تتسم بعض الافلام السينمائية المصرية بالتطرف الفني -ان صح التعبير- والعشوائية في معالجة الرؤى والأفكار، وذلك بتكديس الدراما السلبية بين ثنايا مَشاهدها ومحاولة استجداء المُتلقي بشتى السبل تحت اسماء عدة لا تصلح إلا للتداول الإعلامي كالواقعية والالتزام ونقل الحقائق وغيرها من المصطلحات الطنانة، أفلام لا تستطيع للأسف الشديد قراءة الواقع بتروٍ أو من منظور فني إبداعي بحث، يُمَكّن المٌتلقي من التوغل داخل الحدث وتفكيك طلاسيمه بما يناسب ذكاءه دون التأثير عليه أواستجدائه، افلام لا يهمها في الحقيقة نقل الصورة السينمائية الجادة بقدرما تهمها الإثارة والربح، حتى انك تبحث بين مشاهدها عن لقطة واحدة تبعث فيك أملا مشرقا فيخيب ظنك، وتنكفئ على نفسك خيبة واحباطا، نتيجة احتكارها لكل ماهو سيء وأسوأ ، وتجنبها لكل نقطة ضوء يمكن للمُتلقي ولوجها، حتى يسبر بنفسه كنه الرسالة المراد ايصالها، وأمام احباطه هذا قد يتجه اتجاها آخر مغايرا ويبحث لنفسه عن فن بديل يحترم فكره وذكاءه، فالفيلم الذي لايتفاعل معه المُشاهد بالمنطق ولايثير لديه قلق السؤال اثناء العرض وبعده لايعتبر فيلما جديرا بالمشاهدة. كثيرة هي الأفلام التي أساءت لسمعة مصر ووضعتها فوق صفيح ساخن، وقذفت بها بعيدا دون مراعاتها للميثاق الفني والأخلاقي اللازمين للمساهمة في تسويق صورتها الحقيقية دون المساس باسمها او المجازفة بسمعتها ومكانتها، مع الإلتزام بالوطنية والانتماء دون مزايدة أو مغالاة.. قليلة هي الأفلام التي طرحت واستجلبت صورة مصر التاريخية ومكانتها الحضارية وسوقتها خارجا.. ونادرة هي الأفلام التي قامت على رؤية ثقافية وسياحية إبداعية بمعايير جمالية عالمية قادرة على ابهار الآخر وجلبه مساهمة منها في التنمية القومية وخدمة منها للمصلحة الوطنية. لا أريد من خلال هذه المقدمة تشريح السينما المصرية بقدرما أريد تنبيه القارئ وتذكيره بالواقع السينمائي الذي تعاني منه مصر اليوم، وخصوصا مع هذه الموجة الجديدة من أفلام العشوائيات والبلطجة... التي يعرفها المشهد السينمائي الحالي، كما أنني لا أعمم أيضا، هي محاولة مني فقط لإبراز الإغتراب الذي قد يحسه المُتلقي مصريا كان أو عربيا، واجتهادا مني لوضع القارئ امام بوصلة قد يخيب اتجاهها أو يصيب. دافعي الأساسي لكتابة هذه الورقة استخلاص العبر من الآخر، أو بصراحة أكثر غيرة مني على فن مصر ومكانته بيننا نحن العرب باعتباره مدرستنا الأولى منه تعلمنا وفيه ترعرعنا، بل هو ترمومتر الابداع العربي ومقياسه، شئنا أم أبينا. لايمكننا السكوت مطلقا ونحن نكتشف محاولات أجنبية - رغم قلتها - تتناول مصر الحضارة بأسلوب سينمائي راق يكشف عن وجه مصر الآخر مصر أم الدنيا الذي نتوق إليه نحن العرب البعيدين، ونرغب في لمسه ولو افتراضيا بعيدا عن الفوضى والارتجال المدمر، قد لا أتكلم هنا عن مصر وحدها فهناك محاولات أخرى جديرة بالاهتمام مست بلدانا عربية أخرى، لكنني في هذه الورقة آثرت تناول مصر بمناسبة مشاهدتي، أو بمعنى أدق اكتشافي المتأخر للفيلم الكندي توقيت القاهرة (Cairo Time) 2009 مع انني احبذ أكثر ترجمته ب(أوقات في القاهرة) أو (أيام في القاهرة) أو أي كلمة أخرى تؤدي المعنى الحقيقي بعيدا عن الترجمة الحرفية، وهو فيلم بسيط في طرحه لكنه رائع في لغته الجمالية والتصويرية. فيلم توقيت القاهرة، فيلم أسس لرؤية منسجمة مع ابعاد قصته ومحتوى مَشاهده، علمنا كيفية الانصات للغة الكاميرا وحركيتها المتناسقة والمرنة وهي تَجُول بين ربوع القاهرة، تارة بين نيلها وصحرائها وتارة أخرى بين مقاهيها وأهرامها معتمدة على اللقطات البعيدة والقريبة في آن لكن بتناسق مدهش خدم الصورة وزادها جمالا، الأماكن التي اعْتُمِدت في الفيلم ربما يعرفها الكل القاطن في القاهرة والبعيد عنها، لكن رؤية مخرجة الفيلم (ربى ندى) في استخدام هذه الأماكن والاعتماد المطلق عليها الى درجة جعلها شخصية رئيسية، اضفى عليها مسحة من البهاء والروعة فاضحت ذات قيمة راقية تجاوزت القصة الدرامية التي تمّ تناولها في الفيلم، فاصبحت القصة تخدم المكان وليس العكس، وكأنها فصِّلت على مقاسه وهكذا استغل الفيلم كل لقطة من لقطاته لابراز جمال القاهرة ومفاتنها، وأرغمنا على التجول خارجا عبر مشاهد خارجية احتكرتها الكاميرا اللهم ماكان من مشاهد قليلة داخلية صورت في الفندق للضرورة وقد لعبت بدورها دورا مهما في إظهار روعة وسحر المكان من الأعلى (الشرفة) فكانت لقطات بانورامية ليلية/نهارية متقنة توحي للمُشاهد بقاهرة أخرى مغايرة تماما للصورة النمطية التي تعود عليها في الأفلام المصرية أو في أغلبيتها -حتى لا أظلم أحدا- مشاهد اشتغلت عليها المخرجة بذكاء فاعطت للفيلم نكهة خاصة غطت على بعض السلبيات والظواهر الاجتماعية والأخلاقية التي تعرفها مصر وخصوصا القاهرة، ظواهر موجودة فعلا على أرض الواقع ومعترف بها من الجميع، كظاهرة أطفال الشوارع، والعمل غير مشروع للقاصرين وخصوصا الفتيات، و التحرش الجنسي في الأماكن العمومية... هذه الأخيرة التي اصبحت واقعا يوميا ملموسا، وأضحى يؤرق الجهات المسؤولة والرأي العام على حد سواء، توقف عنده الفيلم بالاشارة فقط في مشهد مثير يظهر بطلة الفيلم وهي امرأة اجنبية في متوسط العمر تتجول وسط القاهرة عندما فاجأها عدد من الشبان المصريين وحاولوا التعرض لها، تعاملت البطلة مع هذا الموقف بحكمة عندما انسحبت بهدوء ودون انفعال داخل متجر محتمية بصاحبه الذي اتجه نحو الشبان وطردهم... المشهد احتوى على شقين اثنين متعارضين شق سلبي (الشبان المتحرشين) و شق ايجابي مضاد له أو مصحح له (صاحب الدكان أو المتجر) رؤية لابأس بها في تقييم هذه الظاهرة التي وصل صداها خارج مصر، وتبليغ الجمهور من خلال هذا المشهد الى ان هذه العلة جزئية ومتوقفة عند فئة بعينها ولا تهم المجتمع المصري ككل. مشاهد أخرى أثارتني وأنا ''أتصفح'' هذا الفيلم، كمشهد الشرطي وهو يساعد امرأة لعبور الشارع، الطريقة أو الأسلوب الذي صورت به هذه اللقطة منحني كمُشاهد الأمان، وانصف هذه الفئة التي أساءت اليها العديد من الأفلام المصرية، وابرزت الدور الحقيقي الذي يمارسه افراد الشرطة في مصر بعيدا عن الاثارة والاستفزاز السلبي. قامت قصة الفيلم على حدث واحد لاغير ومجموعة من التفاصيل المرافقة له والضرورية في معالجته وفق حبكة درامية رومانسية متوازنة شخصها عدد قليل من الممثلين، البطلة، والبطل، وعاشقة البطل السابقة، ويبقى دور هذه الأخيرة الإسناد فقط أو دعنا نقول أنها استُعملت كأداة لتفسير بعض الأسئلة المحيرة لدى الغرب اتجاه الثقافة الشرقية، اضافة الى هذه الشخصيات الرئيسية هناك بعض الوجوه القليلة التي تظهر وتختفي فجأة حسب الضرورة، منها(الشابة المسافرة الى غزة والتي دخلت في حوار مع البطلة، وزوج البطلة، والشابة الخادمة في الفندق، وابنة عاشقة البطل...) هذا العدد المحدود من الشخصيات فرضته قصة الفيلم وفي نفس الوقت خدم المُشاهد وأعفاه من التوهان وسط الوجوه والحوارات وفرض عليه التركيز على مسار الحدث وقد عوض هذا النقص بالديكور الطبيعي والإطار البانورمي الذي اعتمد عليه الفيلم في وصف المحيط الملازم للحدث. القصة بسيطة جدا في طرحها، عميقة في مغزاها وهي متوجهة بالأساس الى الغرب، تسافر الصحفية الكندية جولييت (الممثلة الأمريكية باتريسيا كلاركسون) إلى مصر أول مرة للقاء زوجها مارك(الممثل الكندي توم مكاموس)الذي يعمل بالأ مم المتحدة في غزة، لم يستقبلها في مطار القاهرة كما كان متفقا بل استقبلها صديقه المصري طارق (الممثل السوداني البريطاني الكساندر صِدِّيق)، يغيب زوجها اكثر من اللازم لتبقى هي بجانب طارق الذي يحاول قدر الإمكان اخراجها من وحدتها حتى يصل زوجها، يأخذها كل يوم تقريبا في جولات سياحية داخل القاهرة، لتبدأ قصة أخرى بطلها الحب الذي بدأت بوادره تظهر على البطلين ولو بشكل غير معلن، في النهاية تتوقف هذه المغامرة في بدايتها عند وصول الزوج. تم تناول هذه القصة باسلوب سينمائي جمالي اعتمدت فيه المؤثرات الطبيعية -كما قلنا سابقا- والموسيقية، هذه الأخيرة التي اضفت مسحة خاصة على مسار القصة ، وقد كان لها رونق خاص و قوة مؤثرة في شرح الاحداث بل اعتبرت في مشهدين اثنين جسرا متينا تم من خلاله العبور من الشرق الى الغرب ومن الغرب الى الشرق. ففي بداية الفيلم وفي سيارة طارق كان استخدام اغنية ام كلثوم ومالها من دلالة رمزية نقطة انطلاق جولييت الى العالم الشرقي وبداية مغامرتها، وفي مشهد معاكس في نهاية الفيلم يجري حوار مقتضب بينها وبين سائق سيارة اجرة كانت تستقلها وزوجها لزيارة الأهرامات لم يفهم على اثره السائق طلبها فغير بالخطإ اغنية ام كلثوم باغنية غربية، عملية سلسة وذكية أوحت لنا نحن الجمهور بطريقة رمزية بداية تشكل منعطف آخر في الحدث أُعلن على اثره مغادرة البطلة للعالم الشرقي بمغامراته ورجوعها الى زوجها وحياتها الطبيعية. اعتماد الفيلم في اغلب مشاهده على الاغاني الشرقية لام كلثوم وعبدالحليم حافظ وغيرهما كَوَّن وحدة درامية منسجمة مع بعضها البعض مكتملة بناؤها على اساس صلب وقاعدة متينة ذات خطاب موجز وهادف، ومقاربة جمالية ذات كثافة معبرة تعبر بك داخل لغة مليئة بالاستعارات والرموز والمجازات... لغة بصرية تجمع المكان بالموسيقى بتفاعل خاص تتحكم فيه عناصر شعرية عميقة المعنى والمغزى، فتتقاطع بذلك الصورة البانورامية السينمائية بالأنغام الشرقية الكلاسيكية ليعيش المُشاهد اللحظة بعبقها التاريخي القاهري. حتى صوت الأذان الذي يصدح من مساجد وجوامع القاهرة استعمل بدقة في اماكن محددة فلم يكن مزعجا كما في بعض الأفلام الغربية أو حتى العربية بل كان ذا نغمة روحية هادئة. يبقى الحديث عن الفيلم حديثا ناقصا دون مشاهدته لكونه اعتمد على الصورة في المقام الأول وركز على جماليتها، ويبقى استفزازه الجمالي رائعا ومشوقا لمعرفة الكثير عن هذه المدينة المصرية التي تمت الاساءة اليها في العديد من الأفلام المصرية، أظن ان مخرجة الفيلم ومؤلفته الكندية (روبى ندى) -رغم اصلها العربي فهي تعتبر أجنبية بحكم ولادتها ونشأتها وجنسيتها - ردت الاعتبار الى مصر من خلال هذا الفيلم، الذي فاز بجائزة أفضل فيلم كندي طويل فى المهرجان السينمائي الدولي لتورنتو سنة 2009، لكن للأسف الشديد لم ينتشر على نطاق واسع ولم يتعرف عليه الجمهور العربي رغم وجود افلام أخرى أقل منه بكثير انتشرت ولاقت اقبالا كبيرا. فؤاد زويريق كاتب وناقد سينمائي مغربي مقيم بهولندا الفوانيس السينمائية