يشهد المغرب منذ نهاية أكتوبر 2025 تحولا مفصليا في مسار قضيته الوطنية الأولى، بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي يوصف بأنه القرار الأكثر وضوحا منذ بداية النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية. فقد نقل هذا القرار الملف من منطق "الإدارة الأممية للنزاع" إلى منطق "الهندسة السياسية للحل"، واضعا الأممالمتحدة أمام مرحلة جديدة عنوانها التحول من إدارة النزاع إلى بناء الحل. وساهم في حدوث ذلك، التوافق غير المسبوق بين واشنطن وباريس ومدريد، مما أوجد لحظة سياسية ناضجة تتيح للمغرب الانتقال من الخطاب إلى التطبيق. فبعد 18عاما على تقديم مبادرته للحكم الذاتي سنة 2007، يجد المغرب نفسه اليوم أمام ضرورة تطوير مقترحه إلى خطة متكاملة للحكم الذاتي الحقيقي، أي إلى مشروع مؤسساتي ومالي وتنموي قابل للتنفيذ، يترجم الرؤية إلى واقع ملموس.
فالعالم، وفي مقدمته حلفاء الرباط داخل مجلس الأمن، لم يعد ينتظر تفاصيل الفكرة، بل خطة عملية تجيب عن الأسئلة الجوهرية: كيف سيمارس سكان الصحراء سلطاتهم الجهوية؟ وكيف ستوزع الثروات والموارد؟ وماهي الضمانات الدستورية والقانونية والسياسية التي ستمنع أي تأويل أو تراجع مستقبلي عن مضامين الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية؟
ووضع القرار الأممي 2797 نقطة تحول حاسمة في مسار قضية الصحراء المغربية، فقد أنهى مرحلة طويلة من الغموض، ونقل النقاش من البحث عن حل ممكن إلى تنفيذ حل استقرت مرجعيته. ومع ذلك، فهو لا يكرس الحل النهائي بعد، بل يؤشر إلى "بداية نهاية النزاع لا نهايته"، ويضع المغرب أمام معركة تفاوضية قانونية دقيقة تتطلب حنكة دبلوماسية وهندسة مؤسساتية رفيعة، على حد تعبير أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ابن طفيل، جمال مشروخ.
أما من الناحية العملية، فقد أسقط القرار كثيرا من السيناريوهات التي لطالما استعملت كورقة ضغط ضد الرباط، وعلى رأسها خيار الاستفتاء الذي تجاوزه الواقع السياسي والميداني. ولم يقع هذا التحول صدفة، بل كان ثمرة جهد دبلوماسي منسق قادته الرباط بدعم حاسم من الولاياتالمتحدة وفرنسا وإسبانيا، مع انخراط أوروبي أوسع، بما يعكس توازنا دوليا جديدا لصالح المقاربة المغربية.
لقد نجح ستيفان دي ميستورا في توصيف المرحلة بتشبيه الأممالمتحدة بقارب يعرف وجهته، لكنه يحتاج إلى رياح الإرادة السياسية ليبلغ شاطئ الحل. وبهذا المعنى، يضع القرار المغرب أمام اختبار الانتقال من الدبلوماسية إلى الفعل، من الدفاع عن المبادرة إلى هندستها القانونية والمؤسساتية، ليتحول السؤال من: هل الحكم الذاتي هو الحل، إلى كيف سينفذ (الحكم الذاتي) في إطار السيادة المغربية؟
السيادة والسلطة
أعلن الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس مباشرة بعد تصويت مجلس الأمن على القرار 2797 : "لقد حان وقت المغرب الموحد، من طنجة إلى لكويرة، الذي لن يتطاول أحد على حقوقه، وعلى حدوده التاريخية"، وأضاف الملك معلنا انتقال المغرب من منطق المبادرة إلى منطق التفعيل، مؤكدا عزم الرباط تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي لتقدم إلى الأممالمتحدة كمرجعية وحيدة للتفاوض، وكحل واقعي ودائم قابل للتنفيذ في إطار السيادة المغربية الكاملة.
هذا التوجيه الملكي، الذي يضع المملكة أمام ورش وطني غير مسبوق، يجسد عمليا الفلسفة التي شرحها الدبلوماسي محمد لوليشكي في قراءته القانونية للمبادرة المغربية، حين ميز بين مفهومي
السيادة والسلطة في خطابه أكد الملك أن "السيادة المغربية على كل أقاليمه غير قابلة للتجزئة أو المساومة"، لكنه في المقابل شدد على أهمية الطي النهائي لهذا النزاع المفتعل، في إطار حل توافقي، على أساس مبادرة الحكم الذاتي. وبمعنى أوضح، أكد هذا الخطاب أن الرباط لا تتعامل مع التحولات الأممية ك "انتصار سياسي"، بل كمسؤولية سيادية تستوجب تجسيد الحكم الذاتي في صيغته المغربية الواقعية والقابلة للتطبيق.
يقوم جوهر الفكرة الملكية على أن المغرب القوي هو الذي "يرسخ وحدته من خلال توسيع المشاركة السياسية والتنمية المندمجة"، أي عبر تمكين سكان الأقاليم الجنوبية من إدارة شؤونهم بأنفسهم في إطار دولة واحدة ورمز سيادي واحد يجسد استمرارية الدولة ووحدتها. وبذلك، يتلاقى الخطاب الملكي مع التحليل الدستوري للوليشكي الذي يرى أن مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب في أبريل 2007 هو امتداد طبيعي لمسار من الدمقرطة السياسية واللامركزية الترابية الذي بدأ منذ السنوات الأولى للاستقلال، قبل أن يتم تعزيزه تدريجيا من خلال إدخال نظام الجهوية المتقدمة.
وبذلك، فإن الحكم الذاتي الحقيقي الذي يدعو إليه الخطاب الملكي لا يختزل في كونه مقترحا تفاوضيا أو خطوة دبلوماسية، بل هو مشروع وطني متكامل يترجم من جهة مفهوم السيادة غير القابلة للتجزئة، ومن جهة أخرى حق السكان في تدبير شؤونهم بأنفسهم داخل إطار الدولة الواحدة.
إنه تجسيد عملي لفلسفة الدولة المغربية الحديثة كما عبر عنها الملك محمد السادس وفسرها لوليشكي قانونيا.
الحكم الذاتي الحقيقي
أقر دستور 2011 مبدأ الجهوية المتقدمة كإحدى الدعائم الكبرى لبناء الدولة المغربية الحديثة، فخصص لها الفصول من 135 إلى 146، مؤكدا أن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي يقوم على الجهوية المتقدمة. بهذا التحول، انتقل المغرب من منطق الدولة المركزية التي تحتكر القرار إلى "دولة الجهات" التي تشرك المواطنين في صناعة القرار العمومي عبر مؤسسات منتخبة ديمقراطيا.
غير أن هذا التحول، رغم أهميته، بقي محدودا في نطاق اللامركزية الإدارية والتنموية، أي في نقل بعض الصلاحيات من المركز إلى الجهات دون أن يطال البنية السياسية للدولة أو يعيد توزيع السلطة بمفهومها السيادي.
أما اليوم، ومع صدور القرار الأممي رقم 2797، فقد أصبح مطلوبا من المغرب أن يخطو خطوة إضافية نحو الحكم الذاتي الحقيقي، أي نحو اللامركزية السيادية التي تمارس داخل إطار الدولة الواحدة، وتمنح الجهة المنتخبة سلطة تقريرية وتنفيذية أوسع، في احترام تام لوحدة السيادة الوطنية. فإذا كانت الجهوية تعني نقل القرار الإداري والتنموي إلى المؤسسات الجهوية المنتخبة، فإن الحكم الذاتي يمنح هذه المؤسسات سلطة سياسية وتنفيذية أوسع في إطار السيادة الوطنية الجامعة. وذلك بغاية تعميق روح المشاركة التي أرسى أسُسها دستور 2011، وتحويلها إلى نموذج سياسي يرسخ شرعية الدولة من خلال ثقة مواطنيها.
إن القرار الأممي 2797 يضع اليوم المغرب أمام لحظة اختبار دولية ووطنية في آن واحد. فالمجتمع الدولي لم يعد يكتفي بالتصورات أو الخطابات، بل ينتظر تجسيدا مؤسساتيا قابلا للقياس عبر الانتخابات، القوانين، الميزانيات، وآليات المساءلة.