حرمة الله على عرض أخنوش فالبرلمان: حصيلة الحكومة متكاملة وخا كاينة إكراهات    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تصدر بلاغا حول قرار معاقبة اتحاد العاصمة الجزائري    "فوتسال المغرب" في المركز 8 عالميا    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    خلال 4 أشهر.. إصدار 2905 من تراخيص الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    رئيس وزراء اسبانيا يفكر في الاستقالة بعد فتح تحقيق ضد زوجته في قضية فساد    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    العدو الجزائري يقحم الرياضة من جديد في حربه على المغرب    بطولة فرنسا لكرة القدم.. باريس سان جرمان يفوز على مضيفه لوريان 4-1    القضاء الفرنسي يؤكد إدانة رئيس الوزراء السابق فرانسوا فيون بقضية الوظائف الوهمية    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    أخنوش: الحكومة دأبت منذ تنصيبها على إطلاق مسلسل إصلاحي جديد وعميق يحقق نهضة تربوية وثورة تعليمية    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    الجامعة الملكية لكرة القدم تتوصل بقرار ال"كاف" بشأن مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    الكاف: نهضة بركان ربحو USMA بثلاثية فالألي والروتور ملعوب فوقتو فبركان    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    وزير النقل… المغرب ملتزم بقوة لفائدة إزالة الكربون من قطاع النقل    توقعات بتأجيل كأس أمم أفريقيا المغرب 2025 إلى يناير 2026    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    جهة طنجة تناقش تدابير مواجهة الحرائق خلال فصل الصيف    قطب المنتجات المجالية نقطة جذب لزوار الملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب 2024    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    تهديدات بالتصعيد ضد ّبنموسى في حالة إصدار عقوبات "انتقامية" في حقّ الأساتذة الموقوفين    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مقترح قانون لتقنين استخدم الذكاء الاصطناعي في المغرب    إعلان فوز المنتخب المغربي لكرة اليد بعد انسحاب نظيره الجزائري    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    مبادرة مغربية تراسل سفراء دول غربية للمطالبة بوقف دعم الكيان الصهيوني وفرض وقف فوري للحرب على غزة    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عتبات الرواية أم عتماتها؟
قراءة في "أبنية الفراغ" لمحمد عز الدين التازي
نشر في العلم يوم 25 - 12 - 2009

يمثل محمد عز الدين التازي الصوت المغربي الأكثر إنتاجا في الإبداع السردي والنقد، ومواظبة على الكتابة والنشر منذ أربعين عاما؛ فهو صاحب أكبر كمٍّ روائي وقصصي لأديب مغربي لحد الآن. وتحفل تجربة التازي السردية بخصوصيات فنية لافتة، من بينها الحفاظ على نفس الوتيرة الإبداعية، التي ضمنت له الاستمرارية، والتطور المطرد، من منطلق أساس مفاده: أن التطور الكمي يفرز بين طياته لا محالة تطورا نوعيا، وهذا ما تشهد به تحققاته النصية، بمختلف موضوعاتها، وتعدد طرائق سردها، كل هذا وغيره، أهَّلَه لأن يكون إن جاز التعبير شهرزاد الرواية المغربية بامتياز....
أولاً : محمد عز الدين التازي رائدا من رواد التجديد
كان محمد عز الدين التازي من الأوائل الذين فتحوا للرواية المغربية أفقا روائيا جديدا، وأحدثوا، بذلك الصنيع الفني، قطيعة مع نموذج الرواية المشرقية الذي كان مشدوداً إلى النزعة الأنكلوساكسونية في الكتابة الروائية، من حيث تيمات الكتابة، والمعمار الفني، ووظيفة الكتابة الروائية؛ وبذلك برزت، في المشهد الروائي المغربي، في ثمانينيات القرن الماضي، إرهاصات كتابة روائية ذات مرجعية فرنكفونية لها مواصفاتها وخصوصياتها...
هذا التوجه الروائي الطارئ، شكَّلَ آنذاك فتحا كبيرا ومثيراً للجدل لقارة جديدة أمام كتاب الرواية المغربية. ولقد مثل هذا الاكتشاف الجمالي لقارة الرواية الجديدة كما تبلورت في فرنسا ظاهرة روائية فريدة من نوعها، انعكست ظلالها وأصداؤها إيجابا على نموذج الكتابة الروائية، التي غدت متعددة المشارب، متنوعة المرجعيات، ثرية على المستوى الأسلوبي، تواقة إلى التجديد والتجريب وارتياد آفاق جمالية غير مطروقة...
كما أنه من مظاهر قوة تجربة محمد عز الدين التازي الروائية، ثورته الخفية على نموذج الرواية الواقعية ذات التوجه الإيديولوجي، التي أزهرت أفنانها، وأينعت ثمارها، في سبعينات القرن الماضي، حيث قام التازي بمعية روائيين آخرين بانعطافة قوية في هذا الاتجاه، تحول معها النص الروائي من طغيان تسلط البعد الإيدلولوجي المباشر إلى إيثار الحفر عن القيم الجمالية والمعرفية في الكتابة الروائية، وهو ما تسعى نظرية الرواية عامة إلى تكريسه وتثبيته...
ومن هذا المنطلق، فإن جل روايات التازي جاءت من خارج النص الإيديولوجي الذي يكاد يسيطر على المشهد الروائي المغربي أنئذ، من منطلق اقتناع الروائي ويقينه بأن الرواية ليست معنية بتقديم بيان سياسي حماسي، ولا الانخراط العضوي في قضايا البلاد والعباد الموارة من منطلق نظرية الالتزام المشهورة في أدبيات الماركسية؛ لأن الكتابة بالنسبة إليه، أولا وقبل كل شيء كيان إبداعي وجمالي، يؤدي رسالته بقليل من الحياد، لذا نجده ينأى بنفسه، عما كان سائدا من نزوع الروائيين لحظتئذ إلى كتابة رواية هاجسها الانخراط المحموم في أدلجة النص لصالح هذا التيار الإيديولوجي أو ذاك.
وبذلك يكون التازي قد راهن على تحديث الكتابة الروائية وتجديد دمائها، من خلال سعيه الدؤوب لا على استنساخ الواقع عن طريق الانعكاس، بل عن طريق تفجيره وإعادة بناء ملامحه من جديد »بما يجعل منه مجالا للتخييل والحلم وإضفاء طابع الأسطورة عليه، أي أن الواقع يصبح موضوعاً للكتابة، بما هي طاقة لغوية وتخييلية وإرهاص بالوقائع والاحتمالات«(1)..
وفي سياق هذا السياق الإبداعي الحافل والزاخر، يواصل محمد عز الدين التازي هذا المشروع الروائي النهري المتدفق بصدور الرواية العشرون، وهي بعنوان "أبنية الفراغ"، مشكلة بذلك حلقة جديدة من حلقات عطاء الروائي الخلاق، الذي يحفر مجراه السردي كما النهر بتؤدة وإصرار وعزم...رواية يراهن صاحبها فيها على تجديد عوالم متخيله الروائي، وهذه المرة بالاقتراب أكثر فأكثر من ظواهر اجتماعية فاقعة الحضور في مغرب اليوم من قبيل: الدعارة وتجارة المخدرات والهجرة السرية، ومن خلال تناول سردي حكائي يشير إلى فاجعة مجتمع يراهن على التحول، ولكنه يصطدم بمعيقات من صلب تَكَوُُّنِهِ وتشكله.
ثانيا: عتبات الرواية أم عتماتها؟
نادراً ما تخرج روايات عز الدين إلى الوجود بدون ظاهرة التعدد والتنوع في عتباتها. فكل رواياته عادة ما تكون »مُصَفَّحةً« ب»خطاب خفْرٍ« »Un discours d"escorte«، من العتبات الموجهة إلى القارئ.
ففي صفحة الغلاف الأولى، يثبت الروائي عنوان الرواية ("أبنية الفراغ")، واسم صاحبها (محمد عز الدين التازي)، وتعيينها الجنسي (رواية)، كما تُزَيِّنُ واجهة غلاف الرواية لوحة للفنان محمد الجعماطي، فيما نقرأ على طي الغلاف الأول شهادة قيمة حول مشروع التازي الروائي للقاص والمفكر العراقي: الدكتور علي القاسمي.
لا يكتفي الروائي بهذه العتبات المألوفة في الخطاب الروائي، بل سرعان ما سيضخ لقارئه جملة من العتبات النصية التي ستمثل، في حد ذاتها، نصوصاً محيطةً (Peritextes) أخرى، لها وظيفتها في توجيه القراءة، ولها، أيضا، رهاناتها الفنية في اقتصاد النص الروائي ككل... ويتعلق الأمر بعتبة التحذير »»Avertissement au lecteur الصادر عن المؤلف نفسه: (الشخصيات والأحداث في هذه الرواية، من وحي الخيال، وكل تشابه بين شخصياتها وأحداثها وبين أشخاص حقيقيين وأحداث وقعت، هو من قبيل المصادفة). أما باقي العتبات الأخرى، فنجد نصا مقتبسا من توقيع أحد أبرز شخصياته المتخيلة، وهو ابن ضربان الشرياقي، تليها عبارة مقتضبة لأحد شخصيات روايته وهو مصطفى الذي أصبح اسمه بعد ذلك قراقوش أو كراكوس، وبالإضافة إلى كلمة أخيرة، ينسبها الروائي لأحد أبرز شخصيات روايته، وهو علي المكاوي، ليعطي الميكروفون مباشرة لهذه الشخصية قصد الشروع في بدء حكايتها...
وسنتوقف في هذه المحطة، عند عتبة عنوان الرواية ("أبنية من فراغ")، وكذا على عتبة التحذير باعتبارهما نموذجين ثريين وزاخرين في مضمار خطاب العتبات، ولما لهما من فرادة، وتميز يستحقان وقفة أطول وأعمق في هذه السياق التحليلي.
1 بين عتبة العنوان وعتماته
يدخل هذا النوع من العناوين في ما يسمى بالعناوين الاستعارية الرمزية؛ لأنه عنوان غير مباشر في دلالاته وإيحاءاته. فلا يخفى على القارئ الطابع الالتباسي لهذا العنوان منذ الوهلة الأولى، وهذا ما يفرض عليه ضرورة قراءة هذا العنوان قراءة بعدية (أي بعد حين انتهائه من قراءة العمل ككل)، من خلال سياق وروده في النص، وفي مضمار معنى النص ككل.
من هنا نجد أن صيغة العنوان لن ترد في هذه الرواية إلا في فصلها الأخير، وهذا ما يشي بأن العنوان هنا يأخذ صفة الحكمة المقطرة، والدرس الأبقى والأمثل، والعبرة التي تظل خالدة من خلال حياة شخصيات هذه الرواية، بعد كل ما حصل...
فما هي صيغة البنية التركيبية التي صاغ الروائي عنوانه عليها؟
وما هي طبيعة الدلالات التي يشي بها العنوان؟
بالعودة إلى مقاربة عنوان هذه الرواية ("أبنية الفراغ") على المستوى التركيبي، سنجده مركبا تركيبا إضافيا، من قبيل الإضافة المعنوية، حيث ثمة علاقة غير مباشرة بين المضاف والمضاف إليه، فالمضاف وحده كلمة نكرة (أبنية) تحيل على معان متعددة، كما جاءت جمع تكسير من جموع القلة، وقد اكتسبت صبغة التعريف من المضاف إليه، الذي حدد نوع هذه الأبنية، أما لفظة "الفراغ" فوردت معرفة، تشير أساسا إلى ما هو معنوي (الفقدان والهباء والضياع).
أما على المستوى الدلالي، فلا يمكن توقع معنى مباشر من رواء هذا التركيب العنواني الملتبس، ما دام هذا الأخير يدخل في نطاق العناوين الرمزية التي لا تفصح ولا تقر ولا توضح منذ الوهلة الأولى، فكل ما تراهن عليه هو استكناه المعنى غير المباشر، وهو ما سنسعى إلى تلمسه، واستبار أغواره من خلال قراءتنا للرواية بأكملها، لنتعرف خلالها على علاقة العنوان بمضمون الرواية ككل...
لم يرد ملفوظ العنوان في هذه الرواية إلا في الفصل الأخير من الرواية، ففيه سيعيد السارد الميكروفون لشخصية علي المكاوي لاستئناف بوحه وتذكراته. كل هذه التذكرات والاعترافات تستدعي تأمل سيرة الذات الفردية في علاقتها الوطيدة بسيرة الآخرين الذين كانت لهم منزلة فضلى في سيرة حياته...بمعنى آخر، يكون القارئ مرغماً على الشروع في قراءة النص من بدايته إلى حين وصوله إلى الصفحة 212 من الرواية، ليعثر فجأة على الجملة التالية: "إنهم في السيرك يبنون الفراغ"...
وهنا يستدعي علي مكاوي في مقام الذكرى هذا، شخصية محبوبة إلى قلبه، وهي شخصية مصطفى الذي تعرف عليه في لحظات شبابه الأول في درب السلطان، وكان قزما، لكنه طيب القلب، رقيق الشعور. سيقررمصطفى خوض غمار تجربة السيرك مع فرقة إيطالية يجول معها العالم. وبعد عامين من التجوال والفراق، سيلتقى به علي المكاوي صدفة في البيضاء، وقد غير اسمه من مصطفى إلى قاراقوش أو كاراكوس بحسب الأماكن التي يتجول فيها...
في هذا اللقاء الحميم بالذات، دار بينهما حوار طريف حول قول بليغ صدر عن مصطفى مفاده: أنهم في السيرك يبنون الفراغ، وتلك عصارة خبرته وتجربته في عالم السيرك الفرجوي، يسأله علي المكاوي: »وكيف تبنونه؟
قال: الفراغ هو الفراغ. الفراغ هو العالم. العالم يعيش حروبا ومجاعات، ونحن في السيرك نُوهِمُ الناس الذين يتفرجون أننا نبني الفراغ. نعطيهم لحظات من المتعة والنسيان.
كان القطار يقترب من الوصول إلى طنجة، فقد تجاوز قبل قليل (محطة أصيلة) وأنا أفكر في معنى بناء الفراغ. درس علمني إياه مصطفى، صديقي القزم... «(2).
وهنا يحق لنا أن نتساءل، أليست قيمة هذا الدرس وبلاغته، في طبيعة علاقة الإنسان بالحياة وبالوجود، حيث لا يكون الإنسان إنسانا ما لم يعثر على شيء يقبل أن يموت من أجله (لا أن يموت بطريقة مجانية وبلا معنى، كما هو شأن موت أخيه عبد الله)، أو يحيا ، كذلك، من أجله (كما يفعل العديد من شخصياته التي يعتبرها الكاتب أشباحا عابرة في الزمان والمكان). أما إعطاء الفرد لحياته معنى وقيمة، فلم يتعلمه علي المكاوي إلا من أضعف خلق الله وهو صديقه مصطفى القزم...
فمنذ ذلك اليوم، سكنته حكمة "بناء الفراغ" ولا تزال، بما حوته هذه الحكمة من دلالات فلسفية غاية في العمق، وعابرة للحيوات، وعامرة بالعبر. سيكتشف معها علي المكاوي أن الحياة، كواقعة بيولوجية، تفتقد المعنى الحي؛ لأن الفرد البشري، هو الذي يعطيها المعنى هنا والآن. وحياة بلا معنى (كما هي حياة المحامي وسليمة وغيرهما) غير جديرة بأن تعاش أصلاً...
فإذا كانت حيوات مجموعة من شخصيات هذه الرواية تشبه إلى حد كبير "أبنية من فراغ"؛ أبنية لا أساس لها، فقد كان لا بد لهذه الأبنية أن تنهار على رؤوس أصحابها في لحظة من اللحظات؛ لأنها ترتكز على ارض غير ثابتة، قوامها الخيانة والغش والخداع...وعندما ستنهار تلك الأبنية، ستكشف لنا درجة التفسخ والتعفن والسوس الذي ينخر تلك الحيوات في الأعماق.
وخلاصة القول: يتضح أن عتبة العنوان لا تعكس مضامين النصوص بطريقة مباشرة؛ وبالتالي فعتبة العنوان من خلال تأويلنا الخاص هي عتبة كاذبة، لكن ليس بمعناها السلبي، ذلك أن هذا العنوان لا يساعد القارئ أن يتوقع مضمونا معينا للرواية؛ لأنه يتخذ وجوهاً متعددة، فهو بمثابة عنوان عتمة لا عتبة، ومن الصعب القبض على دلالاته العميقة منذ الوهلة الأولى، لذلك يحتفظ القارئ بالعنوان رفيقا له في مغامرة القراءة حتى النهاية، آنذاك يعود القهقرى، ليعطي هذا العنوان الدلالات التي تنسجم مع أحداث الرواية ومجرياتها، وتتناسب مع رؤيتها الفلسفية للوجود الفردي والجماعي.
2 عتبة التحذير بين النفي الإثبات
يهمنا التوقف عند مظهر نصي مميز من مظاهر التنويع في الخطاب الافتتاحي في هذه الرواية، وهو عبارة عن تنبيه، يستوقف القارئ بداية، ويدعوه لتأمل فحوى هذا المظهر النصي حتى يتمكن من الحصول على قراءة بعيدة عن كل التأويلات الخاطئة، وكذا تفادي القراءات المغرضة التي تشوه مضامين الرواية، وتؤولها على هواها، لا على هوى ما تريد الرواية قوله.
غير أن المتأمل في مضمون هذا التنبيه ليس بمقدوره نفي العلاقة بين ما كتبه التازي، وما يمكن أن توحي به شخصيات وأحداث هذه الرواية، أو تحيل عليه في الواقع، وبموجب هذا التنبيه، يصِرُّ الروائي على نية خلو القصد من أي تشابه بين أحداث الرواية وما يجري في الواقع الخارجي، وهو في نظرنا أحد أشكال التمويه والمخاتلة في هذه الرواية.
فلا نستطيع كقراء الجزم بأن ما يحكيه التازي هو محض خيال، وأن الأحداث الواردة على كثرة تقابلاتها مع الواقع هي من صنع خيال المؤلف فحسب، فبين الحدين الواقعي والمتخيل تكمن حيرة القارئ، حيث يمكن التوقف عند مجموعة من التشابهات والتقابلات بين ما يُحكى في النص وما يقع في الخارج من أحداث ووقائع.
وفي ظني أن محمد عز الدين التازي استمد بعض ملامح شخصياته من حيوات إنسانية حقيقية، عاشرها أو قرأ عنها، رغم التحذير التمويهي الذي صَدَّر به روايته، فالقارئ الحصيف لا تخطئ بصيرته مجموعة من الإحالات المرجعية المباشرة، ومنها غير المباشرة...
وعليه، فإن هذا التنبيه، هو عبارة عن تنبيه تمويه، بموجبه يتم صرف القارئ عن لعبة التطابق من جهة، كما تصرف، في الآن نفسه، كل شبهة تأويل ما يقع على أنه يحيل على شخصيات واقعية بعينها، وهو ما يحمي الكاتب من أية متابعة قانونية في حالة وجود حالات التشابه والتطابق. وهنا لا يجب التغاضي عن دور هذه التنبيهات في إطار علاقة الكاتب المضطربة بالأفراد والمؤسسات المتسلطة (السياسية أو الدينية أو الاجتماعية...).
نستنتج مما سبق، أن هذه العتبات الداخلية في "أبنية الفراغ" لمحمد عز الدين التازي، تعتبر بمثابة خيط رفيع بين مستويي ما هو »خارج النص« »Hors-texte«، وبين ما هو »داخل النص« »In-texte« (النص الروائي)، مما يجعل المسافة واهية بين كل من النصوص المحاذية والنص المركزي(3). وهذان الموقعان (الخارج والداخل) يعمد فيهما الروائي إلى إقامة مسافة قابلة للتراوح بين ما هو خارج نصي وما هو نصي. وهذه هي القيمة المضافة لخطاب العتبات في روايات محمد عز الدين التازي بصفة عامة، وفي روايته "أبنية الفراغ" بصفة خاصة.
مراجع معتمدة:
1 محمد عز الدين التازي: " في ذات كل مبدع ناقد..."، حاوره: محمد معتصم، في: " كتاب عمان(1): حوارات ثقافية في الرواية والنقد والقصة والفكر والفلسفة"، (بدون تاريخ النشر)، ص:183.
2 محمد عز الدين التازي "أبنية الفراغ" (رواية)، مؤسسة سليكي إخوان بطنجة، الطبعة الأولى، 2009، بدعم من وزارة الثقافة المغربية، ص: 212.
3 للمزيد من التفصيل في هذا الموضوع، يرجى مراجعة كتابنا: "عتبات الكتابة في الرواية العربية"، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، ط: 1، 2009.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.