تساءلنا في الحلقة السابقة عن الحِيَل الذهنية التي بإمكان الإدراك التحليلي للأذن الموسيقية الغربية التي تحلل الميزان الخماسي 8/5 في الإيقاعات المغربية إلى تعاقب لميزاني 8/2 و8/3، أن تدرك بفضلها موازينَ إيقاعات مغربية "عرجاء" أخرى من قبيل 8/7 أو 8/9 (كما في إيقاع البُردة على الطريقة السوسية مثلا)؟ تلك الموازين المستعملة في بعض إيقاعات الطقطوقة الجبلية مثلا (وأشهرها الميزان التساعي 1-2-2-2-2)؛ ناهيك عن موازين "العيطة" و"الدقة" المراكشية والرودانية، مما تعجز الآذان الموسيقية حتى لدى بعض كبار الموسيقيين عن إدراك انتظام دوراتها، لكي يتم اقتدارُهم على تدوينها تدوينا موسيقيا صحيحا بالنوطة؟ (انظر كتاب أحمد عيدون 1994). ويبقى الميزان الوِتْري الخماسي، من حيث سعةُ انتشاره عبر مختلف ألوان الموسيقى المغربية، ذات الجذور الإفريقية (أنظر أعمال عبد العزيز بن عبد الجليل)، هو الميزان المحوري المميز إجمالا للإيقاعات المغربية الأصيلة، الذي يميزها بكثرة استعمالاته بأوجهه المختلفة عن الريبيرطوارات الإيقاعية للتقاليد الإيقاعية الأخرى ذات الصلة، بما فيها الإيقاعات الشرقية، من هندية وفارسية وعربية وتركية. فلقد لاحظتُ منذ مدة، وبينت ذلك في أعمال منشورة سابقة، مدى اختراقِ الميزان الخماسي لكثير من ألوان الموسيقى المغربية مما يبدو لأول وهلة متباعدا مثل "أحواش"، و"أجماك"، وبعض أغاني "الروايس" الأمازيغية، وموسيقى هوارة السوسية الناطقة بالعربية والمسماة بالضبط "الميزان"، وأغلب سرّابات الملحون، وكذلك "أحيدوس" بالأطلس المتوسط الذي يتراوح فيه الميزان الخماسي ما بين المنفرد 8/5 والمضاعف 8/10، وبيّنتُ أن االاختلافات الظاهرية بين أوجه ذلك الميزان إنما تعود إلى مدى استعمال طبعين نقريين فقط (تاك- دوم) أو ثلاثة (تاك-دوم-تس)،(2) واختلاف مواقع الأزمة القوية من نقرات الميزان، ومدى استعمال التواشي التفصيلية المرتجلة (appogiaturas)، ونوعية آلات النقر (دفوف، طبول، طامطام). لكن، وبمناسبة تكريم زميلي الأستاذ بلعيد العكاف من طرف المجلس الوطني للموسيقى في ديسمبر 2009، وعلى إثر سماعي لتكييف أمازيغي (adaptation) قُدِّم بالمناسبة من طرف فرقته لقطعة الجاز الرائعة الشهيرة (Take Five)، تساءلت مع نفسي قائلا: الميزان الخماسي هو الخيط السميك الأساسي ? ولا أقول الرفيع ? الذي يربط ما بين إيقاعات كل تلك الألوان الموسيقية المغربية التي تبدو لأول وهلة متباعدة لغويا (أمازيغية، عربية مغربية)، وإثنيا (عرب، أمازيغ)، وجهويا (سوس، أطلس، جبالة)، وسوسيولوجيا (حاضرة، بادية، زراعة، رعوية، حِرَفية)، وأداءً موسيقيا (مختلف آلات النقر وألون الرقص والأزياء)، ومن حيث السُلّم والطبوع اللحنية ما بين السلمين الخماسي pentatonique والسباعي heptatonique، وأن الفرق بين كل أوجه ذلك الميزان في تلك الألوان الموسيقية المغربية إنما هو على ما ذكر على التوّ. فلماذ إذن - قلت في نفسي- لا يبادر أحدُهم من المختصين المؤهلين يوماً إلى تأليف قطعة جامعة، قطعة "التعدد في إطار الوحدة"، أو "الوحدة في إطار التعدد"، تتعاقب فيها وتتراكب، في انسجام تام، مختلفُ أوجه ذلك الميزان الخماسي، باستعمالٍ متعاقبٍ أو متداخلٍ للآلات النقرية الخاصة بكل وجه، وبالانتقال عبر السلالم والطبوع اللحينة الخاصة بكل وجه، مع إدراجٍ في ثنايا كل ذلك لعناصرَ من فن "جاز" الجذور الإفريقية، وليكن بالضبط قطعة (Take Five) لما يحتويه اسمُها من لفظ "خمسة"، بما أن هذا الإدراج الأخير سيكون من باب "إرجاع الجاز إلى أصوله الإفريقية" على حد تعبير وزير الثقافة بنسالم حميش في كلمته بمناسبة ذلك التكريم؟ ثم إن موازين الإيقاعات المغربية هذه شديدة الصلة والارتباط بالبنيات العروضية للكلام المنظوم على الطريقة المغربية بوجهي لغتيه، الأمازيغية والعربية المغربية. ولقد تم بيان ذلك بتفصيل صوري ملموس بالنسبة لعَروض المنظوم الأمازيغي في الكتاب الذي أسفر عنه عملُنا السابق المشار إليه (F. Dell and M. Elmedlaoui 2008, Poetic Meter and Musical Form in Tashlhiyt Berber Songs. Köppe, Verlag)؛ كما تم بيانه بنفس القبيل من التفصيل والصياغة الصورية بالنسبة لعَروض الشعر الملحون في كتاب ينتظر لي بعنوان "الكلام الموزون في شعر الملحون". ---------------------- 2 المقابلات الأمازيغية لمصطلحات هذه الطبوع النقرية هي "لْهْمْز" = دوم؛ اكَلاّي = تاك؛ "نّْقّْر" = تس. وهذا الأخير هو الذي ترتجل به التواشي الفصيلية الدقيقة appogiaturas