تبدو بعض الكتب الكبيرة معينًا لا ينضب، قد تهجره سنة أو سنتين وفجأة تراودك فكرة سبق لك أن قرأتها، أو سمعتها عند شخص آخر، فتعود إلى الكتاب لعلك تعثر عليها. فتبدأ رحلة جديدة في استذكار ما قرأت. هذا ما وقع لي مع كتاب اللوفيتان لتوماس هوبز، الذي قرأته في بداية 2009، واستنتجت من قراءته ما استنتجت، ولكنني احتفظت دائمًا بفكرة أساسية وهي أن القراءة قد تزيل الكثير من الغشاوة والأفكار المسبقة عن المفكر الذي تقرأه. وبالنسبة لهوبز، قرأته دون حكم مسبق، واستنتجت منه ما استنتجت بخصوص الدولة وبنائها وأسباب زوالها والسلطة السياسية وأسسها، إلا أن الفكرة الشائعة عنه، وهي أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، لم أجد لها تلك القوة التي لأفكار أخرى توصلتُ إليها بنفسي. كنت قد نسيت تفاصيل الكتب إلى أن شاهدت تسجيلًا لصديقنا لأحد المهتمين حول دور العلامة في بناء الدولة والسلطة عند هوبز، فقادتني ملاحظته هذه للعودة للفصل الذي خصصه هوبز للكلمة، وهذه العودة قادتني بدورها لإعادة قراءة الفصل المخصص للكلمة والفصل الخاص بأهداف الخطاب والفصل المخصص للفضائل العقلية. وكان هذا المقال هو ثمرة قراءة وتأمل شخصي في هذه المقاطع الفلسفية المختارة من هذا الكتاب. وقد استخلصت ثلاثة محاور رئيسة: الكلمة، الخطاب، والميولات، وهي عناصر مترابطة تُبرز كيف ينظر هوبز إلى اللغة لا بوصفها أداة تواصل فحسب، بل كبنية تأسيسية للعقل والسلطة والنظام الاجتماعي. يرى هوبز، أنه لا يمكن للمجتمع أو الدولة أن يُفهما خارج اللغة. فالكلمة هي "الأداة التي من دونها لم يكن لتكون هناك جمهورية، ولا مجتمع، ولا عقود". إنها الأداة التي تُحول الفكر الذهني إلى خطاب قولي، وتُتيح للإنسان التعبير عن إرادته وتنظيم علاقاته. لكنها، في الآن ذاته، ليست بريئة؛ فقد تُستعمل في التضليل والتزييف، حيث يكون "جرح الكلمة أبلغ من جرح السنان. هنا تبرز الوظيفة الثنائية للكلمة: فهي من جهة علامة دلالية وذاكرية، ومن جهة أخرى وسيلة رمزية قد تنحرف عن الحقيقة. وهكذا يغدو استعمال المجاز أحيانًا تضليلاً متعمّدًا. ومن خلال هذه الرؤية، يعيد هوبز صياغة العلاقة بين الفكر واللغة، ليبيّن أن الكلمة هي أصل التفكير ذاته، تمامًا كما يشير إليه المفهوم الإغريقي لل"لوغوس" (كلمة/عقل. وينظر هوبز إلى الخطاب على أنه امتداد للرغبة الإنسانية في المعرفة. كل خطاب ينطوي على سعي لامتلاك حقيقة، لكنه لا يبلغ دائمًا مبتغاه. فالمعرفة في نهاية المطاف مشروطة ومحدودة، ولا يمكن التيقن من الماضي أو المستقبل إلا بقدر. وهكذا يفرق هوبز بين الخطاب الذهني القائم على الترجيح والرأي، والخطاب الإرادي المرتبط بالاختيار، والخطاب القضائي المتعلق بالحكم. لكنه يشير إلى أن الخطابات تخضع لقيود أخلاقية واجتماعية، إذ ليس كل ما يُفكر فيه يُقال، وليس كل من يحق له الكلام يُسمع. كما أن هناك فرقًا بين ما يُقال بين الأصدقاء (حيث يمكن التلاعب بالألفاظ والدلالات)، وبين ما يُقال أمام الجمهور (حيث تُمارس الرقابة الاجتماعية واللغوية). الخطاب، بهذا المعنى، ليس فقط كلامًا، بل هو أداة تُمارَس بها السلطة وتُضبط بها العلاقات بين الذوات. يفصل هوبز بين نوعين من الذكاء: الطبيعي والمكتسب. الذكاء الطبيعي يتجلى في القدرة على الانتقال السريع بين الأفكار، وفي تركيز الانتباه على هدف معين، ويُكتسب بالتجربة دون تعليم. أما الذكاء المكتسب، فيقوم على الاستعمال المنظم والدقيق للكلمات، ما يُنتج العلوم والمعرفة القائمة على المنطق والعقلنة. لكن هوبز لا يرى الخيال فضيلة في ذاته، بل يعتبر أن التمييز العقلي (الحكم) هو المعيار الحقيقي للذكاء. فالخيال المنفصل عن الهدف أو التمييز قد يتحول إلى وهم أو حتى إلى مرض عقلي. وهكذا يميز هوبز بين "صاحب الخيال" و"صاحب الحكم"، ويمنح الأفضلية للأخير. يربط هوبز بين الميولات النفسية ودرجة الذكاء لدى الأفراد، معتبرًا أن الاختلاف بين الناس في الفطنة أو الحكم لا يعود إلى نقص في الخيال، بل إلى تفاوت في الرغبة. وهذه الرغبة تتفرع إلى الغنى، الجاه، المعرفة، أو غيرها، لكنها كلها تعود إلى أصل واحد: إرادة القوة. من لا يرغب في القوة، لا يُظهر ذكاءً حقيقيًا ولا حسن حكم. أما من يفتقد إلى تقدير العواقب، فقد يقع في "الحمق". والغرور أو الكبرياء، في نظر هوبز، ليسا دليل قوة، بل مَيلٌ منحرف عن الحكم السليم. في ضوء هذا التحليل، يتضح أن توماس هوبز قدّم فهمًا عميقًا للإنسان من منظور لغوي-نفسي-سياسي. الكلمة ليست مجرد تعبير، بل أصل الاجتماع الإنساني، والخطاب ليس نقلًا للمعلومات، بل انعكاس لرغبة محكومة بقيود أخلاقية. أما الذكاء، فهو ليس خيالًا فقط، بل قدرة على الحكم، تؤطرها ميولات نابعة من إرادة التملك والسيطرة. هذه المقاربة تُبرِز الطابع الراديكالي لفلسفة هوبز، التي تنطلق من الإنسان كما هو: راغب، متكلم، ومؤسس للسلطة من خلال حاجته إلى الأمن والتنظيم. وهو ما يجعل من فلسفته حجر أساس في التفكير السياسي الحديث. وهكذا ومن خلال تأملي في نصوص هوبز، بدا لي أن السلطة لا تقوم فقط على امتلاك القوة المادية، بل على امتلاك معنى الكلمة. فالصراع، في جوهره، هو صراع على الدلالة؛ وصراع على أحقية الفهم والتأويل وبالتالي امتلاك الحقيقة أو ادعاء امتلاكها. فمن يُحكم قبضته على تأويل الكلمات يصبح هو من يملك زمام السلطة. هذا ما يمكن أن نلمسه بوضوح في مجالي الدين والقضاء: ففي التأويلات الدينية، كل فقيه يدّعي امتلاك المعنى الأصح للنص، ومن ثم يمتلك سلطة الحديث باسم المقدّس. فالفقيه أو من يدعي الفقه لا يكتفي بالتأويل، بل يريد تسييجه وامتلاكه لوحده بدعوى أن العلماء هم من لهم وحدهم حق الفهم وحق التأويل. وفي القضاء، لا تَصدر الأحكام بناءً على النصوص القانونية وحدها، بل على التأويل الذي يمنحه القاضي لهذه النصوص. ولا أحد له الحق في الخوض في حكم القضاء إلا القضاء وحده بدرجاته المختلفة من ابتدائي إلى استئنافي إلى حكم النقض. ومن تم لا يبقى للمتقاضي إلا التسليم بعد أن تم تأويل النص القانوني في مختلف درجات الحكم والقضاء. وهكذا، فإن الكلمة ليست مجرد أداة للتعبير، بل هي وسيط للهيمنة ووسيلة لإضفاء الشرعية على السلطة. فمن يتحكم في معنى اللغة، يتحكم في النظام برمته. هامش: Thomas Hobbes, Léviathan, édit Folio essais, France, 2007.