«باب الحكمة» بتطوان تصدر «حكاية مشاء» للكاتب محمد لغويبي    ريال مدريد تخدم مصالح نصير مزراوي    السعوية.. أمطار غزيرة وسيول تتسبب في إغلاق المدارس بأنحاء المملكة    بركة يحصي مكاسب الاتفاق الاجتماعي ويقدم روايته حول "أزمة اللجنة التنفيذية"    آثار جانبية مميتة للقاح "أسترازينيكا".. فما هي أعراض الإصابة؟    عبد اللطيف حموشي يستقبل سفير جمهورية باكستان الإسلامية بالرباط    أشهر عازف كمان بالمغرب.. المايسترو أحمد هبيشة يغادر إلى دار البقاء    السفير محمد لخصاصي، القيادي الاتحادي وقيدوم المناضلين الاتحاديين .. أنوه بالمكتسبات ذات الطابع الاستراتيجي التي يسير حزبنا على هديها    لقجع "مطلوب" في مصر بسبب الشيبي    اختتام الوحدة الثالثة للدورة التكوينية للمدربين لنيل دبلوم "كاف برو"    الوداد يغلق باب الانخراط ببلوغه لرقم قياسي    ال"كاف" يقر بهزيمة اتحاد العاصمة الجزائري إيابا بثلاثية وتأهل نهضة بركان إلى النهائي لمواجهة الزمالك    نور الدين مفتاح يكتب: فن العيش بجوار الانتحاريين    إسطنبول.. وفد برلماني يؤكد موقف المغرب الراسخ من عدالة القضية الفلسطينية    صحف أمريكية تقاضي "مايكروسوفت" و"أوبن إيه آي" بتهمة انتهاك حقوق الملكية    ميارة يثني على مخرجات الاتفاق الاجتماعي ويرفض اتهام الحكومة ب"شراء النقابات "    مسيرات نقابية في مختلف المدن المغربية لإحياء يوم العمال العالمي    الداخلة .. قطب تجاري ولوجستي لا محيد عنه في القارة الإفريقية    الإعلامي حميد سعدني يحل ضيفا على كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك    توافد 3,3 مليون سائح برسم الفصل الأول من سنة 2024    صفعة جديدة لتونس قيس سعيّد.. عقوبات ثقيلة من الوكالة العالمية للمنشطات على تونس    حكيمي يواجه فريقه السابق بروسيا دورتموند في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    دراسات مرتقبة لربط تطوان وطنجة بخط سككي لتعزيز المواصلات بالشمال    إدارة السجن المحلي بالناظور تنفي مزاعم تسبب التعنيف والإهمال في وفاة سجينين    حريق بمحل لبيع المفروشات بسوق كاسبراطا بطنجة يثير هلع التجار    تفاصيل البحث في تصوير تلميذة عارية بوزان    طائرة مغربية بطنجة تتعرض لحادث تصادم مع سرب طيور        الحكومة تعلن عن مشروع لصناعة أول طائرة مغربية بالكامل    منيب: "لا مانع من إلغاء عيد الأضحى بسبب الأوضاع الاقتصادية للمواطنين    بنسعيد: اختيار طنجة لإقامة اليوم العالمي للجاز يجسد قدرة وجودة المغرب على تنظيم التظاهرات الدولية الكبرى    فوزي الصقلي : المغرب بلد منفتح على العالمية    ارتفاع الحصيلة في قطاع غزة إلى 34568 قتيلا منذ اندلاع الحرب    فاتح ماي فكازا. بركان حاضرة بتونيها عند موخاريق وفلسطين جامعاهم مع نقابة الاموي والريسوني والراضي ما غابوش وضربة اخنوش ما خلاتش العمال يخرجو    مجلس المنافسة يرصد احتمال وجود تواطؤ في تحديد أسعار السردين ويحقق في الموضوع    الذهب يهبط إلى أدنى مستوى في 4 أسابيع وسط ترقب قرار للمركزي الأمريكي    النفط يتراجع ليوم ثالث بضغط من تزايد آمال التوصل لتهدئة في الشرق الأوسط    إسطنبول تشهد توقيفات في "عيد العمال"    "داعش" تتبنى مهاجمة مسجد بأفغانستان    وفاة بول أوستر مؤلف "ثلاثية نيويورك" عن 77 عاما    "الاتحاد المغربي للشغل": مكاسب الاتفاق الاجتماعي مقبولة ولن نقبل "الثالوث الملعون"    هل تستطيع فئران التجارب التلاعب بنتائج الاختبارات العلمية؟    جمعية طبية تنبه إلى التهاب قناة الأذن .. الأسباب والحلول    تطورات جديدة في مشروع الربط الكهربائي بين المغرب وبريطانيا    في مواجهة الحتمية الجيوسياسية.. الاتحاد الأوروبي يختار التوسع    المنتخب المغربي يتوج بلقب البطولة العربية لكرة اليد للشباب    بعد 24 عاما على طرحها.. أغنية لعمرو دياب تفوز بجائزة "الأفضل" في القرن ال21    الشرطة تعتقل عشرات المحتجين المؤيدين لفلسطين في مداهمة لجامعة كولومبيا بنيويورك    رئيس جامعة عبد المالك السعدي يشارك بروما في فعاليات المنتدى الأكاديمي والعلمي    تساقطات مطرية في العديد من مناطق المملكة اليوم الأربعاء    حارة نجيب محفوظ .. معرض أبوظبي للكتاب يحتفي ب"عميد الرواية العربية"    بماذا اعترفت أسترازينيكا بشأن لقاحها المضاد لكورونا؟    الأمثال العامية بتطوان... (586)    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آسفي .. مدينة تمشي مشية السلحفاة وتكتفي «بشو َّايات» السردين

شتان بين الأمس واليوم، فآسفي التي زارها ذات زمن وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب وأُغرم بوصفها في كتاباته، وآسفي التي فتنت ملك البرتغال الدُون إمانويل الأول وشيد بها كاتدرائية بهندسة فريدة من نوعها على طول وعرض شمال إفريقيا أهداها لزوجته، والمدينة التي كان الراحل الحسن الثاني مغرما بفنون طبخها وحرص طوال حياته على الأكل من أطباق خزفها المذهب، هي نفسها التي غمرتها أغطية الرداءة والفوضى وتزاوجت مع التيه والنسيان حتى إشعار آخر.
يعرف عن أهالي مدينة آسفي أنهم قليلو السهر والسمر ليلا فطوال شهور الخريف والشتاء الطويل يجوز القول إن الحياة بشوارع وفضاءات المدينة تنتهي مع غروب الشمس، فالعائلات الآسفية احتفظت بتقليد الدخول باكرا إلى بيوتها من زمن الحماية الفرنسية التي كانت تقفل كل أبواب المدينة القديمة داخل السور البرتغالي قبل صلاة العشاء حتى تضمن وتضبط الأمن وتتحكم في هويات الداخل والخارج.
هدوء الخريف والشتاء بآسفي ينعكس أيضا على الحركة التجارية، فالمدينة الوحيدة بالمغرب، ربما، حيث يستحيل أن تجد مقهى مفتوحا في الساعة الثامنة مساء بوسط المدينة الجديدة خلال شهر دجنبر أو يناير، هي آسفي، أما تجار المدينة القديمة من شارع الرباط حتى باب الشعبة فأغلبهم يقفلون دكاكينهم مع السادسة مساء التي تصادف آذان المغرب.
سكون الحياة بآسفي في باقي شهور السنة أمر اعتاد عليه الشيوخ والكهول الذين ألفوا حياة هادئة وشبه متوقفة تلائم كثيرا مصاريفهم المنزلية، فالمدينة التي وصفها ابن الخطيب ب «قليلة الأحزان وصابرة على الاختزان»، هي نفسها التي لازالت تحتفظ بكلفة معيشية رخيصة مقارنة مع باقي المدن الكبرى للمملكة، وليس بغريب أن تصطف عشرات السيارات تحمل الترقيم المراكشي يومي السبت والأحد تحمل عائلات مراكشية تأتي لقضاء اليوم ولشراء مستلزماتها من الخضر والفواكه والسمك وحتى الأواني والتجهيزات المنزلية التي يدخلها تجار المهجر بسوق «العفاريت» الشهير بحي اهرايت البيض الذي تجد فيه تحف أوربا من ساعات حائطية وثريات الكريستال ودواليب القرن التاسع عشر مع متلاشيات بطاريات السيارات ولصاق الصين ومواد البناء و«البريكولاج».
العديد من أبناء المدينة يعترفون بآفة الملل والسكون التي تطبع آسفي خلال أغلب شهور السنة، وفي المقابل يحمدون الله على أن فتنة الاستهلاك التي أصابت المدن المغربية الكبرى وغلاء المعيشة واختناق الطرقات العمومية وبعد المسافة بين مقرات العمل والسكن، أشياء لا تعرف تصريفا في الحياة اليومية للآسفيين، لكن واقع المدينة الحالي لا يعطيها نفسا للتقدم والتطور وتحديث بنياتها ونظمها الاجتماعية، كما أن آفاق الدراسة العليا وسوق الشغل للأطر من الطلبة والشباب جد منعدمة بغياب بنية مقاولاتية كبرى كفيلة بامتصاص هذه الكفاءات التي تبدأ دراستها بآسفي وتنتهي بمكاتب كبريات الشركات بالدار البيضاء ومراكش والرباط.
كثيرا ما توحي المدينة للزائر والغريب أنها شاخت ولم تعد تساير سرعة الزمن الحالي، حتى إن العيش بها يلائم أكثر فئة المتقاعدين والشيوخ، فيما فئات عريضة من الشبان والكهول ترى في الحياة بآسفي كثيرا من معيقات التقدم في الحياة المهنية والعائلية بسبب مشية السلحفاة التي اعتادت أرجل المدينة عليها وبسبب غياب رؤية جديدة لدى مسؤوليها تعاكس تثاقل السرعة بها، في وقت أحسن ما تفعله مجالسها المنتخبة وسلطات الولاية هي تدبير السكون والحفاظ على الوضع القائم.
صيف «الشواية» والسردين
أن تزور هذا الصيف آسفي، فكأنك تزور مدينة خارجة للتو من جناح فاقدي الذاكرة، فالصيف يحول آسفي إلى شبيهة بتلك الفتاة في المثل الشعبي المغربي الذي يقول: «حمقاء وقالوا لها زغردي»، فأينما وليت نظرك ستجد شيئا غير سوي في مدينة يتهافت فيها زوارها على السردين وكأن البحر سيصبح في اليوم الموالي يابسة .
غلاء الصويرة والجديدة في السنين الأخيرة حول مدينة آسفي إلى مركز صيفي لفقراء وبسطاء المغاربة الذين يقاومون جيوبهم من أجل بضعة أيام في عطلة يفتخرون بها أمام أسرهم وأطفالهم، فسردين آسفي وفاكهتها ولحومها الوفيرة بأثمانها العادية وسومة كراء منازلها الرمزية، كلها عوامل ساهمت في احتضان المدينة زوارا يبحثون عن رأفة ورحمة في الأثمان .
فلسان الدين بن الخطيب، خريج جامعة القرويين وصديق ابن خلدون ووزير ابن الأحمر سلطان غرناطة، لما دخل آسفي في القرن الرابع عشر الميلادي ترك نفس الانطباع الذي سيتركه اليوم زوارها بقوله : « الدماثة والسذاجة والجلال قليلة الاحزان صابرة على الاختزان وافية المكيال والميزان رافعة للداء بلد كريم التربة خصيب الجناب «.
المغاربة يحبون آسفي فقط لميزانها الوافي، فالمدينة لم تكن عبر تاريخها تكرم أبناءها بقدر ما كانت تعطي الأسبقية للغريب والأجنبي، فكيلوغرام واحد من سمك السردين بآسفي يبقى أثقل بكثير من موازين الأسواق الممتازة والراقية وحتى الشعبية في باقي المدن المغربية، فقط لأن كرم المدينة والبحر لم ينته منذ أن زارها ابن الخطيب .
وحتى وإن كانت آسفي كريمة إلى حد تناسي نفسها، فإن مسؤوليها الذين عهد إليهم بتسيير شؤونها حولوها إلى مدينة فاقدة لذاكرتها وحاضرة مسجلة في عداد المفقودين، فلا أحد اليوم يعرف تاريخها ولا أحد يقيس حجم حضورها القوي في ذاكرة المغرب، حتى أن ابن الخطيب لما زارها قبل 600 سنة قال إن ليس وراء آسفي مدينة جامعة ولا محلة مسورة حتى السوس الأقصى إلى تخوم الحبشة من وراء الصحراء، أما حانون الرحالة الذي زارها قبل الميلاد المسيحي فقال إنه لما عبرها وجد بضواحيها أشجارا كثيفة بها فيلة وحيوانات وحشية ترعى.
بآسفي اليوم اختفت الحيوانات، وبقيت الوحشية في السلوك والفكر والتدبير، وإحدى علامات العار الذي أصاب المدينة هي فوضى الشارع الذي يختلط فيه الراجلون مع عجلات السيارات والدراجات وسكاكين بائعي السمك وموازين عربات « الدلاح» و«البطيخ»، وحتى أسماء الشوارع والأزقة بدورها نالت نصيبها من حقن فقدان الذاكرة التي يجتهد البعض في حقنها بحمرة قل نظيرها في الوجه .
هناك اليوم بآسفي أسماء أزقة بلا معنى، كتلك الزنقة المتواجدة بحي الجريفات المسماة « زنقة عبد الواحد»، فالمدينة التي عهدت بتسيير شؤونها إلى نكرات لا يمكن إلا أن تسمي شوارعها على أسماء نكرة، أما زمن الأعلام فقد ولى، على الأقل، بآسفي .
الشاطئ والمرسى
بآسفي اليوم مأساة اسمها البحر!، فالمدينة التي وجدت نفسها منذ القدم على صخور الساحل الصلبة أصبحت معلقة من رجليها بخيط رقيق من الصوف، وبحركة خفيفة قد تتهاوى على أول الموج من أعلى الصخر الساحلي .
هنا في هذه المدينة المنزوية على نفسها، الناس يدخلون بيوتهم مع أول بزوغ للخيط الأسود، لازال الآسفيون يحتفظون بفطرة موروثة، عدم ثقتهم فيما قد يحمله آخر النهار من شؤم أو مصائب ومفاجآت، فالمدينة التي نامت ذات يوم وفاقت على احتراق مساجدها واستباحة نسائها وديارها مع مجيء عسكر الملك البرتغالي إمانويل الأول، لم تنس بعد في جينات أبنائها ما قد يحمله الغريب من أضرار وفساد .
لقد ظلت أبواب آسفي في بحرها، تغلقها الأمواج وتفتحها كما شاءت الطبيعة، وبالبحر وضعت آسفي منذ أن وجدت بطنها وبطن فقرائها وأغنيائها، وتحصنت منذ الأزل من مآسي فترات « المجاعة « التي كانت تأتي على أراضي المغرب الفلاحي .
«رُيَّاس» آسفي كانوا فيما مضى، وحتى قبل سنين، من علية القوم، فدخلهم المادي كان يرفعهم إلى مراتب اجتماعية معتبرة، أما كبار صناع المراكب من «حرايفية» النجارة، فكانوا مهندسين بفطرة الأجداد، حتى إن صغار متعلميهم كانوا بفضل عملهم يوفرون منزلا في ملكيتهم من أول سنة من الاشتغال، من غير داع للمرور عبر قروض السكن التي يلجأ إليها اليوم العامل البسيط والمهندس الكبير.
رجال البحر اليوم بآسفي أصبحوا كصباغي «الموقف»، يتأبطون قففهم ويشعلون سجائرهم الرديئة وينتظرون تحت حر الشمس إشارة من أرباب المراكب الذين وحدهم اغتنوا في السنين الأخيرة بالرغم من أن السمك لا وجود له، حتى أن الناس هنا يتساءلون عن أي صيد آخر ثمين يدخلونه في شباكهم، ويضمن لهم شراء المراكب والسيارات والبقع الأرضية حتى لو دخلت بواخرهم فارغة إلى الميناء؟!
هناك بمدينة آسفي اليوم معيار طبيعي لقياس درجة الصفر التي وصل إليها المخزون السمكي بعد ارتفاع حرارة البحر، وهجرة السردين إلى المياه الباردة، وتكاثر معدلات التلوث الكيماوي، يكفي أن تتقابل مع مطارح النفايات والأزبال لترى أن «عوَّا» أصبحت تزاحم القطط والكلاب وتتصارع معها بمنقارها لتسكت جوعها بسبب قلة السمك .
فطائر النورس الذي يسميه أهل البحر ب«عوَّا» اعتاد منذ أجياله الأولى التي اختارت العيش بميناء آسفي أن يقتات من مؤخرة البواخر و«الفلايك» وهي في طريقها إلى الميناء، حتى إذا ما هي رست تكون أسراب «عوَّا» قد ملأت بطنها وبدأت في التحليق عبر أجواء المرسى حتى أعلى صوامع ومنارات المدينة .
البحر والميناء بآسفي كانا أول مشغل لليد العاملة وأول ضمانة اجتماعية ضد بطالة الرجال والشباب، واليوم انتهى زمن «الرُيَّاس» الذين كان ينحني لمرورهم بسطاء الناس، فقط لأن البحر بآسفي فقد هيبته، ولم يعد يطعم حتى البطون الصغيرة لطيور النوارس .
موت الزمن الجميل
على مر الزمن القصير انتقلت آسفي من مدينة نظيفة وهادئة تشتم في أزقتها رائحة الزعفران المنفلت من مطابخ الآسفيات مثلما هي روائح «السخينة» الأكلة الدسمة واللذيذة التي كان تسهر على تحضيرها وإرسالها إلى الفرن الخشبي المسلمات واليهوديات اللائي كن يسكن في منازل وروض المدينة القديمة من غير حاجة إلى ملاح .
آسفي كانت دائما مدينة فاتحة ذراعيها للأجنبي، فواجهتها البحرية على المحيط جعلتها منفذ استقبال وإرسال على العالم منذ أيام الفينيقيين الأولى حتى القرن السادس عشر مع البرتغاليين الذين كانوا يبادلون 10 من عبيد السودان المحملين فوق البواخر على أرصفت مرساها بحصان واحد من أجود خيول سهول عبدة الشاسعة .
حتى الملك إمانويل الأول، إمبراطور البرتغال، أغرم بآسفي وبهوائها النقي وبطبخ بيوتها وجمال نسائها وبخصوبة تربتها وغنى خيراتها الطبيعية، فكان أن بعث إليها أجود رساميه ونحاتيه لتشييد كاتدرائية القديسة «سانت كاترين» التي صنفت كأحد أجمل المباني العمرانية خلال العهد الإمانويلي على كافة تراب القارة الإفريقية .
بتراب آسفي تتواجد إحدى أقدم المنارات والزوايا الإسلامية وأكبر عدد من أضرحة الصالحات في المغرب كلالة زينب الكوابلية ولالة شتية ولالة أم علي ولالة صفية ولالة هنية الحمرية ولالة الهديلية، فمن على الساحل الصخري لجرف أموني بوسط المدينة أطلق الشيخ سيدي محمد بن سليمان الجزولي مؤلف «دلائل الخيرات» الإشعاع لطريقته الصوفية التي جلبها معه من رحلته المشرقية والحجازية، وغير بعيد عنه أطلق أبو محمد صالح الماجري أيام العهد الموحدي ركب الحجاج المغاربة من آسفي إلى الإسكندرية حتى مكة المكرمة والمدينة .
و خلال بداية عهد التسعينيات من القرن الماضي شهدت المدينة موجة كبرى من الهجرة القروية حيث ثم إغراء فقراء وبؤساء الفلاحين بعربات مجرورة في محاولة لامتصاص مواسم الجفاف، فانطلقت في المدينة رحلة التيه والفوضى وانتشر البناء العشوائي وسادت الجريمة بإقفال وإفلاس أزيد من 80 وحدة لتصبير السمك.
خلال عهد أربعة عمال وولاة و4 مجالس منتخبة، لم يستطع أحد منهم وضع حد للفوضى العمومية التي بدأت تُعرف بها مدينة آسفي في مايخص صناعة الفخار والسمك والتلوث، فالكل هنا يفترش الأرض حاملين شعار السوفيات المُعدل «الأرض لمن يفترشها»، والمارة يمشون بجوار السيارات والدراجات والشاحنات فقط لأن الرصيف المخصص لهم مملوء بعربات نقانق الحمير وحلزون المقابر ومتلاشيات أوربا.
الشارع الرئيسي بآسفي أصبح شتيمة في وجه المدينة وسكانها، فحتى «مولينيكس» التي صنعتها فرنسا بفخر التكنولوجيا الدقيقة منذ سنة 1937 أصبحت تباع بجوار «حرتوكة» السمكة الرديئة في المذاق والمنظر ورخيصة الثمن، فآسفي اليوم لا تشرف ناسها ولا تاريخها، فقط لأن هناك من يهوى بالميراث المداخيل السوداء لفرجة المأساة.
مدينة ليلها خال من الأحلام
هل انتهت صلاحية مدينة آسفي؟ لعله بكل تأكيد السؤال الذي ينتصب فارضا وجوده بعد الزمن الجميل الذي قطعته المدينة خلال القرن العشرين، من مدينة تجارية ومصدرة بامتياز إلى مدينة صناعية كبرى حتى مدينة مع وقف التنفيذ لا تعرف أي رِجْل تقدم أو تأخر في تتالي الأيام.
آسفي كانت ضحية عقلية براغماتية قاتلة كانت تنظر إلى حاضر المدينة الصناعي بدون رؤية مستقبلية، وبدون مخطط تنموي حقيقي يربط الثقافة بالسياحة وبالحاجيات الجديدة للمجتمع، فجميع البؤر السوداء للمدينة يتم حلها بخلق بؤر جديدة لاسكات وإخفاء الأولى، حتى فاض كأس التحمل ولفظت المدينة دفعة واحدة رداءتها إلى الشارع.
آسفي اليوم مدينة موغلة في العزلة والسكون، بالليل يمكنك أن تسمع خطوات النمل على أطراف شوارعها بسبب خلاء وصمت الأمكنة، الآسفيون أناس لا يبرحون منازلهم سوى لقضاء أغراضهم الضرورية، بعدها لكل واحد منهم حياته وعالمه داخل جدران بيته.
المغاربة لا يحملون عن آسفي سوى نظرة «الشواية» والسردين والخزف وغناء العيطة بقبائل عبدة، أما سكان آسفي من أهل البيوت العريقة فيعتبرون تصنيف المغاربة لهم تحقيرا وتقزيما لصورة مدينة عريقة بعلومها ومآثرها وفنها الأندلسي والمديحي وبمطبخها الذي أغرم به الراحل الحسن الثاني.
في آسفي اليوم تسير الحياة بجانب الزيف، والقانون لا يُحمى سوى بأدعية الناس، فالعزلة التي تعيشها المدينة تجعلها عرضة لسيادة أشكال ما قبل التمدين الحضري، فكان سهلا أن تنتقل المدينة بنظامها وضوابطها وشوارعها ومؤسساتها إلى ساحة عامرة بعربات النقانق والحلزون، وكان طبيعيا أن ينتقل الفكر البشري إلى مستوى آخر من الوعي الذي لا يقبل بأشكال التنظيم ولا يؤمن بسيادة القانون، فقط يكرس الرداءة ويضفي الشرعية على حياة الفوضى.
الكثير هنا يشبهون المدينة بأنها معلقة من رجليها بخيط رقيق من الصوف قد ينقطع في كل ململة، ومع ذلك هناك من لازال يعض بأنيابه على سروالها ويتسلق إلى جيوبها وينهب من خيراتها ومع ذلك يقولون هل من مزيد !!
رغم ذلك هناك عدد قليل ممن يعتقدون أن للمدينة سقفا قصيرا سرعان ما يدمي الرؤوس، في إشارة إلى عاقبة من مروا من هنا وخلدوا أسماءهم بمداد من العار على جبين آسفي، واليوم لا زالت المدينة تؤدي ما بذمتها للذاكرة والناس، فالراحل الحسن الثاني كان لا يتفاءل بالمجيء إليها ولا يثق بأناسها الذين يوصفون بكثرة «الوجوه» وبمزاجهم الخاص الذي يجعل كلام الليل يمحوه نفس الليل، شعارا في التعامل مع بعضهم.
كثيرا ما يوصف أهالي آسفي من أصحاب المدينة بالعنصرية تجاه العنصر البدوي، أما انطوائية الآسفي وخوفه من الخروج ليلا فهما من نتائج تلك النظرة التي تجعل من الغريب عنصرا غير مرغوب في التعامل والعيش معه ومخالطته، خاصة وأن المدينة كانت في حالات كثيرة ضحية غربائها ممن عاثوا فيها فسادا دون حتى أدنى مساءلة ولا محاسبة، فقذفوا خيراتها من النوافذ وملؤوا الجيوب والأفواه .
في آسفي اليوم باستطاعة الفاشل والأمي أن يصبح كاتبا أو أستاذا جامعيا أو صحافيا أو حتى برلمانيا ومقاولا بين ليلة وضحاها، فالمدينة مليئة بزيف الألقاب والصفات والمهام وهناك من يسقي بأمواله وأموال غيره حقول الزيف ... فقط لإعلاء المغالطة ولرعاية التضليل... وفقط لأن هناك من اعتاد النوم مع الالتباس على سرير واحد حتى يطول نوم المدينة وحتى يكون ليلها خاليا من الأحلام وحتى يختلي بها أنى شاء... فقط لأنها آسفي، المدينة التي تناست نفسها في سروال غيرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.