كان عبد السلام ذكيا مع موهبة واضحة في الحساب، وأعتقد أن أستاذ الرياضيات كان يفضله علينا جميعا، لأنه يحل أصعب التمارين في وقت وجيز، خلال الجزء الأخير من حصة «الماط» بعد الفراغ من الدروس النظرية. بسبب عبقريته المبكرة، كان يحظى دائما بشرف النهوض إلى السبورة بطلب من السي العبادي، كي يحل التمرين الأسود بالطبشور الأبيض، أمام أطفال تلمع عيونهم من الإعجاب والغيرة، خصوصا بالنسبة إلى من يريدون متابعة الدراسة في شعبة «العلوم الرياضية». نباهة عبد السلام المبكرة كان يقابلها اضطراب واضح في السلوك. يمكن أن يغيب عن الدراسة لأكثر من أسبوعين دون أن نعرف السبب، قبل أن يظهر مع امرأة عجوز، هي جدته على الأرجح، تأتي معه إلى الإعدادية عقب كل انقطاع. عبد السلام كان يدخن «كازا سبّور»، وذلك في حد ذاته لم يكن مدهشا خلال تلك السنوات السوريالية، لأن كثيرا من الأطفال كانوا يجربون نفث الدخان أمام الإعدادية، لعلهم يكبرون قبل الأوان. المدهش في الأمر أن جدة عبد السلام هي من كان يشتري له السجائر بالتقسيط عند صاحب العربة الرابضة أمام باب الإعدادية، بخلاف معظم التلاميذ الذين كانوا يدخنون وهم مرعوبون، مخافة أن تكتشف عائلاتهم ذلك! عبد السلام كان غريب الأطوار. فضلا عن تكلمه العربية بلكنة أمازيغية مسيطرة، مما يجعله عرضة للسخرية، كان الوحيد في الفصل الذي لا يصوم أي يوم في رمضان، ويأكل «سلو» في الخبز وسط قهقهاتنا… لكن علاماته المحترمة في الرياضيات تجعله محط إعجاب وغيرة. مرةً، غاب طويلا، أكثر من ثلاثة أشهر، وحين عاد إلى الفصل كنا قد تجاوزناه بعدة دروس ومعادلات. في غيابه مررنا من المجموعة Nإلى المجموعة Z. كالعادة، أوقفه المعلم أمام السبورة كي يحل أحد التمارين، أعتقد أنه وجد في النهاية 5 ناقص 9 فأجاب «لا يمكن»، ما جعلنا ننفجر ضحكا لأن «لا يمكن» كان جوابا رائجا أيام الابتدائي، ويدل على أنك مازالت في المجموعة N… كانت تلك الحادثة إيذانا بنهاية مشواره الدراسي! حاول عبد السلام جديا تدارك تأخره، لكنه لم يستطع، ليس لنقص في الذكاء بل لأنه اضطر مجددا إلى الغياب أسابيع طويلة. في «الأولى» إعدادي كان الأول في الترتيب وفي «الثالثة» الأخير. كان أستاذ الرياضيات متعاطفا معه إلى أقصى حد، دافع عنه في مجلس الأساتذة ولدى الإدارة كي لا يتم فصله بسبب الغياب، لأنه كان أستاذا محترما بحس أخلاقي راق، وكان يرى المادة الرمادية تضيع أمام عينيه، ويقول لعبد السلام مازال بإمكانك أن تتدارك التأخر، يكفي أن تبذل جهدا إضافيا بعد المدرسة، وأعطاه بعض الكتب كي يدرسها في البيت… لكن تدخلات السي العبادي لم تنفع في النهاية واختفى عبد السلام نهائيا من «الرادارات»، لم نعد نراه بعد أن غادر المدرسة نهائيا. مرت السنوات، كما في الأفلام السينمائية، والتقيت به ذات صيف بالصدفة، أثناء زيارة لمسقط رأسي. كان معي صديق آخر من ذلك الزمن، يعرفه جيدا. عبد السلام كان يلبس سروالا عسكريا و»برودكان»، لم تتغير ملامحه كثيرا، عرفته وعرفني. ضحكنا ونحن نتذكر بعض الذكريات. أخبرني بأنه صار عسكريا في الصحراء، وهو الآن في عطلة أو ما يعرف في المعجم العسكري ب»البرمسيون». بعد أخذ ورد في الحديث، فهمنا منه أنه جاء لكي يطلق زوجته، لماذا؟ سألناه دفعة واحدة، رد: «لأنها تلد لي أبناء ويموتون». حين طلبنا منه شرحا أكثر، أضاف أن الأول مات وعمره ثلاث سنوات، والبنت ماتت وعمرها سنة ونصف. سألناه: وما ذنب الزوجة؟ رد: بسببها يموتون؟ كيف؟ نفث الدخان وسكت، ألححت في السؤال: كيف مات الطفلان؟ ماذا قال الطبيب؟ رد: «غير هاكاك، ماتو موتة الله».