أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. في سنة 1960 أنشأ المركز بيتا للنقاهة والاستراحة خاصا بالكبار ودارا للأطفال ظلت موجودة حتى عام 1974. كذلك تم إنشاء مركز للتنظيم القروي يساعد المنخرطين فيه على الإعداد للتبادلات الزراعية ومدرسة لإعداد معلمي التعليم القروي. كما افتتحت مدرسة للمعلمين المربين المكلفين بالإشراف على الطفولة المعوقة استمرت تعمل إلى سنة 1977. وفي سنة 1988 وبعد أن قامت بمنجزات عظيمة على مستوى المنطقة، قررت المجموعة المالكة أن تسند إدارة شؤون رابطة بيار مونيستييه وممتلكاتها وموجوداتها ونشاطاتها ومستقبلها إلى مركز للمبادلات الدولية، الذي كان أنشئ عام 1947 حسب قانون الروابط والجمعيات 1901 بهدف غير تجاري. ومنذ ذلك التاريخ رسمت الهيئة المسيرة خطة ترمي إلى تأكيد الرسالة الجهوية للمركز، وفي نفس الوقت إعطائه بعدا وطنيا ودوليا. وهكذا أصبح الموضع يحمل اسم مركز بيار مونيستييه الدولي للإقامات واللقاءات، وأصبح يستقبل على امتداد العام فصولا مدرسية لاكتشاف الطبيعة، وندوات وفترات تدريب وينظم أياما سياحية ثقافية وأياما للعطل. لعل القارئ الذي صبر معي على قراءة هذا الاستطراد الطويل لابد أن يطرح السؤال الآتي : لماذا هذا الإطناب في الحديث عن مكان المؤتمر. لقد أردت بكل بساطة أن أجعل منه مدخلا لتبديد جملة من الأوهام والأكاذيب حول علاقة فرنسا بالحركة الثقافية الأمازيغية عموما ودورها في عقد هذا المؤتمر بالخصوص. إنني أسرد هذه التفاصيل وأرجئ تفاصيل أخرى في نفس السياق إلى مكان آخر من هذه الرسالة. إلى ذلك الموقع الجبلي الذي يبعد عن باريس بنحو 700 كيلومتر بالجنوب الغربي حضر إليه نحو مئة شخص يمثلون حوالي أربعين جمعية ورابطة أمازيغية من المغربين الأوسط والأقصى [أي الجزائر والمغرب] ومن ليبيا ومالي والنيجر وموريتانيا وكناريا والشتات الأمازيغي بأوربا وأمريكا وكندا. وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نشأت فكرة هذا المؤتمر؟ والحديث عن العمل الأمازيغي الذي توج بهذا المؤتمر يعني في المقام الأول الكلام عن الهيئات والروابط الناشطة بالمغربين الأقصى والأوسط. وتتوفر الآن مجموعة من النصوص حول هذا الموضوع سوف نتوقف بالخصوص عند الشق المغربي منها لأنه هو موضوع هذه الرسالة. في كتيب (80 صفحة) نشرته الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي (عام 1993) بعنوان : «ربع قرن من العمل الثقافي الأمازيغي»، نقرأ مقالا عن هذه النقطة للأستاذ ابراهيم أخياط يعرف فيه بتلك الهيئة. أسست الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي من طرف مجموعة من الطلبة الواعين بالوضعية الثقافية واللغوية للإنسان المغربي بصفة عامة وبوضعية الأمازيغية التي تعاني من التهميش والدونية بصفة خاصة حيث كانت توصف بالفلكلور وأحيانا بالأهازيج وبغير ذلك من الأوصاف التحقيرية. «وقد بدأت هذه المجموعة الطلابية قبل التأسيس الفعلي للجمعية بالتطوع لمحاربة الأمية في صفوف العمال والتجار الصغار طيلة ثلاث سنوات قبل تاريخ عقد الجمع التأسيسي بتاريخ 10 نونبر 1967 وعيا منها بأن أساس هذا المشكل المعاش من طرف اللغة والثقافة الأمازيغية يكمن في ضعف المستوى الثقافي وكذا تخلف الوعي بالذات عند الإنسان الأمازيغي نتيجة عدة عوامل متداخلة تاريخية وذاتية، بالإضافة إلى ما يعيشه الإنسان الأمازيغي من تحولات اجتماعية وثقافية نتيجة الهجرة الداخلية والخارجية». في مكان آخر من نفس المقال يستشهد الكاتب ببنود القانون الداخلي للجمعية الذي يحدد أهدافها في خمس نقط: دعم الفكر الديمقراطي العادل الذي يضمن إبراز خصوصيتنا الوطنية الثقافية منها واللغوية. خدمة ثقافتنا ولغتنا الأمازيغيتين وذلك بالقيام بالدراسات النقدية والتقويمية. إنجاز البحوث والدراسات العلمية وتشجيع وتنمية الإنتاج الإبداعي باللغة الأمازيغية. العمل في المجال الثقافي والفكري من أجل ثقافة ديمقراطية تخدم الإنسان المغربي لتكون له وسيلة للتعبير عن همومه ومشاغله وتترجم هويته الحضارية والإنسانية [صفحة 1]. تاريخ الإعلان عن هذه الجمعية الثقافية يستحق أن نؤشر تحته بخط أحمر عريض، لأنه جاء بعد مرور سنتين ونصف على انتفاضة 23 مارس 1965 بالدارالبيضاء وحصل بعد مضي 5 أشهر على هزيمة صيف 1967 بالمشرق العربي. ونحن نذكر أن هذين الحدثين التاريخيين، أي الحدث الوطني والحدث القومي، كان لهما أثر عميق جدا لدى الشعب المغربي عموما ولدى نخبته المثقفة خصوصا. فإذا أضفنا إلى ذلك أن «الطلبة الواعين» الذين يتحدث عنهم الأستاذ إبراهيم أخياط في مقاله كانوا ينتمون إلى منظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، التي كانت تشكل آنذاك فصيلا متقدما من الحركة الوطنية الديمقراطية فإنه يكون من حقنا المشروع تماما أن نتساءل عن أثر الصدمتين المغربية والمشرقية في اتخاذ ذلك القرار الرامي إلى بعث الثقافة الأمازيغية. إن أوقات الأزمات والمحن هي التي تدفع النخبة عادة إلى إعادة النظر في كثير من المسلمات والبديهيات . إذا أردنا أن نلتمس رد فعل معاصر في المغرب الأوسط [الجزائر] لإنشاء الجمعية الثقافية الأمازيغية المغربية، فإننا سوف نجده بسهولة، ونلاحظ في ذات الوقت أنه يختلف أشد الاختلاف عما حدث بالرباط وأمامنا نص تاريخي كتبه عالم النفس الجزائري الدكتور خالد بن ميلود [جريدة النصر، عدد 11 يونيو 1967] يقول فيه ما معناه : «لقد حسمت الجماهير الجزائرية بردود فعلها أمام هزيمة العرب في المشرق الجدل الدائر حول هوية البلاد. كان النقاش الجاري يدور حول احتمالات عديدة : الجزائر بلد أفريقي أو بلد متوسطي أو بلد عربي إسلامي، أو بلد عربي أمازيغي. وكانت الجزائر، قبل مظاهرات التضامن مع المشرق تشبه قلبا كان ينبض داخل أنبوب اصطناعي، أما بعد تلك المظاهرات فقد انزرع القلب فجأة داخل جسمه الطبيعي وأخذ ينبض بإيقاعه الطبيعي أيضا». بعبارة أخرى، نجد أن «العودة إلى الذات الأمازيغية» في المغرب، عاصرتها في الجزائر «عودة إلى الذات العربية» ... لا نريد أن نُخْلِص من هذه المقارنة السريعة إلى إصدار أحكام قطعية نهائية، وإنما نريد فقط أن نذكر بالمناخ الفكري العام الذي كان سائدا يوميا في المغربين الأوسط والأقصى. وربما سنحت الفرصة، في مناسبة أخرى لإجراء مقارنة أعمق بين مسيرة الحركتين الأمازيغيتين، لكننا نستطيع منذ الآن أن نلاحظ طغيان الطابع السياسي في الجزائر وهيمنة الطابع الثقافي في المغرب. لابد أن ننتظر بداية حقبة الثمانينيات لنلمس بوضوح تزامنا آخر في تطور الحركتين الأمازيغيتين يؤكد الملاحظة السابقة: أي طغيان العامل السياسي بالجزائر وهيمنة العنصر الثقافي بالمغرب. في فصل ربيع 1980، مثلا خرجت الحركة الأمازيغية الجزائرية من حقل الثقافة النظرية إلى معترك السياسة، بدأت الأحداث حين منعت سلطات مدينة تيزي وزو، عاصمة منطقة القبائل [الواقعة على مسافة 100 كيلومتر شرقي العاصمة]، الأديب الكبير مولود معمري من إلقاء محاضرة عن الثقافة الأمازيغية في مدرج الجامعة. وسرعان ما تطورت الوضعية إلى مواجهة عنيفة بين الطلاب والأساتذة من جهة، وسلطات الولاية والدرك والأمن والجيش من جهة أخرى. وأسفرت تلك الأحداث عن سلسلة من الاعتقالات والمحاكمات وأصبح الحدث معروفا في حوليات السياسة الجزائرية «بالربيع البربري». في صيف ذلك العام نفسه (1980)، عقدت الجامعة الصيفية بأكادير أول دورة لها في جو هادئ، واستمع المشاركون فيها إلى سلسلة من المحاضرات حول الثقافة الأمازيغية، وكانت تلك التظاهرة بمثابة البداية العلنية للنشاط الثقافي الأمازيغي على نطاق واسع. وإذا كانت أحداث ربيع 1980 في تيزي وزو ودورة الجامعة الصيفية بأكادير ستسمح لنا بمشاهدة وقائع النشاط العملي في البلدين، فإنه لا تتوفر لدينا شهادات ولا نصوص مكتوبة عن وجود اتصال منظم بين العناصر المحركة لهذه الأحداث. وفي حوار أجريناه على هامش المؤتمر الأمازيغي العالمي مع الأساتذة الحسين وعزي [أستاذ بكلية الحقوق بالرباط] ومحمد حنداين [أستاذ بجامعة أكادير] وعبد العزيز بوراس [مفتش التعليم] استمعنا إلى شرح مفصل عن العلاقة بين الحركتين الجزائرية والمغربية. فقد ذكر الأستاذ عبد العزيز بوراس أن فكرة التعاون والتنسيق بين المغارب، وعلى الأخص المغربين الأقصى والأوسط، ليست جديدة. إن هناك سوابق تاريخية كثيرة يضيق المجال عن سردها. لكننا نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر التنسيق الذي تم بين المغاربة والجزائريين خلال حقبتي العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن في نطاق منظمة نجم شمال إفريقيا بفرنسا، ونذكر أيضا منظمة الاتحاد العام لطلبة شمال أفريقيا المسلمين، ونذكر مكتب تحرير المغرب العربي في القاهرة بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي، وانتفاضة شهر دجنبر 1952 في الدارالبيضاء تضامنا مع تونس، ومشروع تكوين قيادة مشتركة لجيش التحرير في البلدين خلال منتصف حقبة الخمسينيات وانتفاضة 20 غشت 1955 في الأطلسين : الأطلس الأوسط المغربي والأطلس الشمالي الجزائري، ومؤتمر طنجة سنة 1958.