والتأمل"8.
فرغم توظيف هذين المصطلحين مجردين عن معناهما الصوفي،إلا أن توظيفهما في السياق؛حيث أردفت الحيرة باليقين،لا يثبت جهل السارد بثقلهما الرمزي.
2)في مستوى الفكر
أ?) الصحبة:نجد الأثر الصوفي واضحا انطلاقا من العلاقة بين الشخصيتين "أبو هريرة و صديقه" المجهول في النص؛حيث يكتفي السارد بالكشف عنه من خلال قول أبي هريرة الآتي:"جاءني صديق لي يوما"،فطابع العلاقة بينهما هو الصداقة التي يمكن أن تبلغ إلى حدود قصوى،تصل إلى التضحية بالمال والنفس.ومن هذا ما يضمه مفهوم "الصحبة" عند الصوفية. خصوصا و أن هذا الصديق قد جاءه ليصرفه عن الدنيا»...أحب أن أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك«.
و أن الخطاب كان عموديا من أعلى إلى أسفل أي من الصديق إلى أبي هريرة،و الذي يتجلى في أفعال الأمر التي تطلب حصول الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء مع الإلزام ،مثل قوله:"ننصرف لساعتنا" "دع الصلاة اليوم" "و لنذهب فليس منه بد" "الآن نترجل" "انظر و لا تتكلم".
فالانصياع والخضوع و التسليم بلغ درجة ترك الصلاة،و الاستجابة لطلب أمري وإن كان إيماءً،يقول:»ثم إذا هو يومئ بيده أن أصعد في الكثيب، فصعدت«
و تجعل مثلا الطريقة القادرية البودشيشية من شروط الصحبة،حسن الاستماع،و حسن الاتباع وحسن الأدب9.
ب)السلوك:و يبرز البعد الصوفي أيضا في تغيير الموقف من الاتصال ب (الدنيا) إلى الانفصال(الانصراف عنها) وهي غاية كل متصوف عزم على السلوك(و تبقى درجة الاتصال بالدنيا رهينة بكل طريقة أو بطبيعة كل مريد).
و لتحقيق هذا الانفصال استعانت الشخصيتين بنجيبتين مرحلتين للخروج من مكة، فهي عدة السفر إذن، والنجيب هو الفاضل من كل حيوان، والنجيب من الإبل هو القوي منها، الخفيف السريع.10 وهذا السفر ليس للمتعة أو الصيد أو التجارة،يقول أبو هريرة(=السارد):»...و انصرفنا عن طريق القوافل«،فهو سفر للانصراف عن الدنيا،و عن ملهاتها التي ترمز إليها القوافل ،انصراف إلى الصحراء بفضاءاتها المفتوحة الفسيحة اللامحدودة ،شبه منعدمة الحركة،و التي توفر كل الشروط لسفر روحي لا حدود له،وهذا ما يصبو إليه الصوفي بحثا عن محفزات أقوى تأثيرا على ملكاته التأملية /التدبرية.عكس مكة التي يرمز بها إلى المدينة(بصفة عامة)و التي جمعت الناس من كل فج عميق حتى أن خلوة الرسول [ص] لم يوفرها له إلا غار حراء.
ج) المكان: و يبرز أيضا البعد الصوفي في هذا النص على مستوى المكان:
يقول أبو هريرة:»فصعدت فرأيت على رأس الكثيب المقابل من وجه الشرق شبحين«فالمراد لا يتجلى في الكثيب نفسه بصفته مكانا،و لكن على مستوى رأسه المقابل لوجه الشرق.و الإشارة لارتفاع المكان الذي له علاقة بالتجلي نجدها،في النص القرآني ،يقول تعالى:»ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانَه فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل جعله دكًّا وخرَّ موسى صعِقا فلما أفاق قال سبحانك تُبتُ إليكَ وأنا أول المؤمنين«11.
و الصوفية اتخذوا من الجبل الدال على الارتفاع رمزا لتجلي الذات الإلهية ،حيث مثلا في منطق الطير لفريد الدين العطار،يشار إلى مكان وجود طائر "السيمرغ"12(ملك الطيور) المرموز به للذات الإلهية وراء جبل قاف »انثروا الأرواح وسيروا في الطريق،و امضوا قدما نحو تلك الأعتاب،فلنا ملك بلا ريب يقيم خلف جبل يقال له جبل قاف،اسمه "السيمرغ" ملك الطيور(...) مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع«13.
وإذا اقترن الجبل في الآية بالنور الإلهي حسب "تفسير الجلالين" (حيث ظهر من نور الله، قدر نصف أنملة الخنصر،وجعل من الجبل دكّا)14.
نجد أيضا في النص اقتران رأس الكثيب بالشمس،والتي شبهها بلهيب النار وهي فقط(أي الشمس) على وشك البزوغ،يقول: » وكانت على وشك البزوغ فالمشرق كلهيب النار« أما إذا بزغت فكيف ستبدو؟خصوصا وأن المشبه به اقترن باللهيب،في حين أنه كان بالإمكان الاقتصار على النار،لكن الكاتب تعمد تبئير الصورة،وهو من مميزات الكتابة الصوفية.
و إذا كانت الأمكنة ،الجبل في الآية أو جبل قاف في منطق الطير، قد تمت الدلالة إليها لتجلي الذات الإلهية سواء رمزا أو حقيقة،فإن رأس الكثيب أيضا دل به لمعانقة ما يخفي وراءه،و هما "شبحين" يقول أبو هريرة :»...و تبينت الشبحين فتبين لي فتاة وفتى«.
خاتمة :
لقد أسعفنا النص موضوع الدراسة في استكناه البعد الصوفي داخله، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى الفكر،ونحن لا ندعي أننا ألممنا بجميع جوانب هذا البعد،لذلك فقراءتنا تبقي على أسئلة،لعلها تكون مشروع قراءة جديدة،ما دام النص من منظور جمالية التلقي ،يتضمن فعالية لا يستوعب القراء مجمل مكوناتها.
1 - نفس النص حلله حسين الواد في كتابه"في مناهج الدراسات الأدبية"منشورات الجامعة،السلسلة الأدبية-2- يناير 1984.ومنه أخذنا النص .ونحن في هذه الدراسة نقدم قراءة مختلفة عن قراءته باعتبار أن "كل تأويل جديد يجيب عن الأسئلة التي تظل عالقة بحكم أن النص الفني يتضمن فعالية لم يستوعب القراء السابقون مجمل مكوناتها عبر ردود فعلهم المختلفة"(القراءة التفاعلية-دراسات لنصوص شعرية حديثة،ادريس بلمليح،دار توبقال للنشر، سلسلة نصوص أدبية،ط1/2000).
2 -للتوسع في ماهية الخطاب الصوفي ،راجع"الخطاب وخطاب الحقيقة"لأحمد الطريبق أحمد،مجلة فكر ونقد،السنة 4،العدد40/يونيو2001.ص61 وما بعدها.
3 - الشريعة هي:معرفة السلوك إلى الله تعالى.والطريقة هي:سلوك طريق الشريعة،أي العمل بها لإمكانية النظر.والحقيقة هي:دوام النظر إليه تعالى.(انظر "السير والسلوك إلى ملك الملوك"للشيخ قاسم بن صلاح الدين الخاني(1109ه)،دراسة وتحقيق:سعيد عبد الفتاح،منشورات مكتبة الثقافة الدينية،ط1/2002.في الهامش،ص44.)
4 -الصوفية في الإسلام، ترجمة وتعليق نور الدين شريبة،منشورات مكتبة الخانجي،1951م/1381ه ،ص101./وتوسل الصوفية بالرمز له دوافع أخرى.
5 - الرسالة القشيرية في علم التصوف،أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري،تحقيق وإعداد معروف مصطفى زريق،المكتية العصرية للطباعة والنشر صيدا بيروت،ط1/1461ه - 2001م،ص44.
6 - انظر الأضواء الصافية على الأوراد التيجانية،سعد بن عمر بن سعيد جليا الفوتي،الطبعة الأولى 1977م،ص26/28.
- معراج التشوف إلى حقائق التصوف،عبد الله أحمد بنعجيبة،تقديم وتحقيقعبد المجيد خيالي،مركز التراث الثقافي المغربي-البيضاء،ط1/2004.7
8 - مصطلحات التصوف الفلسفي،ص90
- انظر "نبراس المريد في طريق التوحيد" لأحمد قسطاس منشورات مجلة المريد 1414/1415ه ص135و ما بعدها. 9
-انظر "لسان العرب" لأبي الفضل جمال الدين محمدبن مكرم بن منظور،المجلد 14،دار صادر بيروت،ط3/2004،ص190.10
- سورة الأعراف، الآية144.11
13- طائر عملاق في الأساطير الفارسية أجنحته ضخمة كالسحاب،ويحط السيمئغ عللى شجرة سحرية هي "جوكينا" تنبث بذورا لجميع الحياة النباتية،وعندما يتحرك تتساقط آلاف الغصون والفروع في جميع الاتجاهات،ثم يجمعها طائر آخر هو "كامروش" حيث يحملها إلى المطر"تشربا" الذي يقوم بتجميدها.(معجم ديانات وأساطير العالم،إمام عبد الفتاح إمام،المجلد الثالث،مكتبة مدبولي،دون تاريخ)
14- منطق الطير،فريد الدي العطار النيسابوري،ترجمة وتعليق:د.بديع محمد جمعة،مراجعة وتقديم:د.عبد المنعم محمد حسنين،منشورات دار الرائد العربي،ط1/1975،ص105.
14- انظر" تفسير الجلالين" لجلال الدين محمد بن احمد المحلي،و جلال لدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي،ويليه كتاب أسباب النزول للسيوطي،دار المعرفة بيروت-لبنان،ص221.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.