لنا أن نفكر مثل الموتى، لا مثل الشهداء. لنحاول ..أن نفكر هكذا لكي نستريح من حسابات السياسة والاستراتجية، نحتمي ببرودة التراب في قضية »منى»..ولا نستقبل أية عاصمة لكي تكون طهران قبلة أو تكون استوكهولم. فنحن عندما نموت بطريقة الموت في »منى«.. لا أعتقد أننا نغضب لأننا في القبر، بل لعلنا ننزعج أكثر من الأصوات التي تعلو .. خارجه! الأحياء| هم الذين يزعجوننا في موتنا.. من قبيلي الدعاة والمشايخ الذين يتفننون في تدبيج اللاهوت في شؤون الناسوت، أو في تبرير الموت على مشارف مكة! الداعية السعودي الذي قال لنا بأنه ليس علينا أن نشكو خادم الحرمين لأنه فتح باب الموت لنا لكي ندخل الجنة من الجمرات، لا يحب الملك السعودي أولا. فقد وضعه في مرمي التسديد العاطفي الذي يغيب العقل ويحضر الفاجعة. ثم هو لا يحب الموتى الذين ماتوا جماعات في حادث منى المأساوي.. لأن هناك من يريد أن يثبت أن الغموض هو حليف القدر، وأن المسؤولية هي ما بقي لنا من ترتيبات القضاء ، الذي يلفه الإيمان أكثر مما يلفه العقل، تلك الأداة المغتالة في كل شؤون الحياة الاسلامية فبالاحرى في شؤون الممات.. الذين قرأوا مسرحية الكبير غسان كنفاني «جسر إلي الأبد ». سيتذكرون ولا شك حديث الشاب والشابة التي حرمته من الانتحار: تبدأ المسرحية بصوت مفاجئ لبوق سيارة مع زعيق عجلات مكبوحة مرفقة بعد هنيهة بصوت عصبي لفتاة تصيح بنوع من التحذير الخائف.. » صوت الفتاة: أنت، أيها الغبي .. تحرك من أمام السيارة! صوت الشاب: (بهدوء كأن الأمر لا يعنيه)هدئي من روعك أيتها الآنسة..أنا بخير.. الشابة: إن كل شيء مرتب بدقة، لقد صدمتني سيارتك لتعطل على المضي في فكرة الانتحار، أنت ترين: أن القدر يريدني أن أموت في وقت آخر وها أنت جئت لتحققي إرادته من حيث لا تدرين«... في مسرحية اللاهوت الفسطيني لا يبدو الشاب منزعجا من الموت، بل منزعجا من السيارة، كما حدث للموتى في »منى« من سيارات الدفع الرباعية وهي تقود أمير سلطة إلى الجمرات وتقود الناس إلى حتفهم.. لا شك عندي، أن الشعب السعودي آلمه الحدث مثلنا أو أكثر، ولا شك عندي أن الذين يتحملون المسؤولية في الحادث لا بد من أن ينالوا ما تستوجبه ممارسة السلطة ، وما خلفته من موت فاجع، لكن ما لدي فيه شك هو صدق الذين يقولون أن الموتى ماتوا شهداء بإرادة الله.. لماذا لا يموت الآخرون شهداء لمذا لا يموت الحكام والأمراء والوزراء وسادة المعبد وسدنته؟ إنها ليست حادثة .. ولأن القدر لا يستعين برافعة لكي يرفع الأرواح إلى بارئها.. ليسكت الأحياء من الذين يرون في حادثة منى خطة الله لإسعاد الموتى.. ليسكتوا حتى نسمع نشيج الثكالى والأرامل والأيتام.. ليسكتوا قليلا، وليتحدث العلماء بلا وجل ولا خوف من التجديف في الذات الإلهية (سبحانك عم يصفون).. فكل منا يريد أن يكون هو المعني بدعوة ابراهيم (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) سورة ابراهيم الاية 37.. فكل منا يريد أن يموت، في مكان شريف ويريده طوعيا وبسلام آمنين، وعلى الدعاة أن يكفوا عن مجاراة المسؤولين في هروبهم من المسؤولية وإلقائها على عاتق الخالق القدير.. لكن لنتفكر في الأمر قليلا: فكم من واحد يموت في استشهاد انتحاري ويزكي على المؤمنين وعلى الله نفسه، بأنه يموت شهيدا وهويفجر مقهى أو فندقا أو مسجدا.. في البيضاء أو في بغداد. ونحن عندما نستبشر بوفاة أليمة كما حدث في منى فإنما نوقظ الانتحاري فينا:لا فرق بين من يشكر الله على موت جماعي وبين من يشكره لأنه سخره في تفجير الكافرين..! هي داعشية واحدة، بعضها مستتثر وبعضها ظاهر ويعلن عن نفسه! ولنكف عن هذه البشارة وإلا فإننا نعتبر القتل .. هو التعجيل بشهادة القتيل! عندما يقتل الواحد منا واحدا يكون مجرما.. وعندما يقتل جماعة من الحجاج يصبح مرسول العناية الالهية ، والدليل السياحي للذاهبين إلى الفردوس ولعله الاسم الحركي للقدر الإلهي الجميل.. وللذين يحبون أن يجعلوا من الموت شهادة، نسألهم: لماذا لا يموت الذين يشرفون على الكعبة من زمان بعيد، ألا يحبون الشهادة أم لا يحبون الزحام؟ لماذا لم يمت صحابي واحد في الجمرات؟ لن نكره المملكة على خطأ كهذا وسنعمل من أجل أن نزور المقام الشريف وندق الأبواب لتغيير الصدفة أو القرعة لكي يذهب من نحبهم إلى التراب السعودي الطاهر.. وسنجعل الفؤاد يهوي صريعا اليه إلى الحج.. ونتمنى أن نموت بين أحضان النبي.. بدون موكب أميري ولا رافعة.. ولن نقاطع الحج .. حتى ولو كان الموت ببيت الله لمن استطاع اليه سبيلا قدرنا، لكن لنمت فرادى وبين أحضان النبي.. وبلا دعاة ولا فقهاء يضاعفون الفاجعة. لتترك طهران أبناءها يموتون كما يجب، ولتوقف الاستراتيجية، لا تخلط بين الموتى وبين توازن القوى، لأن الذين ماتوا سيسألون المسؤولين بالسياسة لا بالعقيدة. لتذهب السعودية بعيدا في المحاسبة.. لتربت على قلبها بقرارات حاسمة، حتي يكون البلد كما شاءته سورة ابراهيم..آمنا أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِ! ولتتحدث الدولة المغربية لغة غير لغة نشرات الأخبار الجافة، لتنس طهران وتتحدث عن أبنائها بالواضح الصريح.. لتطالب بتعميق التحقيق، لا شك أن السعودية فتحته لينام المتوفون نوما يليق بمن حج مقام الله سبحانه. لنا أن نفكر مثل الموتى ، لا مثل الشهداء. وليفكر المسؤولون كمسوؤلين سياسيين وإداريين لا كمبعوثين من القدر لتسهيل الشهادة على الحجاج..! ليتكلم العلماء بدون تأويل نوايا الله عز وجل.. وهي فرصة ، لعلها فرصة أليمة لكي يتجدد العقل الديني ويترك الغيب للغيب ويحدث الناس عن موت معروف سببه ..!