عجز الميزانية المغربية يفوق 1,18 مليار درهم عند متم أبريل    الإعلان عن موعد مقابلتين للمنتخب المغربي برسم التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    العثور على باندا عملاقة نادرة في شمال غرب الصين    إسطنبول.. اعتقال أمين متحف أمريكي بتهمة تهريب عينات مهمة من العقارب والعناكب    كيف بدأت حملة "مقاطعة المشاهير" التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي؟    بنموسى يكشف العقوبات ضد الأساتذة الموقوفين    قناة أرضية تعلن نقلها مباراة الإياب بين بركان والزمالك    اتفاقية مع "عملاق أمريكي" لتشغيل 1000 مهندس وباحث دكتوراه مغربي    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    بنموسى يعلن قرب إطلاق منصة رقمية لتعلم الأمازيغية عن بعد    أمل تيزنيت يكتفي بالتعادل خارج ميدانه أمام إتحاد سيدي قاسم    طقس الثلاثاء..عودة الأمطار بعدد مناطق المملكة    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    مخرج مصري يتسبب في فوضى بالمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة    الصحافة الإسبانية تتغنى بموهبة إبراهيم دياز    ميراوي محذرا طلبة الطب: سيناريو 2019 لن يتكرر.. وإذا استمرت المقاطعة سنعتمد حلولا بخسائر فادحة    القوات المسلحة الملكية.. 68 عاماً من الالتزام الوطني والقومي والأممي    انقلاب سيارة يخلف إصابات على طريق بني بوعياش في الحسيمة    "إسكوبار الصحراء".. هذه تفاصيل مثول لطيفة رأفت أمام محكمة الاستئناف بالبيضاء    وزير التربية متمسك بالمضي في "تطبيق القانون" بحق الأساتذة الموقوفين    المكتب المديري لأولمبيك آسفي يرفض استقالة الحيداوي    الأمثال العامية بتطوان... (597)    جماهري يكتب: هذه الحكومة لا بد لها من درس في الليبرالية...!    جائزة أحسن لاعب إفريقي في "الليغ 1" تعاكس المغاربة    تنظيم الدورة ال23 لجائزة الحسن الثاني لفنون الفروسية التقليدية "التبوريدة"    اليابان عازمة على مواصلة العمل من أجل تعاون "أوثق" مع المغرب    الجمعية المهنية تكشف عدد مبيعات الإسمنت خلال أبريل    أمن ميناء طنجة يحبط تهريب الآلاف من الأقراص الطبية    الاتحاد الأوروبي يرضخ لمطالب المزارعين ويقر تعديلات على السياسة الفلاحية المشتركة    المركز الثقافي بتطوان يستضيف عرض مسرحية "أنا مرا"    أضواء قطبية ساحرة تلون السماء لليوم الثالث بعد عاصفة شمسية تضرب الأرض    النيابة العامة التونسية تمدد التحفظ على إعلاميَين بارزَين والمحامون يضربون    أوكرانيا تقر بالنجاح التكتيكي لروسيا    المندوبية العامة لإدارة السجون تنفي وجود تجاوزات بالسجن المحلي "تولال 2" بمكناس    طقس الثلاثاء.. عودة التساقطات المطرية بعدد من الأقاليم    رشيد الطالبي العلمي في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    شح الوقود يهدد خدمات الصحة بغزة    الطلب والدولار يخفضان أسعار النفط    الزمالك يشهر ورقة المعاملة بالمثل في وجه بركان    سي مهدي يثور في وجه بنسعيد    إضراب وطني يفرغ المستشفيات من الأطباء والممرضين.. والنقابات تدعو لإنزال وطني    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الارتفاع يطبع تداولات بورصة الدار البيضاء    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    هل انفصلت فاطمة الزهراء لحرش عن زوجها؟    مصر تُهدد بإنهاء "كامب ديفيد" إذا لم تنسحب إسرائيل من رفح    الأساطير التي نحيا بها    تراجع صرف الدولار واليورو بموسكو    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    الأمثال العامية بتطوان... (596)    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض مني أمّي وعاشقة أبي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 06 - 2012

حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ .
عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله .
من الشخصيات المحورية في ليل خيمتنا كانت أمّي ، وهي امرأة أقرب إلى السمرة فارعة الطول رسمت النكبة ملامحها على وجهها ، تختزن في داخلها بحرا من الحب والحنان ، ولكن قسوة الحياة وشظف العيش فرضا أن يكتسي وجهها وسلوكها جدّية وصلابة متناهيتين . في تلك الأيام حيث كان اللاجيء الفلسطيني يجاهد كيلا يموت حزنا أو جوعا ، لم يكن يظهر من حنانها سوى قلقها عندما يتأخر أحد أبنائها خارج الخيمة في المساء وخوفها عليه من الآفات ، فتصيح في وجهه وتؤنّبه وتأمره بالأكل مع أخوته ثم تأمرهم جميعا بالنوم ، وتحرص على أن تسوّي بنفسها البطانية التي يفترشها كل أثنين والبطانية التي يتغطّيان بها ، وتبقى غالبية ليلها يقظة لتراقب أبناءها أثناء نومهم لتعيد رؤوسهم عندما تميل عن المخدة وتغطيهم عندما تنحسر عنهم البطانية .
ماذا عساها أن تفعل مع تسعة من البنين والبنات ، لا يفصل أحدهم عن الآخر سوى سنتين تزيد أو تنقص شهورا ، ووالدهم رجل تعوّدته سجون النظام الأردني والبطالة القسرية ، لأنه رجل مباديء مبتلى بالعمل السياسي النضالي منذ مطلع شبابه ، ولا يمتلك بنية جسدية تحتمل العمل العضلي . كان على عاتقها أن تسهم بدورها في مواجهة ضيق ذات اليد ، حينا بتربية الدجاج والأرانب وزراعة بعض الخضار في البضعة أمتار الملحقة بالبيت ، وحينا بالخروج للحقول القريبة لجمع البقول البريّة وتحويلها إلى وجبات ، وحينا بإعادة تفصيل ملابس الأبناء والبنات الكبار لتصبح على مقاس ألأصغر منهم . وفي كل الأحيان تصدر لنا الأوامر بان لا نمارس ألعابا قد ينتج عنها تمزيق الملابس وإهتراء الأحذية ، وخاصة الأحذية التي يجب أن لا تستعمل إلا عند الذهاب إلى المدرسة ، مع العلم أننا لم نلبس الأحذية المطاطية أو البلاستيكية إلا في أواخر المرحلة الإبتدائية .
كانت إلى جانب كل ذلك تقول : الفقر ليس عيبا بينما الوسخ عيب ، فحتى لو كانت ملابسك بسيطة أو مرقّعّة فيجب أن يكون جسمك وملابسك نظيفة ، ووفقا لهذه القاعدة كان تلاميذ المرحلة الإبتدائية يحلقون شعرهم على الصفر، وكانت الاونروا تقوم بين الحين والآخر برشّ البيوت وحتى التلاميذ بمسحوق ( د . د . ت ) . وأذكر أن امي كانت تأمرنا عندما نجد قطعة من الخبز مرميّة على الأرض أن نأخذها ونضعها في مكان عال لأنها ( نعمة ربي ) ، وكانت تمنعنا من الأكل وقوفا لأن الواقف لا يشبع ، وتأمرنا أن نبدأ أكلنا بالبسملة وأن ننهيه بحمد الله . ومن ذكرياتي الضاحكة معها في هذا المجال أنني كنت وأنا صغير أكول ، فكانت تسألني بعد إنتهاء الطعام : هل شبعت ؟ وعندما أرد بحمد الله ، تقول : الحمد لله أنك شبعت .
لازلت أذكر أنني كثيرا ما تلقيت عقوبات عندما كنت أكسر بعض الأواني الزجاجية أو الفخارية لصعوبة الحصول على غيرها ، من هنا فإنني عندما كبرت وأصبحت رب أسرة ومسؤولا عن شراء الأواني ، كنت أفرح عندما أكسر آنية لعلمي بأنني لن أتلقّى أية عقوبة ، ولاأذكر أنني عاقبت أحدا من أبنائي على تكسيره أية آنية .
لقد كانت أمي إمرأة حازمة راجحة العقل كثيرا ما كانت تستشار وكثيرا ما كان يؤخذ برأيها ، وهذا أمر له دلالته الكبيرة في وسط لم يكن للمرأة فيه من دور سوى الإنجاب وخدمة الزوج والأبناء والأهل . كما أذكر أنها وهي البنت الوحيدة بين خمسة إخوة ذكور كانت تشكل مرجعا لهم جميعا وحتى من كانوا أكبر منها سنا ، وكذلك الأمر بالنسبة لأعمامي الذين كانوا كلهم أصغر سنّا منها بل وبعضهم أصغر من بعض أبنائها ، وهم متعلّمون ومسيّسون ، كثيرا ما كنت أراهم يتهامسون معها ولا أظنهم إلا كانوا يتشاورون معها وهي المرأة الأميّة .
في نفس الوقت كانت امرأة طروب لها صوت جميل مميّز ، وكثيرا ما كنت أسمع النساء يرجونها أن تغني ( بالطبع بين النساء ) في أفراح العائلة . وكانت طبّاخة ماهرة كثيرا ما كنت أسمع رجال العائلة يطلبون منها إعداد أكلات معينة ، رغم أنهم متزوجون وزوجاتهم ماهرات في الطبخ . ولا تفارق ذاكرتي كلماتها ذات مرة عندما عدت إلى البيت أبكي عندما سألني زملائي في المدرسة : لماذا أنت أشقر وأخوك عاطف أسمر ؟ ولم أعرف كيف أجيبهم ، فقالت لي : قل لهم البطن بستان ، يطرح بطاطا وطماطم وباذنجان من نفس التربة.
وكانت لا تدع مناسبة تمر دون أن تحدّثنا عن ذكاء أبي وعن رجولته وعن كونه مرجعا في كل الملمّات وأنه زعيم ومحبوب ، وكان أحدنا عندما يأتي بشهادته المدرسية في نهاية العام ويقول لها أنه نجح بتفوق ، تقول ببدهية ( طالع لأبيك ) ، وعندما لا تحصل على تقدير جيد تقول ( يا خسارة لم تحمل من أبيك عقله وذكاءه ) . ولكثرة غياب الأب عن البيت سجينا أو مسافرا كانت تقوم بدور الأب والأم معا تحاسب وتعاقب ، في حين أنني لا أذكر أن والدي ضربني مرة في حياتي ، وكنت أفضّل في بعض الأحيان أن يعاقبني على أن لا يقول لي بعض الكلمات التي كان وقعها أشدّ من الضرب .
كانت تحب أبي حتى العبادة ، فهو كان في الحقيقة ? خلقا وخلقة ? يستحق ذلك وأكثر . كنت أعرف ذلك من عينيها ، من طريقة كلامها ومن تصرفاتها معه ومن حديثها عنه في غيابه ، ومن غيرتها المكبوتة عليه والتي طالما عانت منها . ذلك أن الإفصاح عن الحب من قبل المرأة في ذلك الوقت أمر مستهجن ، زيادة على أن إنهماك المرأة في بحرالمهمات اليومية يجعلها لا تجد الوقت الكافي لإظهار هذا الحب ، وتكتفي بإظهار واجبات الإحترام والطاعة .
يؤثّث ذاكرتي في ليل خيمتنا بمخيم الفارعة ما كنت أسمعه من أمي بعدما كان يخيّل إليها بأننا نمنا ، من بكاء صامت أو أنين مكتوم ، علمت سرّه فيما بعد . حيث كانت تبكي من جهة حزنا على تبدّل الأحوال ، بين رغد وبحبوحة عيش في قريتنا أم الزينات أو في حي حوّاسة ، وبين نكد الدنيا وجحيمها في مخيم الفارعة . وكانت تبكي كذلك حزنا على فراق سيدي موسى (سيدي في الاستعمال الفلسطيني للكلمة تعني جدّي ) عمّها وزوج خالتها ، الذي بقي وأسرته في حيفا بعد رحيلنا إلى الضفة الغربية ، فتبكي حسرة على عدم تمكنها من رؤيتهم . كما أنها كانت تبكي لأننا لم نسمع كلام سيدي موسى ونصيحته بالبقاء على أرضنا مهما كلف الأمر، واخترنا النزوح خوفا مما كنا نسمعه من إعتداءات العصابات الصهيونية على أعراض النساء ، وانسياقا مع ما كان يقال لنا بأن غيابنا لن يطول سوى بضعة أيام وعلى الأكثر بضعة أسابيع ، لدرجة أن جدتي ظلت أياما منزعجة لأنها تركت دجاجاتها في الحوش دون علف .
وكان يصدمني في حينها ما سمعته من أننا لسنا وحدنا الممنوعين من العودة إلى قريتنا واستئناف حياتنا الطبيعية فيها ، بل أن سيدي موسى وأسرته ممنوعون هم أيضا من ذلك رغم حملهم للجنسية الإسرائيلية ، لأن الصهاينة استولوا على القرية وأراضيها وأحاطوها بالأسلاك الشائكة ومنعوا الاقتراب منها بوضع لوحات معدنية على سياجا تها تحمل شعار ( الجمجمة والعظمتين ) أي خطر الموت .
وأذكر أنني سمعت حكاية طريفة عن قرية وفلاح شبيهين بقريتنا وسيدي موسى ، تقول الحكاية أن هذا الفلاح ممن بقوا أثناء معارك حرب 1948 في الغابات القريبة من قريتهم ، مما يعني أنهم في الوقت الذي جرت فيه عملية الإحصاء التي اعتمدت وأعطيت على أساسها الجنسية الإسرائيلية لم يكونوا في قريتهم ، وعندما اعتقد أن الأمور استقرت ، أراد الذهاب إلى قريته وزراعة أرضه ، إلا أن الجيش الإسرائيلي منعه من ذلك بحجة أن الأرض مصادرة بموجب (قانون أملاك الغائب ) الإسرائيلي الذي اعتبر أن كل أراضي القرى التي غادرها أصحابها ولو مؤقتا إلى القرى المجاورة هي أراضي دون مالك وأنها مصادرة تعود ملكيتها للدولة الصهيونية . فرفع هذا الفلاح دعوى أمام القضاء الإسرائيلي ? مصدّقا ما كانت تردّده الدعاية الصهيونية التي تقول بأن إسرائيل دولة الحريات والحقوق . إلا أن القاضي الإسرائيلي اصد ر حكما بمنعه من استغلا ل أرضه أو حتى الاقتراب منها . فقال ذلك الفلاح مقولة ذهبت مثلا ( والله يا سيدي القاضي أن حكمك كقرن الخروب ، أسود ، وأعوج ، ومسّوس، وان حكم قراقوش أهون منه ) .
من هنا لم يكن لدى أمي وقت تقضيه في سرد الحكايات التي اعتادت الأمهات مثلها على سرده لأولادها وأحفادها . وأقصى ما كنت أسمعه منها أغاني على شكل حكايات كانت تغنّيها لأخوتي وأخواتي وهم صغار عندما كانت تهدهدهم للنوم .
آخر شخصية حكائية من عائلتنا شكلت ذاكرتي البعيدة والعميقة هو سيدي ظاهر . هذا الرجل الطويل المهيب ذو العينين الخضراوين ، والشارب الأبيض الكثّ ، والوجه الباسم دائما . هو خال جدي أبو حسن ، وهو رجل يمتاز عن كل أقرانه وحتى الكثيرين ممن هم أصغر منه سنّا من جيل جدي أبو حسن ، بأنه كان يحسن القراءة والكتابة ، ويحفظ القرآن الكريم كاملا، ويقضي معظم وقته في المخيم وهو يقرأ القرآن الكريم أو يعمل على تحفيظنا ما تيسّر منه . وقد شهد كل أهالي المخيم له بالتديّن والصلاح ، بدليل أنه توفي رحمه الله وهو ساجد على حصير الصلاة . ورغم أن أباه كان من أغنى أهالي قريتنا ، إلا أنني لم أسمعه ولو مرة واحدة يتحدّث عن أبيه وأملاكه ومواشيه .
كانت حكايات سيدي ظاهر ليست بالعربية الفصحى وإنما بعربية عامية راقية ، وكانت كل حكاية منها تشكل درسا وعظة يطلب من سامعيها الإتعّاظ بها والتعلم منها . ولكونه رجلا متعلّما إلى حد ما ومتديّنا جدا ، لم يكن يؤمن بالخرافات والأساطير وحكايات الغول والعفاريت والجن وكل ما يخالف الدين والعقل ، إذ كان يردد ما جاء في القرآن الكر يم عن الجن ( يرونكم من حيث لا ترونهم ) . وكرجل فلاح يعشق صفات الرجولة والشجاعة كان يرفض أن نسمع حكايات قد تورثنا سمات الخوف والتردد .
ولعل أهم ما ترسّخ في ذاكرتي من قصصه أنه وفي إحدى ليالي الشتاء الطويلة الباردة الماطرة في قريتنا ، افتقد إحدى عنزاته حيث لم تعد مع القطيع ، فخرج يبحث عنها قبل أن تفترسها الوحوش من ذئاب وضباع وثعالب تعجّ بها وديان وشعاب الكرمل . بعدما أرهقه التجوال بين الصخور وما رافقها من انزلاقات بسبب الأمطار ، التجأ إلى إحدى المغارات التي تكثر في جبال الكرمل ، والتي يقال أنها محفورة منذ آلاف السنين ، وتدل الحفريات التي أجريت في المنطقة أن منطقة الكرمل من أوائل المناطق التي سكنها الإنسان ، وعثرت إحدى بعثات التنقيب عن الآثارعلى هيكل عظمي أكد الباحثون أنه أقدم من ( إنسان نيا ندرتال ) وأطلق عليه اسم ( إنسان الكرمل ).
في المغارة ، غلب النعاس والدفيء سيدي ظاهر فنام ، وعندما استيقظ رأى في باب المغارة ماردا عملاقا يمتد من السماء إلى الأرض ، وعندما يحرّك رأسه تصطكّ أذناه الطويلتان جدا فتحدثان صوتا يخيّل للسامع أن الكرمل كله يهتز. وظل ينتظر انصراف هذا المارد دون جدوى ، فاتخذ قرارا في نفسه وقام بتنفيذه على الفور . أخذ العصا التي كان يتسلّح بها وأمسك بها بيديه الاثنتين وجعل منها رمحا أشهره في وضع افقي وهاجم بها المارد ، فإذا بالمارد يصدرثغاء تبيّن منه أنه هو العنزة الشاردة .
بعدها طلب من الحضور أخذ العبرة وقال لهم : تصوروا لو أنني نمت قبل أن أهاجم العنزة وصحوت فلم أجدها ، فماذا سأقول ؟ سأقول بأنني رأيت الغول بأم عيني وسأقسم على صحة ما أقول . وختم حكايته قائلا : في الحقيقة أنه ليس هناك غول ، والغول الحقيقي هو الإنسان .. مصداقا للحكمة العربية القديمة القائلة بأن المستحيلات ثلاث : الغول ، والعنقاء ، والخل الوفي . وهذا هو نفس ما سمعته بعد سنوات على لسان الحكيم الشاعر الزجّال المتصوف المغربي سيدي عبدالرحمن المجدوب حيث قال : يا مسوّلني عالغول ما كا ين غول غير بنادم .
ومن أجل أن يجعلنا نحب العمل والإنتاج روى لنا مرارا قصة الفلاح والضبع ، حيث جاء ضبع إلى أحد الفلاحين وفرض عليه أن يقاسمه غلّة أرضه . ولما سأله الفلاح : أنا سأحرث الأرض وأزرع وأجني ، وأنت ماذا ستفعل ؟ فقال له الضبع : أنا سأتكيء على سفح الجبل حتى أمنعه من الإنهيار عليك وعلى مزروعاتك . تحت عامل الخوف وافق الفلاح وقال للضبع : إختر ماذا ستأخذ ، ما فوق الأرض أو ما تحتها ؟ فقال له الضبع سآخذ ما فوق الأرض وأترك لك ما تحتها . فزرع الفلاح بطاطا ، ولما حان وقت القطاف نادى على الضبع وقال له : خذ حصتك ، فجمع ما فوق الأرض من عروق وأوراق وانصرف ، فأخذ الفلاح ثمار البطاطا . ولما رأى الضبع ما حصل قال للفلاح : في العام المقبل سآخذ أنا ما تحت الأرض ، وخذ أنت ما فوقها . فزرع الفلاح الحمص والعدس ، ولما حان وقت القطاف نادى على الضبع ليقتسما ، فأخذ الضبع يقتلع الحمص والعدس ويرميها للفلاح الذي جمعها وانصرف ، وعاد الضبع الى الأرض لينبشها ولم يجد سوى الجذور . وختم سيدي ظاهر حكايته بالحكمة التي تقول بأن لكل مجتهد نصيب ، ومن لايعمل ليس من حقه أن يطلب من الآخرين إطعامه أو إعطاءه ، إلا إذا كان عاجزا عن العمل .
من بين الشخصيات التي ساهمت في تكوين ذاكرتي وذاكرة معظم أبناء جيلي في مخيم الفارعة وخاصة من كانوا يسكنون في حارتنا , رجل متوسط القامة نحيل الجسم غائر العينين ، أشهد أنه كان يمتلك خيالا واسعا جدا يمكّنه من تصوّر أو إختلاق أحداث أو إلتقاط تفاصيل صغيرة يحوّلها إلى أحداث كبيرة بأدق تفاصيلها ، وروايتها على أنها أحداث واقعية وهو شاهد عليها ، دون أن يتلعثم أو تتداخل لديه الأحداث أو ينسى بعض التفاصيل عند إعادة سردها مرات ومرات . وأعتقد أنه لو قدّر له أن يتلقى قدرا كافيا من التعليم ، لأصبح واحدا من كتاب القصة القصيرة والرواية المرموقين . ويمكن تصنيف حكاياته بأنها ( كذب أبيض ) لا يضرّ أحدا ولا يشهّر بأحد ، وكلها تدور حول بطولات وهمية قام بها ، وتنتهي كالأفلام المصرية في تلك المرحلة ، بانتصاره كممثل للخير على الشر.
سأكتفي بإيراد حكاياتين من حكاياته مع الإعتذار لغياب بعض دقائقها . الأولى كما قال أنه عندما كان يشتغل في الخمسينات من القرن الماضي في بيروت ، وقد استطاع أن يشتري دراجة نارية من أجرته المرتفعة باعتباره يؤدي مهام لا يستطيع المهندسون أدائها . وذات يوم كان يركب دراجته ويتمشّى على شاطيء الروشة فرأى شابين يركبان سيارة فارهة يوقفان سيارتهما ويختطفان فتاة جميلة كانت تسير في الشارع ، فأبت عليه شهامته أن يغضّ الطرف عما رأى ، فانطلق وراءهم بدراجته واستمرت المطاردة عدة ساعات إلى أن توقفت سيارة المختطفين لنفاذ بنزينها ? دون أن ينفذ بنزين دراجته بالطبع .
أوقف دراجته وانقضّ على المختطفين فطرحهما أرضا وكتّفهما بربطتي عنقهما وسلّمهما لرجال الأمن الذين كانوا يقفون على نقطة الحدود السورية العراقية ، مما يعني أن المطاردة تمت عبر الأراضي اللبنانية والسورية كلها ، ولما عرف رجال الأمن بما فعله نقلوه بسيارة شحن خاصة هو والفتاة والشابين والدراجة النارية إلى لبنان ، حيث كان أهل الفتاة بانتظارهم ، فذهبوا في ما يشبه عرس إلى بيت أهل الفتاة الذي كان قصرا فخما مما يعني أنهم أغنياء جدا . وهناك عرضوا عليه الزواج بالفتاة ، إلا أنه رفض ذلك ، لكونه لا يقبل جزاء على ما يفعله .
الحكاية الثانية تقول بأنه كان ذاهبا ليلا من مخيم الفارعة باتجاه قرية سيريس التي تبعد بحوالي ستة كيلومترات عن المخيم ، والطريق إليها مسرب بين جبلين ضيق صخري . ولكن من حسن حظه أن القمر كان بدرا . وفي الطريق أراد أن يدخّن ، فأخرج علبته المعدنية المليئة بالدخان المحلي وأوراق رقيقة خاصة بلف الدخان . وبعد أن أكمل لف سيجارته أراد أن يشعلها ، إلا أن الولاّعة ( القدّاحة ) لم تشتعل لأن البنزين الذي تشتعل به قد جفّ . في هذه اللحظة مرّت طائرة في سماء المنطقة فاستلّ مسدسه الذي لم يكن يفارقه أبدا وأطلق رصاصة على خزّان البنزين ، وبدأ البنزين يسيل فاخذ يتابع القطرات المتساقطة ليملأ قدّاحته . وبعد أن امتلأت القدّاحة ارتأى أنه ليس من اللائق أن يستمر تساقط البنزين من الطيارة ? خاصة وأنه تبيّن له بنظره الحاد ورغم الليل ان الطيارة عربية ، فاستلّ مسدسه ثانية وأطلق رصاصة أقفل بها ثقب البنزين الذي أحدثته الرصاصة الأولى .
استمر في سيره ليفاجأ بضبع يهجم عليه ، ولكنه استخسر أن يضيع رصاصة على ضبع تافه ، فهجم على الضبع الذي كان فاتحا فمه يريد افتراسه ، وضربه بقبضة يده ضربة كسرت أسنانه ودخلت في جوفه إلى أن وصلت محل ذيله من الباطن ، فأمسك بالذيل وسحب يده بسرعة وخفة مما جعل جوف الضبع من معدة ومصارين تخرج إلى الخارج ويدخل شعره إلى الداخل ، ورماه واستمر في طريقه إلى قرية سيريس ليجد الناس الذين سيتعشّى ويبيت عندهم منزعجين من تأخره ، فروى لهم ما حدث وشاع الخبر في القرية ، فجاء الأهالي زرافات ووحدانا يريدون السلام عليه وتحيته ويريدون استضافته تقديرا لقوته وشجاعته ، ولتخليصه إيّاهم من ذلك الضبع الذي طالما كان يهاجم مواشيهم . إلا أنه اعتذر من الناس بلباقة ، فهو لا يريد أن يتلقى جزاء على ما يفعله .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.