إن الفرنسي المزور هو مبعث قلقها واضطرابها، وسبب عودتها إلى التدخين، وهو الذي نبهها إلى أن الناس «كلهم مقابر متحركة» أي مملوءون بالحكايات، والقلة القليلة منهم تستطيع إبرازها، والغالبية العظمى تجعلها دفينة في أحشائها، تبتلعها بأحزانها وآلامها كما يبتلع المدخن دخان سجائره بلذة أو بدون لذة، وهو يعلم أنه يحرق أحشاءه، ويسد أوردته. ويعلم أنه الطريق للانتحار، ويستمر في المتعة كما دخانه في السماء يعلو ويعلو حتى يتوارى عن بصره. هكذا توارى عبد العاطي عن وطنه، وهكذا توارى زوج حسناء عنها، فيزداد التوتر وتتصاعد الانفعالات ويشتد المشهد الدرامي، فتلعن حسناء هذا الفرنسي المزور لشكها في أنه مثل زوجها صورة بصورة وحال بحال. تقول: «كلكم متشابهون! سحقا لكم» وبعد هدوء هذا الإعصار الدرامي الذي عاشته، عادت لتتساءل:» ترى هل نفي الفرنسي المزور اختياري أم إجباري ؟» وهنا، يأخذ منحنى الصراع شكلا آخر غير الذي سعت إليه حيث أسقطت حال هذا على حال زوجها الذي أرسل لها قسيمة الطلاق. سيتجذَّر هذا المنحنى تجذر مرض السرطان في الأطفال الأبرياء، تجذر همِّ الوطن، والدعوة إلى التغيير لدي الرفقاء من طلبة الجامعة. البنت المغربية والاسم المغربي بعثا فيّ قلقا وألما- كما يقول عبد العاطي- ، إذ بات يتقلب على الجمر. فالبنت المغربية ذكرته بالوطن والأهل والرفقاء، فأحيت مواجعه، وتغيير الاسم وخزة في الضمير وطعنة في القلب، فكيف له أن يغير اسمه من أجل الجنسية؟ من السهل تغيير المواقع والتنقل من وطن إلى وطن؛ لكن أن ينسى الوطن والرفقاء ونضالهم، وأن يغير اسمه، فذلك موت وهو حي، والموت أهون من حي ميت، لا أهل ولا رفاق ولا وطن. وهنا، يشتد الصراع الدرامي. فما عاشته حسناء من تساؤل وشك وريبة وصراع وقلق، هاهو يتجلى على البطل عبد العاطي بدءا من تغيير اسمه إلى البحث عن العمل وعن أي وظيفة مهما كان نوعها ولو غسل الصحون الذي يرى فيه رأي «لينين»: بأنه يبلد الفكر ويسبب التخلف. «يا لسخرية القدر! من كان يصدق أن ما ترفع عنه في بلاد القمع والديكتاتورية يضطر لفعله في بلاد الحرية والديموقراطية؟» ص34.هنا، يبلغ الصراع الدرامي ذروته وهو يخاطب نفسه: هل سأعامل معاملة الفرنسي، وأنا أحمل اسما عربيا؟ فيستعيد صيحة قيم المزرعة «hé ! bougnoule !» فتزداد تشققات قلبه، ولا يرضى لنفسه الهوان فيقاومه مقاومة محارب لا يرضى الهوان والخنوع، إلا أنه خارج وطنه وخارج عشيرته، لا أهل ولا خلان يدفعون عنه الظلم، ولولا زملاءه الأفارقة الذين خلصوه من قبضة القيم ومساعده لقضيا عليه وانتهت الحكاية، وما كان الناجون رواية نقرأها ونستلذ بحكيها، ونستمتع بقلقها. اللافت أن البطل حين يقف أمام العوائق ومختلف الحواجز، يتأزم ويشتد الصراع النفسي، وتستيقظ النفس اللوامة وتبدأ في إمطاره بعدة أسئلة تجعل منحنى اللوم والعتاب يبلغ الذروة إلى حد الندم، ثم يعود معاتبا نفسه بطريقة جدلية تستحوذ على المتلقي ليتابع وضع البطل وما سيؤول إليه، وهل سيغير من طبعه ومن موقفه النضالي؟ أم سيهزم أمام الآلة الجهنمية للنظام الديكتاتوري؟ هذا ما سيفصح عنه في الفصل الأخير من الرواية. في هذا الفصل أيضا، طرح موضوعي للنقد والنقد الذاتي للتنظيم، وأفراد التنظيم من الرفقاء النخبويين، وهو نقد موضوعي يصب في خانة التغيير وبناء جيل ديموقراطي يؤمن بالحرية والرأي الآخر. البطل لم يتنازل عن اسمه وهويته رغم حصوله على الجنسية الفرنسية، إلا أنه بقي مغربيا جنوبيا. وفي نهاية الفصل الأخير من الرواية، تحدث المفاجأة، إذ يلتقي برفيقته في النضال ومحبوبته سابقا، فجأة، ودون سابق إنذار، وبلا علم منه أو منها في بيتها رفقة زوجها وأبنائها في عيد ميلادها الستين، وهو نوع من التصالح مع النفس ومع الآخرين. وهذا طرح إشكالي جديد في الرواية العربية، بل وفي العلاقات الاجتماعية العربية التي لا تعترف بأصدقاء أو رفقاء أو زملاء البنت، إذ لا يحق للبنت بعد الزواج أن تتصل ولو بصديقاتها أيام المدرسة والجامعة، إنها ثورة المعلوماتية وثورة: العالم قرية، فكل شيء قابل للسقوط أمام النقال ومختلف وسائط التواصل الاجتماعي، فلماذا لا يتم التصالح مع الماضي والاعتراف بما هو كائن؟ مادام أنه جزء من تاريخ المرء. فالدكتور خليل زوج البطلة «سامية» في رواية «الناجون» يعرف كل شيء عنها، لا لكونه طبيبا نفسانيا ولكن، لكونه رفيقا في النضال يؤمن بالحرية والعدالة، ومثقفا أيضا، ومعاصرا لهذا العصر، وكونها أيضا، مثقفة أسرت لزوجها خليل بكل شيء دون نفاق أو رياء، هكذا تقتضي العدالة، وهكذا يكون من ينشد العدالة ويدافع عنها. إذا كان الفصل الثاني من الرواية قوامه التراسل، حيث أبانت المبدعة أنها على قدر عال من الجودة في كتابة الرسائل والمذكرات، ولا شك أنها تبدع حين تكتب برومنسية، فلغتها تغري وتوقظ العواطف المخبأة، وتحرك الوجدان الناعس، وتثير الانفعال الخامل بكل ما في الرومانسية من حنية وهيام، إلا أن الأيديولوجيا تأسرها وتقيد عواطفها، ولا تمنح لها الفرصة لإفراز ما بداخلها من حنية وحب وعاطفة، وذلك يعود لالتزامها بقضية التغيير والعدالة الاجتماعية ولموقفها من الراهن المتعفن إن على المستوى الداخلي وما تقوم به أحزاب المعارضة وأحزاب الموالاة، أو على المستوى الخارجي وما تتعرض له الإنسانية جمعاء من قهر وذل واعتداء وسرقة للثروات. وفي الفصل الثالث ارتفع منحنى الكتابة إلى الذروة لغة وانفعالا، وذلك بفضل الصراع الدرامي الذي احتوى عليه هذا الفصل وما فيه من أحداث وتحولات وألم في بعض الأحيان، وحجاج في مواقف عدة لمختلف الشخصيات، وما يثيره الاسترجاع من مرارة التذكر والحرمان من الحرية أو القسوة من قبل السلطة الفعلية أو السلطة الأبوية. في هذا الفصل بالذات، تأسرك الكاتبة بأمومتها وبلغة الحوار الذي تمارسه مع أبنائها وبالمفارقة التي تحدثها في حوارها مع أبنائها (ص 342) حيث أبانت الكاتبة عن أمومة كبيرة لم ألمسها في قراءاتي المتواضعة وعن تربية مثالية للأبناء. أكملت الأديبة دورة روايتها بجمع لم الشمل وبتسامح كبير بين شخوص الرواية وحققت قفزة في الجمع بين الأضداد، أقصد الجمع بين خليل وعبد العاطي، وأعادت المياه إلى مجاريها بين المتخاصمين راضية وزوجها، وفتحت نافذة صوب الجنوب الفاقد للتنمية والتوعية. الرواية مفعمة بالأفكار وبمختلف السياقات وما هذه إلا انطباعات لقارئ غير متمرس في السرد، لكنه معجب بكتابة تثير فاعلية المجتمع مهما كان انتماء مبدعها. * كاتب جزائري، مدير مختبر كلية الآداب واللغات، قسم الآداب واللغة العربية، جامعة بسكرة، الجزائر.