فرنسا.. أوامر حكومية بإتلاف مليوني عبوة مياه معدنية لتلوثها ببكتيريا "برازية"    طقس الثلاثاء.. أمطار الخير بهذه المناطق من المملكة    الأمن المغربي والإسباني يفككان خيوط "مافيا الحشيش"    ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لأوروبا    السجن المحلي بتطوان يحتفل بالذكرى ال16 لتأسيس المندوبية    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    الزمالك المصري يتلقى ضربة قوية قبل مواجهة نهضة بركان    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    أمن فاس يلقي القبض على قاتل تلميذة    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    نيروبي.. وزيرة الاقتصاد والمالية تمثل جلالة الملك في قمة رؤساء دول إفريقيا للمؤسسة الدولية للتنمية    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري        اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين        إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أي استقلالية ونجاعة عمل بين مسؤول القضاء وقضاء المسؤول

لقد قادتني بنات أفكاري إلى تناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة, لأنني لم أجد حسب علمي موضوعا سابقا في هذا الشأن, يمكن الاستنارة به ومعرفة المشاكل والأسباب, والاستفادة من المقترحات المستخلصة من خاتمته, وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الأمر لم يؤخذ محمل جد, ولا يشكل حسب المختصين أي عائق في مدى نجاح تسيير المؤسسات, وكأن مسار القضاء لم يعرف حوادث وحالات, أبانت عن انعدام الاستقلالية وضعف الأداء وقلة الكفاءة, علما أن واقع الحال عكس هذا تماما, لأن كل فعاليات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية, تلقي باللوم على القضاء وتحمله مسؤولية تردي العدالة بالبلاد, وهروب المستثمر وتأخر التقدم وانعدام الضمانات للفاعلين الاقتصاديين, وارتفاع الجريمة وغياب الأمن والإفلات من العقاب بالنسبة للمجرمين.
- فهل يا ترى للمسؤول القضائي يد في هذا الوضع الراهن؟
- وهل هو وحده المسؤول عن كل هذه المترديات؟
- وهل كان لتكوينه منذ التحاقه بهذه الوظيفة دور في هذا؟
- وهل أريد بالقضاء أن يكون شماعة تعلق عليها أخطاء القوم؟
- وهل غياب منبر تحدث القاضي جعل التعتيم سيد الموقف؟
فالظروف قد تكالبت على هذه السلطة منذ البداية, جراء الإهمال الذي طالها, والتقزيم من دورها الرائد, والحد من اختصاصاتها, إذ جمعت بسبب كل هذا بين :
1-عشوائية التسيير المتمثل في: انعدام التخصص واحتكار المنصب والولاء للرئيس الأعلى عوض القانون, والتقليد عوض التجديد, إهمال مصالح حيوية مثل مصلحة تنفيذ الأحكام بما فيها الغرامات,
2-التشريع المتجاوز المتمثل في: قوانين ناهزت المائة سنة من التعمير, وأخرى فورية آنية تخدم الظرفية ليس إلا, وثالثة تغل يد القضاء لبسط رقابته على كل الإخلالات, ومراسيم تنظيمية لم تخرج حيز التنفيذ, عقوبات مالية بخسة لا تحقق الردع بالنظر لقيمة الغرامة حاليا,
3-الإمكانيات المنعدمة المتمثلة في: بنايات متواضعة أو رديئة, لا تعطي للقضاء هيبته و وقاره, في الوقت الذي تجد فيه بنايات الوزارات الأخرى تضاهي في جمالها المعالم التاريخية, وتجد الدول التي آمنت برسالة العدل تشيد المحاكم على درجة من الارتفاع على الأرض, إيمانا منها أن المتقاضي يجب أن يرقى للعدالة, انعدام الوسائل اللوجستيكية والمعلوماتية, ظروف عمل لا تشجع على العطاء والتألق, انعدام شبكة عنكبوتية للتواصل,
4-الكفاءة الضعيفة المتمثلة في : انعدام التكوين المستمر, عدم التخاطب بأكثر من لغة واحدة, عدم وجود برنامج عمل طويل أو متوسط المدى للاقتداء به, انعدام التأطير ونقل التجربة للمبتدئ, عدم احترام الأقدمية, الاشتغال في أكثر من اختصاص مما يؤدي إلى عدم التمرس, الجهل بالنظام المعلوماتي, انعدام التزويد بالقوانين المحدثة,
5-التعويض الهزيل المتمثل في: أجرة شهرية لا تسد الرمق ولا تتساوى مع أجور باقي الأطر المقارنة في القطاعات الأخرى, انعدام التعويض عن الساعات الإضافية والعطل والديمومة, التأخير عن الترقية دون سبب معقول, انعدام أي مساعدات أو دعم في السكن أو التنقل, عدم التشجيع عن الإنتاج والإبداع والتألق,
6-التعقيد المسطري المتمثل في: طول الإجراءات, الصعوبة في التبليغ والتنفيذ, عدم ترشيد الطعون, التقاضي بسوء نية, عدم اطلاع المتقاضي بالقوانين, إجراءات شكلية عقيمة,
7-استراتيجية منعدمة متمثلة في: عدم وجود سياسة جنائية معتمدة, توجهات عمل قصيرة المدى تتغير بتغيير وزير العدل, انعدام التواصل بين الساهرين على الشأن الأمني, لتحديد الأهداف ورصد الأولويات في محاربة الجريمة, والقضاء على أوجه الانحراف,
8-عقوبات بديلة منعدمة متمثلة في: عدم الاقتضاء بالتجارب الأجنبية, عدم وجود ترسانة قانونية تشرع لهذه البدائل, غل يد القاضي في اتخاذ البدائل انطلاقا مما يراه مناسبا, عدم تفعيل عقوبة الأشغال الشاقة المنصوص عليها في الفصل 24من القانون الجنائي للردع والاعتبار,
9-عقلية اجتماعية تكرس الوضع نفسه متمثلة في: التقاضي بسوء نية, الجهل بالإجراءات القانونية, استعمال القضاء مطية لربح الوقت في أداء الحقوق لأصحابها, غياب ثقافة الدفاع وتوكيل محامي لصيانة الحقوق, الإثراء بدون سبب أو على حساب الغير, مساهمة التنازل عن الحق أو التخلي عن المتابعة, لستر الفضيحة أو إرضاء المحيط الاجتماعي, في ارتفاع الجريمة والعود إليها, رجوع النعرة القبلية كالانتقام والثأر والانقسامية,
10-عواقب التقسيم الترابي المتمثل في: تكدس الساكنة في مناطق ضيقة مما يؤدي إلى الاحتكاك السلبي, تجمع اقتصادي متركز يساهم في الهجرة القروية والعيش في التهميش, لهذا جاءت التوجهات الملكية السامية الرامية إلى إعادة تقسيم المغرب ترابيا إلى تسع مناطق استراتيجية تقسم الثروات بشكل متوازي,
من خلال هذه التوطئة التوضيحية, أصبح من الضروري تناول هذا الموضوع بالدرس والتحليل, لكشف مكامن الخلل والوقوف على المعيقات, وتشريح الظاهرة عضويا لمحاولة رصد المسببات, واقتراح حلول ورسم خارطة طريق مستقبلية, كفيلة بالنهوض بهذا القطاع نحو التألق والسمو, بعد أن ينفض عنه غبار الماضي ويفك قيود التقليد, ويقف صامدا أمام رياح التأثير, ولست أنا - هذا العبد الضعيف والرجل البسيط والقانوني المتواضع- من سيضرب بعصا سحرية لإيجاد الحلول وكشف مكامن الخلل والإتيان بالترياق الشافي, ولكني مجتهد في الأمر ليس إلا, وأرجو من الله سبحانه وتعالى التواب وأجر الاجتهاد وإن أخطأت.{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} سورة التوبة: آية 105
القضاء لغة : هو الحكم بين الناس ، ويُجمع على أقضية، ويطلق على إحكام الشيء وإمضائه ، ومنه قوله تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل " سورة الإسراء آية 4، ويطلق أيضاً على الفراغ من الشيء ، قال تعالى : " فوكزه موسى فقضى عليه " سورة القصص آية 15، ويطلق على إتمام الشيء، قال تعالى : " ليقضى أجل مسمى " سورة الأنعام آية 60
القضاء شرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات والبث في المعروض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " المقصود من القضاء ، وصول الحقوق إلى أهلها، وقطع المخاصمة،? فوصول الحقوق هو المصلحة، وقطع المخاصمة إزالة المفسدة?، فالمقصود هو جلب تلك المصلحة، وإزالة هذه المفسدة،? ووصول الحقوق هو من العدل الذي تقوم به السماء والأرض، وقطع الخصومة هو من باب دفع الظلم والضرر، وكلاهما ينقسم إلى إبقاء موجود، ودفع مفقود،? ففي وصول الحقوق إلى مستحقها، يحفظ موجودها، ويحصل مقصودها، وفي الخصومة يقطع، موجودها ويدفع مفقودها،? فإذا حصل الصلح زالت الخصومة التي هي إحدى المقصودين " مجموع الفتاوى .
وإذا كان القضاء مهمة إلهية أوكلها الله سبحانه وتعالى بعض عباده, ليحكموا بين الناس بالعدل فيقيموا الحدود ويذرؤوا الشبهات, نصرا للمظلوم وردعا للظالم ورأفة بالمشتبه فيه حتى يستجلى أمره, فإن هذا الإنسان حين حمل هذا التكليف العظيم, كان ظالما لنفسه, لعظم المسؤولية وصعوبة الفصل في الأمور وجلالة الخطب وسوء العاقبة, خصوصا إذا كانت الطوية قد مالت لتحقيق نزوات أو تغليب ظلم, في ميزان عدل لم يخلق ليدنس بحماقات البشر الهادفة لإشباع اللذات, فحق فيه قول لله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب آية 72 : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا, فما فتئ ربنا جل جلاله يحذر عباده كي يعدلوا بين الناس ويقيموا الميزان فيما شجر بين الخلطاء, كقوله تعالى في سورة النساء آية 58 : إِنَّ للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ للَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا, وقوله تعالى في سورة النساء آية 135 : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبيرا, وقوله عز من قائل في سورة المائدة آية 8 : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا للَّهَ إِنَّ للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ, وقال نبينا محمد صلى لله عليه وسلم في هذا الشأن: " يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة ، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أن لم يقض بين اثنين في تمرة قط ", وقال صلى لله عليه وسلم " إن شئتم حدثتكم عن الإمارة ما هي : أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل ", أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح.
وهذا ما حدا بالصحابة والتابعين بأن يستشعروا المسؤولية ويحترزوا من هذا الأمر, فكانوا لا يتباخلون في إسداء النصح لبعضهم البعض كلما سنحت الفرص بذلك, فهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي لله عنه يوجه رسالة لأبي موسى الأشعري لما ولاه على القضاء يقول له فيها: فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً، ومن ادعى حقاً غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهي إليه ، فإن جاء ببينة أعطيته حقه، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، لأن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلوداً في حدٍ أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال والأشياء ثم اعتمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر، فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه لله، فإن لله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً، وما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته .. والسلام" .
يتبع
تابع
فإذا كانت هذه نصيحة عمر بن الخطاب لأحد القضاة, في زمن كان الإسلام في أوج انتشاره والإيمان في قمة الاعتقاد والأخلاق قد وصلت درجة السمو, فأين نحن اليوم من هذا, إذ يحكى أن أبا بكرعيَّن عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، فلم يعقد جلسة قضاء واحدة. عندها طلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء,
فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟
قال عمر: لا يا خليفة رسول الله ? صلى الله عليه وسلم - ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَا يختصمون؟ ففيمَا يختصمون؟
ولكن المشكلة اليوم هي مشكلة أخلاق, وقلة صدق في التعامل وجشع طغا على الناس, وترك لشريعة الله وسنة رسوله, وتجاهل لسيرة الصحابة والتابعين, وكأن هذا البلد لا ماضي له ولا ثوابت يرجع إليها, ولا فقهاء وعلماء في الشريعة والقضاء يستنار بمسيرتهم, فنحن من سمينا في الأمس القريب بالمالكيين, لكثرة اتباعنا واجتهادنا في المذهب المالكي, والشرق الأوسط ? مهبط الرسالات السماوية- لازال اليوم يعترف لنا بالقراءة المغربية للقرآن الكريم, وبالفضل في إقرار سنة حسنة, وهي إحياء ذكرى مولد سيد البشرية, محمد صلى الله عليه وسلم. فلماذا اشتد الوطيس وكثر الهرج وتعالى الصياح, وجعل القضاء شماعة تعلق عليها أسمال الخاطئين المدنسة, ورفعت هيبة القاضي واستخف بمهمة القضاء, علما أن هذا المجال يبقى ملاذ كل مواطن للجوء إليه متى اغتصب حقه, وهذا ما جاء في نص خطاب جلالة الملك في ذكرى ثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت 2009 الذي قال فيه :
وإننا نعتبر القضاء عمادا لما نحرص عليه من مساواة المواطنين أمام القانون، وملاذا للإنصاف، الموطد للاستقرار الاجتماعي. بل إن قوة شرعية الدولة نفسها، وحرمة مؤسساتها من قوة العدل، الذي هو أساس الملك. مقتطف من الخطاب الملكي السامي. ولم يكن هذا الخطاب الملكي السامي, هو الوحيد الذي خص من خلاله جلالته الحديث عن القضاء, بل ما فتئ نصره الله يولي اهتمامه وعنايته الخاصين لهذا القطاع المهم, الذي يعتبر امتدادا لوظائفه كأمير المؤمنين, مادام القضاء من وظائف الإمامة, لهذا نجد عدة خطابات ملكية تطرقت للقضاء والقضاة والعلاقة مع المواطن وهي :
- الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش بتاريخ: 30يوليوز 2001.
- افتتاح السنة القضائية بتاريخ: 29/01/2003.
- افتتاح دورة المجلس الأعلى بتاريخ: 12/04/2004.
- افتتاح الندوة الدولية للمجلس الأعلى يومي: 21/22 نونبر 2007.
- الخطاب السامي بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب بتاريخ: 20/08/2009،
- الخطاب الافتتاحي للدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الثامنة بتاريخ: 08أكتوبر2010،
المسؤولية هنا مشتركة بين جميع الفاعلين في هذا المجتمع :
فمثلا من الأسباب التي ساهمت في تكريس هذا الوضع نجد ما يلي :
1- ترسانة قانونية أضحت لا تستجيب لمتطلبات العصر وغير مواكبة لتطور مواضيع التقاضي, من إجرام وتجارة وتكنلوجيا ومعاملات.
2- ثقافة شعبية بعيدة في تصورها عن المقتضيات القانونية, وعدم اطلاع بخصوصيات الشأن القضائي, لمعرفة طريقة عمله و اشتغاله.
3- إعلام يرصد حالات الإجرام وطرق ارتكابها, دونما متابعة للمحاكمة وتنفيذ العقوبة, لتحقيق الردع وأخذ العبرة بدلا من التقليد والبطولية.
4- سلطة تنفيذية تسيطر بشكل كبير على عدد من اختصاصات القضاء, مما يجعلها شريكة فاعلة فيما وصل إليه القضاء اليوم.
5- مشاركة حزبية ضعيفة في تقديم مقترحات قانون, ليتم تشريعها وتكون بالتالي معالجة في الصميم لمشاكل المواطن وخادمة لمصالحه.
6- اعتماد قوانين وطرق اشتغال أجنبية, تتضارب في عمقها مع تقاليد وعادات وثوابت هذه الأمة, فلا تفي بالغرض المطلوب.
7- الكيل بمكيالين في إعطاء امتيازات أو فرصة أو مساعدة, فالمتمرد والعاصي والمتسلط, هو الأولى بها لإسكاته بدلا من المواطن الصالح.
8- تدني مستوى الأخلاق وضياع الأمانة واستغلال القضاء لتحقيق النزوات, فبعدما كان الإنسان تراقبه أخلاقه أصبحت تراقبه الكاميرات.
9- قلة في الإمكانيات ووسائل العمل, تؤثر سلبا على المردودية والرقابة, وتقزم من دور القضاء في بسط سلطته على مرؤوسيه.
10- اقتصار القضاء في مهامه على إقرار الحق عوض إعطاءه, وفي تطبيق القانون بدلا من تحقيق العدالة.
11- استمرار الجهات المسؤولة في العمل الانفرادي, دون إشراك القضاة في إعطاء تصورهم في مجال التسيير والبرمجة لقطاعهم.
12- تعدد الاختصاصات وتشتت المرافق, بما ليس فيه مصلحة للمتقاضي, ويعطي أحكاما متضاربة, ولا يرسخ الاجتهاد القضائي,
13- عدم الإيمان بمبدأ التخصص, وتوجيه القاضي حسب ميوله لصقل عمله والإبداع في مجال تخصصه والتفرغ له.
14- انعدام المعايير الموضوعية في اختيار المسؤول القضائي, من كفاءات مهنية وتصور لتسيير الشأن العام, وجرأة ومبادرة.
15- اعتماد لامركزية في البنايات متمركزة في القرارات, إذ ينحصر دور المسؤول في الإخبار بالحالات, دون البحث عن حلها.
16- عدم التداول والتناوب على المسؤولية, لتراكم التجارب وتطوير طرق العمل, وإعمال أبسط مبادئ الدمقراطية.
مسؤول القضاء أو المسؤول القضائي : أي كفاءة؟
إذا كان يشترط في كل قاض صفات معينة, لا يمكنه التجرد منها ولا تصور عدم توفره عليها, فماذا يمكن القول عن رئيسه الإداري, الذي ينبغي أن يكون قدوة له, وإشعاعا علميا يستنار به, وتجربة محنكة تحاكى, ومسارا مهنيا مورست خلاله كل درجات التقاضي, له رؤيا شاملة للأمور, يراقب قبل أن يعاقب, مترو في قراره حليم في سبقه وانتظاره, إذ ينبغي له أن لا يحكم بين الناس وهو غضبان ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان ", وروي عن عمر بن عبد العزيز قوله في القاضي : خمس إذا أخطأ القاضي منهن خصلة كانت فيه وصمة عيب : أن يكون فَهِماً ، حليماً ، عفيفاً ، صليباً، عالماً سؤولاً عن العلم, أخرجه البخاري, وما هذا بالمستحيل أو صلب كأسنان الفيل, فليس بالبعيد حينما كان القاضي من أجدادنا, إذا دخل مسجدا أم، وإذا ارتاد مجلسا عم، وإذا عزم أمرا هم، وإن تكلم أسمع الأصم، ولمآسي الناس متألم، وللمكارم متقدم، مظلوم من حكمه غنم، وظالم لا والله ما سلم, حكمه فاصل وأمره واصل, وكمه هائل يفهم في كل المسائل، لا يبالي بقول لائم ولا لعمله هو سائم, بشوش في وجه الناس ولتائب رقيق الإحساس, قال عمرو بن مرة لمعاوية : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من إمام يغلق بابه دون حاجة ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته "، فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس, أخرجه الترمذي وأبو داوود، فإذا كان ماضي أجدادنا وماضي من استرشدنا بمسارهم من صحابة وأولياء وقضاة, يشع بنور المعرفة والحصافة وحسن الاقتداء, فهل نحن اليوم على دربهم, وهل نحمل في ضمائرنا جزء من هذه الصفات, وما سبب التخلي عن هذه المكارم, إذ أصبح اليوم التهافت على الألقاب عادة, وحب المناصب عبادة, والتباهي بالمسؤولية ريادة, فجعلوا من ظهر الكرسي وسادة, وما اجتهدوا ولا جاؤوا بسنة ولا إفادة, خالفوا شرع الله, القائل في محكم كتابه: { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}, سورة آل عمران, واحتكروا المناصب بلا تناوب, فشقوا في الأرض بما جنت أيديهم, والمثل يقول : نصف شقاء الناس هو محاولتهم إظهار ما ليس فيهم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها " وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن جُبر عليه ، ينزل ملك يسدده ", وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من عمي، فقال أحدهما : يا رسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال : " إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً يسأله، أو أحداً حرص عليه ", وحتى إن اعتبرنا أن تهافتهم هذا على المناصب والسعي وراء المسؤوليات, هو من قبيل حبهم لهذه المهنة وإحساسهم القدرة والكفاءة على تسيير الشأن العام, شاهدهم كما اعتادوا قوله, طلب يوسف عليه السلام للمسؤولية, في قول الله تعالى في سورة يوسف: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ, فقد قالها لأنه نبي يوحى إليه من ربه, ومكلف من خالقه ليدبر شؤون العباد, في فترة عصيبة من الجفاف والمجاعة كانت ستعرفها البلاد, وكان فعلا أمينا بشهادة الجميع عالما للغات ولتفسير الأحلام, بارعا في الحساب والكيل, فإن كان هو من طلب المسؤولية لأنه يرى في نفسه قدرة على تحملها, ومسير بأمر ربه ليبلغ رسالته, فهو كذلك من طلب البقاء في السجن حتى تظهر براءته من ظلم أحاط به, وحتى لا يسقط في الخطيئة ويغضب ربه, من كيد النسوة اللاتي أقسمن أن يوقعنه في الفاحشة معهن, وذلك في قول الله تعالى في نفس السورة : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ, فقال النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً منه وأدباً : ( لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف؛ لأجبت الداعي ), أي لأسرع الإجابة في الخروج من السجن - خروج من له حجة لا خروج المعفى عنه - فمن منا له هذه العزيمة والصبر, وحب الهوان والحرمان من الحرية لتبيان الحق وإزهاق الباطل, والخوف من الخالق لا من المخلوق, لهذا كانت هذه السورة هي عبرة لكل معتبر وهي الوحيدة التي نزلت كاملة, إذ جاء فيها قول الله تعالى : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وإذا أردنا أن نكون عمليين في بحثنا جادين في محاولة الوصول إلى حلول, راغبين في تخطي أخطائنا لتحقيق قفزة نوعية كما وكيفا, فما هي معايير اختيار المسؤول القضائي. بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله نجد أن الأمر قد تم تبيانه والفصل بشأنه, بما يكفي لاستجلاء الرؤيا ورفع اللبس, قال الله تعالى : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " سورة المائدة, وقال عز من قائل : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " سورة المائدة, وقال صلى الله عليه وسلم : " القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة: رجل قضى بغير الحق، فعلم ذاك، فذاك في النار، وقاض لا يعلم، فأهلك حقوق الناس، فهو في النار، وقاض قضى بالحق، فذلك في الجنة "أخرجه الترمذي, فالقرآن والحديث هنا واضحان بما لا يدع مجالا للشك, إذ الخائن لضميره ولأمانة القضاء والجاهل بأمور الفصل بين الناس, لا مكان لهما في جسم القضاء, لأن الأول زاغ عن الحق لإرضاء نزوة, والثاني زاغ عنه لجهله, والخطورة هنا في أن هذا الجاهل لا يعلم أنه كذلك ويرى كل من حوله جاهلا, فالجاهل يرى العالم جاهلا من كثرة جهله, كما يرى العالم الجاهل جاهلا من كثرة علمه, ويروى أن حمار الحكيم قال: لو أنصفني الزمان لكنت أركب, فأنا جهلي بسيط وصاحبي جهله مركب.
- فهل مسؤوليتهما هنا شخصية أم مشتركة ؟
- وإن كانت المسؤولية مشتركة فمع من؟
- ومن هو المسؤول الأول عن هذا الأمر؟
لهذا لابد من وضع معايير معينة لاختيار الشخص المناسب للمكان المناسب, ولابد من أسس يجب اعتمادها في تعيين أي مسؤول قضائي, على مؤسسة هي واجهة القضاء في دائرة نفوذها بل في كل مكان شمل بمقتضيات أحكامها, وهي إدارة لامركزية للسلطة القضائية, ولأن المناصب الحساسة يجب أن تخضع لمخطط بعيد المدى, حتى لا تتغير أهداف المنصب بتغير المسؤول, وتوضع مجهودات واستراتيجية كل مسؤول سابق في الأرشيف كلما حل مسؤول جديد, ولأن المنصب يتأثر بمن يشغله إيجابا أو سلبا, فلابد من اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب, وربط المسؤولية بعد ذلك بالمحاسبة, وهذا ما ذهب إليه الفصل الأول من الدستور الذي نص على ما يلي :
نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية. يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
وهنا يجب الاسترشاد بالخطاب التاريخي لجلالة الملك محمد السادس حول إصلاح القضاء بتاريخ 20 غشت 2009, والذي جاء فيه :
وفي نفس الإطار، يجدر مراجعة النظام الأساسي للقضاة، في اتجاه تعزيز الاحترافية، والمسؤولية والتجرد، ودينامية الترقية المهنية، وذلك في ارتباط مع إخراج القانون الأساسي لكتاب الضبط، وإعادة النظر في الإطار القانوني المنظم لمختلف المهن القضائية.............
أما على صعيد المحاكم، فإن نجاح الإصلاح يظل رهينا بانتهاج عدم التمركز، وبتوافر الكفاءات اللازمة. ولهذه الغاية، ندعو المجلس الأعلى للقضاء، لعقد دورة خاصة، لاقتراح المسؤولين القضائيين بالمحاكم، المؤهلين للنهوض الميداني بهذا الإصلاح الحاسم. مقتطف من الخطاب الملكي السامي.
معايير اختيار المسؤول القضائي من بين باقي القضاة :
1- احترام رغبة القاضي في تولي المسؤولية من عدمها, لأن انعدام الرغبة معناه انعدام الإرادة, وانعدام الإرادة هو طريق للفشل.
2- اعتماد قاعدة الأقدمية لأنها عنوان للتجربة والحنكة, لأن القضاء صناعة, وإتقان الصناعة يكتسب مع الوقت لامع الشواهد.
3- اعتماد مسألة التخصص, لأن القضاء متشعب كباقي المجالات, فمن يتقن مادة قانونية قد لا يفقه شيئا في أخرى.
4- الاستماع إلى المرشح قبل اختياره, لبسط تصوراته وأهدافه التي يرجو تحقيقها والعمل عليها, إن هو تم تعيينه,
5- ضرورة توفر المسؤول القضائي على لوحة قيادة, تكون له بمثابة خارطة طريق في مساره كرئيس مؤسسة قضائية.
6- وجوب عرضه على مختص في الطب النفسي, للكشف عن عقده وطريقة تفكيره ورؤيته للعالم الخارجي المحيط به,
7- ملامسة مدى قدرته على تأطير واحتواء كل العاملين معه, لتوجيه طاقاتهم نحو هدف معين, ألا وهو المصلحة العامة.
8- ضرورة توفر المرشح على تجربة عمل بجميع درجات التقاضي, من محكمة ابتدائية واستئناف ومحكمة النقض.
9- تكليف القاضي بالمسؤولية وهو في كامل قوته البدنية والعقلية, وفي سن كهولته لا في شيخوخته, حتى يكون في أوج عطائه.
10- ضرورة إتقانه لأكثر من لغة, لأنه مفروض فيه استقبال أشخاص من جنسيات مختلفة, لسماع شكاويهم دون حضور أي طرف آخر.
11- إعطاء الأسبقية للقضاة الذين تم ترشيحهم من طرف الجمعيات العمومية للمحاكم, وذلك لإشراك القضاة في تسيير أمورهم بنفسهم.
12- إجماع الأغلبية المطلقة لأعضاء اللجنة على مرشح معين, مما يؤكد استحقاقه بتفوق للمنصب موضوع الاختيار.
13- ضرورة توفر المرشح على شخصية قوية, غير خجولة أو لا مبالية أو محتشمة أو ضعيفة أو مماطلة أو انزوائية أو متهورة أو حقودة.
وقد تظهر هذه المعايير مبالغا فيها أو تعجيزية, ولكن بالنظر لمهمة القضاء فلا بد من اختيار أشخاص متفردين في أخلاقهم وقدراتهم وكفاءاتهم, قادرين على تحمل المسؤولية والإجابة عن كل الأسئلة, - فالمسؤول لا تعني رئيس بل تعني مستجوب موضوع مساءلة - لأن رقاب وحريات وأعراض أناس ستوضع بين أيديهم, قال صلى الله عليه وسلم : " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة"، فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ قال:" وإن كان قضيباً من أراك " أخرجه مسلم, لهذا كان من الأجدى أن يضيق عنق الزجاجة في اختيار المسؤول, والأمل في أن تتوفر فيه كل هذه الخصائص, فمنها ما هو فطري ومنها ما يكتسب عبر الزمن, وقد تجتمع في أي رجل بسيط يعرف شرع الخالق فيطبقه, فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا, ويعرف حق المخلوق فلا ينتهكه ولا يغصبه لنزوة, ويبعد نفسه عن الشبهات فيسلم, ويأخذ العصا من وسطها فيغنم, فالله يقول في كتابه ?:?
"? وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ?" ? سورة ?الحج, وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور، على يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا ", أخرجه مسلم, و قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله مع القاضي، ما لم يجُر، فإن جار، تخلى الله عنه، ولزمه الشيطان " أخرجه الترمذي, فالبحث عن كل هذه الميزات مرده الخوف من تقليد المسؤولية لشخص يسيئ التعامل معها ويسيئ لسمعة سلطة بكاملها, بشطط أو استبداد أو جور على العباد, فيعظم نفسه ويرفض أن يكون موضع انتقاد أو لوم, فيصبح كالمهلب بن أبي صفرة الذي صاح في وجه أحد الأعراب قائلا: من أنا؟ وكان ينتظر منه أن يجيب: أنت سيدي القائد الجبار, الذي قهرت العدا في البراري والقفار, لكن جواب الأعرابي كان خلافا لما ينتظر, حيث قال له: أنت إنسان خلقت من نطفة مذرة, وحين تموت تصير جيفة قذرة, وظللت منذ خلقك إلى مماتك تحمل في بطنك العذرة, وكلمة المذرة والقذرة والعذرة دلالة على التصغير والتحقير والنتانة, أراد الأعرابي من خلالها أن يجعل المهلب يعرف قدره, فيتوب من كبره وتحقيره للآخرين, فكم من أناس لا تظهر عليهم أي أعراض مرضية, ولكنهم يعانون من أمراض نفسية عصابية أو دهانية تؤثر سلبا في شخصيتهم وفي تعاملهم مع الآخر, كالخواف والوسواس القهري والانفصام والفوبيا وغيرها, وقد تنبه المشرع المغربي لهذه المسألة في إطار قانون المحاكم المالية رقم 99/62, إذ نص في المادة 203 منه على ما يلي: (تمنح رخص المرض الطويلة الأمد التي لا يزيد مجموع مدتها على خمس سنوات لفائدة القضاة المصابين بأحد الأمراض التالية: - الإصابات السرطانية ? الجذام ? داء فقدان المناعة المكتسبة ? شلل الأطراف الأربعة ? زرع عضو حيوي ? الدهان المزمن ? الاضطرابات الخطيرة في الشخصية ? الجنون, ويحتفظ القاضي خلال الثلاث سنوات الأولى من رخصة المرض بمجموع أجرته, ونصف هذه الأجرة طوال السنتين التاليتين), ونظرا لأن هذا القانون لم يصدر إلا مؤخرا في سنة 2002, خلافا للنظام الأساسي لرجال القضاء الصادر سنة 1974, فإن المشرع اعتبر هذه الاضطرابات النفسية من الأمراض الخطيرة, نظرا لتقدم الطب وثبوت التجربة أن هذه الحالات المرضية, تشكل اختلالا خطيرا في شخصية الإنسان وتؤثر على سلوكه.
لهذا يجب التريث في اختيار من سيتولى هذه المهمة الشاقة العظيمة, خصوصا إذا علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من ولي القضاء، أو جعل قاضياً، فقد ذُبح بغير سكين", أخرجه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني, ومعنى " ذبح بغير سكين "، قال ابن الصلاح: المراد ذبح من حيث المعنى، لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد، وعذاب الآخرة إن فسد.
وإذا كانت هذه بعض المعايير أو المواصفات, الواجب توافرها أو اللازم وجودها أو المقترح إضفاؤها, على شخص المرشح للمسؤولية أو للمنصب القضائي, ليستطيع القيام بمهامه وينجح في وظيفته, وهذا لأنه سيتحمل في إطار هذه المسؤولية المسندة إليه عدة أعباء, نجمل بعضها في:
- عبأ تمثيل القضاء وإعطاء صورة وسمعة عنه من خلال قراراته,
- عبأ الفصل بين الناس وإعطاء كل ذي حق حقه في غير ملامة,
- عبأ تسيير مرفق عمومي بما فيه من أطر وموظفين وأعوان
وتوجيه عملهم إلى الإنتاج والتصريف بدلا من التراكم والتسويف,
- عبأ تمثيل دولة بأكملها أمام المنتظم الدولي, وأمام كل أجنبي قد يكون طرفا في قضية معينة,
- عبأ رفع راية الحق والعدل وتنكيص بيرق الظلم والجور,
- عبأ تنفيذ سياسة جنائية هادفة لمكافحة الجريمة, هذا إذا كان
في مؤسسة النيابة العامة,
-عبأ الرعاية, انطلاقا من قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } سورة الأنفال, وحديث نبينا المصطفى المختار: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
وبالرجوع إلى مدونة أخلاقيات القاضي, الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء في دورته المنعقدة سنة 2006, نجدها قد تطرقت لهذه النقط بكل تفصيل, إذ اعتبرت أن من التزامات القاضي ما يلي:
- الحفاظ على العهد الذي قطعه على نفسه أثناء تأديته اليمين,
التحلي بمبدئ الحياد والتجرد,
- أداء واجباته القضائية بكل نجاعة وإتقان وفي الآجال المعقولة,
تحقيق العدل طبقا للقانون,
- الحفاظ على السر المهني وأن لا يعبر عن قناعته أثناء سير الدعوى وقبل التصرف أو الفصل فيها,
- تسبيب أحكامه في الآجال المطلوبة وبصفة شخصية,
- العمل على أن يكون منطوق حكمه واضحا وقابلا للتنفيذ,
- أن يكون منضبطا في مواعيد عمله ومتمكنا من ملفاته,
- أن لا يقبل من أي جهة كانت أي تدخل من شأنه التأثير على عمله القضائي,
- عدم ممارسة أي ضغط على أطراف القضية,
- الرفع من مستواه العلمي وكفاءته المهنية,
وبقراءة تحليلية لهذه الالتزامات الملقاة على عاتق القاضي, نفهم من خلالها أنها تخاطب فيه ضميره الحي, وتعتمد على خلقه ومبادئه في الحياة, ومدى تزانه وكفاءته ونبله, إذ لا رقابة على القاضي في عمله اليومي, رغم ما تطلبه منه من كفاءة في العمل وسرعة في البث وحياد في القضاء وقمع لكل متدخل وانضباط في الوقت, فهل الظروف التي يشتغل فيها القاضي كفيلة بأن توفر له جوا يضمن له هذه الحماية ويحصنه من كل تأثير خارجي.
قضاء المسؤول أو عمل المسؤول القضائي أي نجاعة؟
يلعب المسؤول القضائي دورا مهما, في السير بالمؤسسة القضائية إلى الأمام, والرقي بعمل القضاء سواء الجالس أو النيابة العامة, إلى المستوى المطلوب, ولعب دور رائد في تصريف الأشغال, وتوحيد الاجتهاد, ورسم خارطة طريق لما يجب الانكباب عليه, فرغم استقلال القضاء الجالس في أحكامه, إلا أن رقابة المسؤول وقراراته قد تؤثر سلبا أو إيجابا في هذا القاضي أو ذاك, بالنظر لطريقة تدخل المسؤول, فإبعاد قاض من مادة يتقنها أو عنده ميول لها, سيؤثر لا محالة على مردوديته, كما أن تعيين آخر في غرفة لم يسبق له أن مارس مادتها, لن يؤدي إلا لنتائج لا تليق ومستوى الأحكام المطلوبة, خصوصا وأن هذا المسؤول يستمد هذه الاختصاصات من القانون, ومن السلطة الأدبية القائمة بينه وبين باقي القضاة, ومن دعمه ومصداقيته المستمدين من الوزارة الوصية, ومن نشرة التنقيط التي تبقى بمثابة مقصلة على رقبة القاضي, ومن حقه في عدم السماح لقاض بالسكن خارج الدائرة القضائية طبقا للنظام الأساسي لرجال القضاء, كما أن التنظيم القضائي يعطيه في إطار الجمعية العمومية, الحق في تعيين القضاة في الأقسام والغرف, وإن كان ظاهر النص يوحي بأن القرار هو مشترك بين الجميع, وأن كل قاض يعبر عن رغبته في العمل بقسم أو غرفة معينة خلال انعقاد الجمعية, إلا أن واقع الحال هو خلاف ذلك, إذ تفتتح الجمعية العمومية بهمس خفيف وعابر لمجهودات القضاة خلال السنة المنصرمة, دون تشجيع لهم, تم يتلى برنامج الجلسات وكلمة مختزلة لكلا المسؤولين, فينفض الجمع قبل حتى أن ينعقد, وبالرجوع لقانون99/62 الخاص بالمحاكم المالية, نجده قد أعطى اختصاصات لا محدودة للرئيس الأول بالمجلس الأعلى للحسابات تمتد حسب الفصل الثامن إلى مراقبة أعمال وأنشطة قضاة المحاكم الإدارية وتسيير شؤونهم الإدارية, ومن خلال هذه المقتضيات والتصرفات, تبدأ الثقة في الفقدان ما بين المسؤول القضائي وباقي القضاة, فتتشنج العلاقة وتسود الانزوائية, ويحل التفرق عوض التجمع, مما يؤثر سلبا على العمل, وإن كانت السنة التي جاءت بعد التعديل الدستوري, قد عرفت تراجعا نسبيا في بعض المحاكم, لهذا الاحتكار الذي دام لأكثر من خمسين سنة, وكان له الأثر الكبير في تراجع مستوى العطاء لدى القضاة.
وفي شق النيابة العامة فإنه بالرجوع للمادة 39 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أن وكيل الملك يمارس سلطته على نوابه, والمادة 49 نصت على نفس الأمر بالنسبة للوكيل العام للملك في علاقته مع نواب الوكيل العام للملك, وهذه عبارة توحي بانعدام الاستقلال ووجود نوع من التسلط, لا يخدم مصلحة القضاء بمفهومه الواسع, بل فيه حتى ظلم واضح لنواب وكيل الملك ونواب الوكيل العام للملك, علما أن القاعدة القانونية تقول نائبه كهو, وقد يكون النائب في نفس درجة المسؤول وأقدميته, فكان بالأحرى أن تستعمل عبارة أكثر لباقة, ليستفاد منها أن المسؤولية هي مسؤولية تأطير لا مسؤولية تحكم, علما أنه لم تستعمل هذه العبارة في علاقة وكيل الملك مع الضابطة القضائية, والتي هي أقل رتبة في التدرج من نواب وكيل الملك, إذ نصت المادة 16 من قانون المسطرة الجنائية, يمارس وكيل الملك أعمال الشرطة القضائية بدائرة نفوذه, ولم تأت هنا عبارة, يمارس سلطته على الضابطة القضائية, بالرغم من أنه الرئيس القضائي المباشر لها.
وبالرجوع للمادة 46 من نفس القانون نجدها تتحدث عن مسألة تعيض وخلافة وكيل الملك حالة تغيبه, والتي جاء فيها : إذا حدث لوكيل الملك مانع فيخلفه نائبه, وإذا تعدد النواب فيخلفه النائب المعين من قبله......
علما أن نفس المادة من قانون المسطرة الجنائية القديم, كانت تنص على أن يخلف وكيل الملك, النائب الأقدم من بين النواب, وفي هذا احترام للأقدمية, ولشعور النائب الأقدم, ولحسن سير المرفق, فمن أسباب نجاح النظام العسكري, هو احترام الجندي لمن هو أقدم منه رتبة أو مدة, وقد يقول البعض أنه يمكن أن يكون النائب الأحدث عهدا أكثر كفاءة ممن هو اقدم منه, ولكن هذا استثناء والاستثناء لا يقاس عليه, لأن القضاء صناعة تكتسب عبر الزمن والتجربة, فمن سبقك بيوم سبقك بتجربة,
وإذا كان وزير العدل هو رئيس النيابة العامة, بمقتضى القانون فإنه مع ذلك, وفي إطار تطبيق السياسة الجنائية, التي عليه إيصالها لكل أعضاء النيابة العامة, في إطار سلطته الرئاسية, جاءت المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية بعبارة, تنم عن دمقراطية واستقلال نسبي للقضاء, إذ نصت على ما يلي: يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية, ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها,...... , فرغم أن الخطاب موجه من رئيس أعلى فلا وجود لعبارات ممارسة السلطة على أي مرؤوس, كما نجد المادة 49 من نفس القانون, تنص على ما يلي: يتولى الوكيل العام للملك السهر على تطبيق القانون الجنائي في مجموع دائرة نفوذ محكمة الاستئناف, يمارس سلطته على جميع قضاة النيابة العامة التابعين لدائرة نفوذه, وكذا على ضباط وأعوان الشرطة القضائية وعلى الموظفين القائمين بمهام الشرطة القضائية استنادا إلى المادة 17 أعلاه........, فإذا أوكل إليه المشرع السهر على تطبيق القانون, فسيطبقه بطبيعة الحال في قالب السياسة الجنائية التي بلغت إليه من طرف وزير العدل, حيث سيمزج في عمله هنا بين تعليمات رئاسية ? وزير العدل - وتعليمات قانونية ? القانون الجنائي والمسطرة الجنائية -, بين مكافحة الجريمة طبقا للقانون ومكافحة الجريمة طبقا للتوجه الحكومي.
وهنا سأفتح قوسين حول السياسة الجنائية ومعناها, فإذا كانت السياسة هي اقتراح طريقة عمل لمعالجة ظاهرة معينة, فهي بالتالي مشروع لكل استراتيجية, والاستراتيجية هي في حد ذاتها تشريع متسلسل, فالسياسة إذن هي مجموع أفكار لشخص أو عدة أشخاص أو هيئة أو حزب, يراد تطبيقها في إطار استراتيجية محددة مسبقا في زمانها ومكانها للوصول إلى هدف أو أهداف معينة, ورغم اختلاف الفقهاء ورجال القانون حول مفهوم السياسة الجنائية, وذلك لإعطاء كل واحد منهم مفهوما لها من خلال موقعه أو منصبه أو تصوره للمسألة, إلا أن تعريفها الشمولي والجامع يبقى هو التالي:
السياسة الجنائية حقل علمي ومعرفي تدرس وتراقب فيه الآليات المعتمدة في مجتمع من المجتمعات لمواجهة الظاهرة الإجرامية بمكونيها الجريمة والانحراف.
وبالرجوع للتشريع المغربي لا نجد للسياسة الجنائية مفهوما في سياقه التاريخي, اللهم ما نصت عليه المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها :
يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية, ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تنفيذها,.........
فهي بهذا من صميم العمل الحكومي الواجب إعداده مسبقا لتنفيذه في إطار مخطط, إذ تلتقي السياسات الجنائية لكل الدول حول هدف واحد, وهو مكافحة الجريمة وتقويم الانحراف, فإذا كانت السلط الثلاث للدولة ? التشريعية التنفيذية والقضائية - تنكب على الحد من الجريمة والوقاية منها وزجر مرتكبيها, فإن تقويم الانحراف يدخل ضمن مهام المجتمع المدني, الذي عليه الانكباب على دراسة الظاهرة ومحاولة وجود حلول لها مستمدة من ثوابته وأخلاقياته وأعرافه, مادام أن هذا الانحراف لم يصل لدرجة التجريم, فالمقاربة هنا إذن تلتقي في الغاية وتختلف في الوسيلة وطرق العلاج, فكل الأنظمة تسعى لإقرار العدل والمساواة بين كل مكونات المجتمع, وتنزيل قوانين ومبادئ لخلق روح تعايش وانصهار بين المواطنين, ساعية في ذات الوقت إلى نبد التنافر والاختلاف الهدام الذي يكرس التطرف في طرق التفكير والتصرف, ومن خلال هذا المفهوم, فإن السياسة الجنائية يجب أن تؤخذ وتستقى من الأسفل, وترفع للأعلى إلى السلطات الوصية على تسيير الشأن العام, لأن السياسة الجنائية هي تصور لوجود حلول لظاهرة الإجرام في بلد معين, فكل فعل يحدث اضطرابا اجتماعيا لابد أن يكون موضوع تجريم, ولا يمكن أن يكون موضوع اضطراب, إلا إذا كان يمس في ظاهره تقاليد وعادات وثوابت مجتمع معين, فهذا الاضطراب يبدأ أولا على أرض الواقع, في الأحياء والأزقة والتجمعات السكنية, إذ يستشعر في أرضية الهرم لا في قمته, فكان بالأحرى أن يرفعه وكيل الملك أو الوكيل العام للملك, من خلال المحاضر اليومية التي يستقبلها إلى الجهات العليا, ناصحا إياها بما يجب اعتماده للقضاء على الجريمة, وهذا ما اعتمده وزير العدل في كتابه الصادر بتاريخ 1يونيو2010 والموجه للوكلاء العامين للملك ولوكلاء الملك, طالبا منهم توحيد الرؤى في شأن بعض المتابعات لضمان وحدة الاجتهاد تفعيلا لسياسة جنائية متناسقة وفعالة.
وهذه المبادرة الاستباقية الصادرة عن مسؤولي النيابة العامة تجاه الجهة المختصة, هي أحسن وأكثر نجاعة من انتظار توجه وسياسة تبلغ إليهم من طرف وزير العدل, الذي ينقلها بدوره مباشرة عن الحكومة, فتكون لها رائحة ولون سياسيين يخدمان بشكل أو آخر توجه الحزب الحاكم ومبادئه التي يقوم عليها, قبل أن يخدم مكافحة الجريمة والقضاء عليها, فلغة الأرقام بما فيها الرقم الأسود هي مجال اشتغال النيابة العامة, فهي ميزان حرارة الجريمة وصمام أمان محاربتها, ففي كل دائرة قضائية يمكن لكل مسؤول قضائي مقتدر, أن يحيط في شكل تقرير مفصل أو مداخلة موجزة, بكل جوانب الجريمة وأنواعها وأسباب ارتكابها في دائرة نفوذه, مبديا في نفس الوقت مقترحات فعالة, للقضاء على هذه الظاهرة الإجرامية أو هذا الانحراف الذي لم يرق بعد لدرجة التجريم, ولكن هل كل المسؤولين القضائيين بالكفاءة والامتهانية المقتدرة, لإعطاء هذا التصور وهذه الحلول الناجعة, ليرتقي القضاء من مهمة المعالجة إلى مهمة الوقاية الاستباقية؟
هل القضاء يتمتع بالاستقلالية الكاملة والحقيقية؟
ليتمكن من التحرك والمبادرة والعمل الناجع بشكل يجعل رقيبه الوحيد هو, ضميره المهني وأخلاقياته المتشبعة من روح عقيدته, ووطنيته المستقاة من أرض بلده, ووظيفته الممتدة من تفويض ملكه, وسلطته التي هي عنوان الدمقراطية, لكن الواقع وللأسف يبدي معالم تبعية ضاربة في العمق, يستشعرها القاضي منذ انخراطه بالسلك القضائي, فبالرجوع للنظام الأساسي لرجال القضاء الصادر بتاريخ 11/ 11/1974 نجده ينص في الفصل السادس على أن الملحقين القضائيين يعينون بقرار لوزير العدل, ويعفون بقرار لوزير العدل وتصدر في حقهم عقوبات من طرف لجنة يرأسها وزير العدل طبقا للفصل السابع والعاشر, وينص الفصل الخامس عشر, على أن القاضي لا يمكن له أن يذكر صفته القضائية في أي مؤلف أدبي أو علمي أو فني إلا بإذن لوزير العدل, ويحدد بنص تنظيمي صادر عن الوزير الأول الحد الأدنى للأموال الواجب التصريح بها طبقا للفصل السادس عشر, والذي لم يصدر إلا بتاريخ 11/2/2010, وتفتحص لجنة يرأسها وزير العدل تطور التصريح بالممتلكات, كما يكلف وزير العدل بتتبع ثروة القضاة وترفع إليه تقارير المفتشين بهذا الشأن طبقا للفصل السابع عشر, وطبقا للفصل الواحد والعشرون يرخص وزير العدل استثناء للقاضي بالإقامة خارج الدائرة القضائية, وطبقا للفصل 23 فهو من يهيئ ويحصر لائحة الأهلية, كما يرقى القضاة العاملين بوزارة العدل باقتراح منه طبقا للفصل 26, وطبقا للفصل 30 يحق لوزير العدل وحده الحق في تجزيئ الرخصة الإدارية للقاضي من عدمها, وإذا استفاد القاضي من رخصة مرضية يحق لوزير العدل إجراء كل مراقبة ضرورية طبقا للفصل 32, وطبقا للفصل 43 ترفع نشرات القضاة الملحقين لوزير العدل, وطبقا للفصل 56 يوضع قضاة النيابة العامة تحث سلطة وزير العدل ومراقبة وتسيير رؤسائهم الأعليين, يتم نقلهم بظهير باقتراح من وزير العدل, وطبقا للفصل 57 يمكن له أن ينتدب بقرار عند الحاجة قضاة لملء فراغ في قضاء الحكم التحقيق أو النيابة العامة, وطبقا للفصل 60 تصدر العقوبات من الدرجة الأولى بقرار لوزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى, وطبقا للفصل 61 ينهي وزير العدل للمجلس الأعلى الأفعال المنسوبة للقاضي ويعين له مقررا, وطبقا للفصل 62 يوقف القاضي عن مزاولة مهامه بقرار لوزير العدل إذا توبع جنائيا أو ارتكب خطأ كبيرا, وطبقا للفصل 70 يمارس مهام كتابة المجلس قاض يعين بظهير باقتراح من وزير العدل, وإذا عاقه مانع ناب عنه قاض من الوزارة باقتراح من وزير العدل كذلك.
فمن هنا يبدأ هذا القاضي مساره المهني وهو يرى في وزير العدل الجهة المتحكمة في مستقبله, من بداية مشواره المهني إلى حين تقاعده أو عزله أو وفاته, علما أنه قاض وكان من الأجدر أن يكون مصيره مرتبط بالسلطة القضائية لا بالسلطة التنفيذية.
فأي استقلال نريد للقضاء اليوم؟ هل الاستقلال المادي - أم المعنوي - أم الوظيفي ? أم الاستقلال التام الذي يرقى به لما هو أحدث لأجله؟
ذ/ عبد العالي المصباحي
المحامي العام بمحكمة النقض
عضو برابطة قضاة المغرب
5


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.