عاجل.. تأجيل الحسم في انتخاب اللجنة التنفيذية لحزب الإستقلال إلى اجتماع غير مسمى بعد تعذر التوافق حولها    محكمة لاهاي تستعد لإصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وفقا لصحيفة اسرائيلية    رسميا.. انسحاب اتحاد الجزائر من مواجهة نهضة بركان بسبب "قميص الخريطة"    البطولة: نهضة الزمامرة يضمن البقاء رسميا ضمن فرق قسم الصفوة بانتصاره على الفتح الرياضي    سعر الدرهم يتراجع مقابل الأورو    اتحاد العاصمة ما طلعوش يشوفو التيران قبل ماتش بركان    نجوم مغاربة تحت رادار "البارصا"    المباراة الرسمية للحرس الملكي في القفز على الحواجز بالرباط.. الفارس علي الأحرش يفوز بالجائزة الكبرى لصاحب الجلالة الملك محمد السادس    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الكاتب والباحث لحسن مقبولي يشارك بكتابه الجديد في معرض كتاب التاريخ للجديدة    حزب الاستقلال يؤجل انتخاب أعضاء لجنته التنفيذية    تعميم المنظومتين الإلكترونيتين الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني على جميع البعثات الدبلوماسية والمراكز القنصلية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اعتقال مئات الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة مع استمرار المظاهرات المنددة بحرب إسرائيل على غزة    نصف ماراطون جاكرتا للإناث: المغرب يسيطر على منصة التتويج    توقعات أحوال الطقس غدا الإثنين    هذه مقاييس الأمطار المسجلة بالناظور خلال 24 ساعة الماضية    بيع ساعة جَيب لأغنى ركاب "تايتانيك" ب1,46 مليون دولار    بلوكاج اللجنة التنفيذية فمؤتمر الاستقلال.. لائحة مهددة بالرفض غاتحط لأعضاء المجلس الوطني        دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    الدورة 27 من البطولة الاحترافية الأولى :الحسنية تشعل الصراع على اللقب والجيش الملكي يحتج على التحكيم    نهضة بركان يضع آخر اللمسات قبل مواجهة اتحاد العاصمة الجزائري    حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على عزة ترتفع إلى 34454 شهيدا    توقيف مرشحة الرئاسة الأمريكية بسبب فلسطين    مطالب بإحداث خط جوي دائم بين مطار العروي وفرانكفورت    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    قادمة من بروكسيل.. إفشال محاولة لإدخال هواتف غير مصرح بها    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    شبح حظر "تيك توك" في أمريكا يطارد صناع المحتوى وملايين الشركات الصغرى    رغم ارتفاع الأسعار .. منتوجات شجرة أركان تجذب زاور المعرض الدولي للفلاحة    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    الفكُّوس وبوستحمّي وأزيزا .. تمور المغرب تحظى بالإقبال في معرض الفلاحة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    الحبس النافذ للمعتدين على "فتيات القرآن" بشيشاوة    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    توقيف سارق ظهر في شريط فيديو يعتدي على شخص بالسلاح الأبيض في طنجة    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    بمشاركة خطيب الأقصى.. باحثون يناقشون تحولات القضية الفلسطينية    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    ما هو صوت "الزنّانة" الذي لا يُفارق سماء غزة، وما علاقته بالحرب النفسية؟    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    رسميا.. نزار بركة أمينا عاما لحزب الاستقلال لولاية ثانية    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا اختار المغاربة المالكية؟

في المغرب، الذي سمي من قبل، المغرب الأقصى، يشكل الدين مكوناً أساسياً للحقل الاجتماعي والسياسي. ولا حاجة للقول بأن الممارسة الدينية ترتبط بمذهب خاص يؤطرها. في هذا الصدد، نلاحظ استمرارية وتجذر المذهب المالكي في المغرب. أسسه مالك بن أنس، إمام المسجد الأكبر بالمدينة في القرن 9، ولم يتأخر في الانتشار بالمغرب. وتشكل في الحواضر الدينية الكبرى مثل قرطبة، فاس والقيروان، وأصبح مميزاً للغرب الاسلامي وسرعان ما أصبح يؤطر صراعات العائلات حول السلطة. ووراء المذهب، يمكن أن نجد أداة دعائية، وبالخصوص سلاحاً لبناء وحدة سياسية. وهكذا أصبح المغاربيون مالكيين.
الإسلام دين عظيم، وبهذه الصفة، فهو موضوع تاريخ متعدد. وليس الاختلاف الأساسي الأول بين الدين والتدين وحده يستدعي الاختلاف بين «تاريخ الإسلام» و«تاريخ المسلمين». ولكن داخل كل فئة تبقى التمثلات متعددة. ومسلسل تشكل المتن الفقهي للإسلام كديانة توحيدية رهين بمدارس فكرية مختلفة ومتعددة. أما بخصوص نشأة التدين في الإسلام، فإن التعدد يفرض نفسه نظراً لكون الممارسات الثقافية والخيال الجماعي يبقى مستعصياً على أي تصور تنميطي. والمعطيات السوسيو مجالية والثقافية للبلاد الإسلامية صبغت ممارسات دينية مختلفة. فدنيوية الممارسات وطقوس التضحية والأعياد الدينية وهندسة أماكن العبادة، وقراءة القرآن وتراتبية واجبات المسلم والعلاقة مع العلم ومع السلطة السياسية ومع الطبيعة ومع الآخر... إلخ، كلها أمور مختلفة وأكثرها من صنع الإنسان وتاريخه. حتى يومنا هذا في الجامعات المغربية، تتحدث المناهج الدراسية عن تاريخ الإسلام وليس عن تاريخ المسلمين.
ووراء هذا التأكيد، يختفي بالضرورة ميلاد تديُّن خاص: هل يتعلق الأمر بخصوصية مغربية؟ البعض يؤكد ذلك. أما نحن فنميل أكثر نحو توسيع النظر الى المغرب العربي. صحيح أن كيانات »افريقيا« (تونس) والمغرب الأوسط (الجزائر) والمغرب الأقصى (المغرب) برزت منذ القرن الثالث عشر، لكن حدود الدول الثلاث لم يكن لها أي معنى إلا بداية من النصف الثاني من القرن 19، وبالتالي، فإن تعبير المغرب (الغرب الاسلامي) أكثر حضوراً خلال الحقب القديمة من لفظ المغرب الحالي.
ماذا تعني المالكية؟
باختصار شديد، يمكن أن نؤكد أن المالكية هي تقاليد أهل المدينة! ويكتب عبد الله العروي في كتابه »التقاليد والإصلاح«: عندما يخبرنا التاريخ بأنه بعد ثلاثين سنة على وفاة الرسول، وقعت مواجهات ضارية بين ثلاث مجموعات، تقول بالترتيب: السلطة مهما كانت طبيعتها لا يمكن ممارستها إلا بطرق ثلاث: من طرف واحد أو من طرف مجموعة أو من طرف الجميع، والذين يريدون خلافة ديمقراطية مهما كانت منطلقاتهم ومهما كانت التسمية التي اختاروها في البداية هم خوارج (متمردون، هامشيون..)، والذين اختاروا خلافة أرستقراطية هم الملتحقون بالإسلام في آخر لحظة، ورثة تجربة مكية طويلة، وهم السنيون، والذين لا يتصورون أن تؤول سلطة النبي إلا للسلالة المباشرة لآل البيت ويسمون الشيعة. ومن خلال الأحداث التي وقعت في المدينة وذكرها الكتاب، نعرف أن الفئة الثانية وحدها قادرة على الفوز... وهم الذين وضعوا أسس التقليد ( السنة) [...].
والشيعة ليسوا ضد التقاليد، بل هي تقليد آخر، بينما الخوارج هم ضد أي تقليد«.
والمالكية هي تعبير عن هذا التقليد السني الأول. إنها مذهب من ضمن مذاهب أخرى (الحنفية، الشافعية، الحنبلية...) أسس لها مالك بن أنس الفقيه العالم من المدينة خلال القرن الثاني للهجرة (القرن 9 الميلادي) هذا الفقيه الذي كان له مسار استثنائي ومميز، اكتسب هالته من قربه من قبر الرسول، ومن خلال مهمته كإمام ومفتي المسجد الأعظم في المدينة، مسجد الرسول محمد. وأصبح مرجعاً في سُنَّة النبي. وخلافاً لفقهاء عصره، لم يكن يبحث عن انتشار علمه الديني من خلال الأسفار وزيارة أقطار أخرى. لم يكن يغادر المدينة إلا للحج في مكة. ويقول أتباعه عنه »مالك لا يسْتَفتي، بل يُسْتفتَى« ويقولون عنه أيضاً »لا أحد يعطي الفتوى ومالك في المدينة«. هذا المدني الذي لا يفارق البيت، كان متشبعاً بثقافة المدينة، وعاصر تطور عظمة الإسلام الأولى (عصر النبي محمد) أسس للمذهب الذي يحمل اسمه. فما هي أسس هذا المذهب؟
ثقافة الإجماع
المصدر الأول للمالكية هو بطبيعة الحال، الكتاب المنسوب الى مالك بن أنس الكتاب الذي يحمل اسم »الموطى«، وهو عبارة عن مؤلف في جزأين. الأول يضم حوالي 600 حديث للنبي، وكلها أحاديث صحيحة وموثقة من مالك وعلماء وقضاة المدينة المعاصرين للإمام مالك. والجزء الآخر هو عبارة عن قراءة فقهية، حسب مالك، وتنقسم كما هو التقليد إلى قسمين فرعيين: الإحاطات والمعاملات. هذا المؤلف المرجعي يقال إن مالك قدمه لعلماء وقضاة المدينة الذين وافقوا على محتواه وشجعوا انتشاره، ومن ثم جاء اسم الكتاب »الموطى« أي الكتاب الذي اتفق عليه الجميع. ومن العنوان، يبرز مفهوم »الإجماع«، لكن في تراتبية المبادىء المؤسسة للمالكية، لا يتأتى الإجماع في المقدمة.
ومع مرور الزمن، اتسعت لائحة هذه المبادىء وهذه أهم خصائصها، حسب الأولوية. على رأس هذه التراتبية، نجد القرآن كمصدر لا محيد عنه في التشريع أو الشرع، بلغة أهل المغرب، ثم تأتي بعده السنة (أفعال وأقوال النبي)، والممارسات التي دأب عليها ورسخها أهل المدينة (أعمال أهل المدينة) من صحابة ومعاصري الرسول، ثم إجماع الصحابة والتابعين ثم القياس ثم المصالح المرسلة ثم الاستحسان ثم سد الذرائع، أي إعطاء الأولوية لإبعاد خطر محتمل بدل الحصول على منفعة محتملة أيضاً، ثم الاستصحاب أي الانتقال من حكم الى آخر يتوفر على حقيقة أكبر، وأخيراً العرف.
المالكية ضد الحنفية
لابد من ملاحظة أن المبادىء الأربعة الأولى تحيل على القرآن والسنة، مع أولوية للنص المكتوب الى درجة أن المالكيين يؤكدون أن »النص يلغي أي اجتهاد«. والنص يعطي تفسيره من ذاته ولا مكان للتفكير من وجهة نظر العالم أو الفقيه، أما بالنسبة للمبادىء الستة الأخرى، فإنها لا تفهم إلا في سياق الفكر والتفسير، وهو ما يسمى »النظر العقلي«، وهو مسموح بل ومطلوب، لكن فقط عندما لا يوجد نص. والنص هو ، بطبيعة الحال، القرآن والأفعال والأقوال التي ذكرت عن النبي وأهل المدينة. وعلى سبيل المقارنة ، تعطي الحنفية الأولوية للفكر والتفسير الشخصي لمن يصنع أو يطبق القانون الشرعي. وتحدث بعض الباحثين بخصوص الحنفية عن بداية إنسانية إسلامية.
فالحنفية مثلا، وحرصا على المساواة بين الرجل والمرأة، تجيز ، في حالة الزواج، إعطاء العصمة، أي إعطاء المرأة سلطة تطليق نفسها وإنهاء عقد الزواج. وتجدر الاشارة كذلك، الى أن مؤسس الحنفية أبو حنيفة النعمان توفي سنة 148 للهجرة ( 762 ميلادية) بينما مالك توفي سنة 177 هجرية، أي بعد حوالي ثلاثة عقود. وأولوية النص كاختيار أساسي عند المالكية، لم يكن وليد ظرفية خاصة، بل يندرج في سياق ثقافة.
التقليد، الأرستقراطية والجهوية
المالكية هي أيضا المدرسة الفقهية لأهل الحجاز، أي أرستقراطية شبه الجزيرة العربية، وكانت في تنافس مع مدارس الكوفة والبصرة في العراق. والمالكية تعطي مكانة محورية للإجماع، ولا تشجع على التفكير الشخصي، ومؤلف مالك نفسه، أي الموطأ، مثال على ذلك. فهو أولا مؤلف جمع أحاديث الرسول وأقوال وأفعال صحابته، وتابعيهم الأولين ، كتاب موثق ومصادق عليه من طرف الجماعة في المدينة. وهو كذلك كتاب فقهي تشكل حول الأعمال التي رسخها أهل المدينة، والتي تقدم كإجماع، وبالتالي تطبق على الجميع، و ليس فقط على أهل المدينة المنورة. كتاب مالك لم ينشر بين الناس إلا بعد دراسته من طرف 70 عالما و 20 قاضيا من المدينة. ومنذ البداية أحاطت موافقة هذه الجماعة من العلماء كتاب مالك بهالة من القدسية الناجمة عن القرب من الأماكن المقدسة والثقل الروحي لجماعة علماء المدينة.
والمالكية تميل إلى التوفيق بين التقليد والعرف في منطقة معينة. ومثل أعمال أهل المدينة، تتجسد المالكية بأعمال كل قطر، وعندنا في المغرب ولدت في فاس العمل الفاسي، بينما في منطقة سوس ولدت العمل السوسي، وهي عبارة عن تقليد محلي وخبرة ومعرفة على مستوى التشريع والاجتهاد مندمج بشكل جيد في التقليد السني الكبير. وبالتالي كان ينصح، عند تعيين القضاة والمفتين، بإعطاء الأولوية لمن لهم دراية ومعرفة جيدة بالتقاليد المحلية، وبطبيعة الحال بلغة المنطقة.
والمالكية ليست فقط من صنع مالك بن أنس، بل بنيت عبر الزمن والأمكنة ، وفي دراسة معمقة، يميز الباحث في الشؤون الاسلامية عمر الجعايدي ، بين ثلاث مراحل كبرى: المرحلة الاولى هي مرحلة التأسيس، وكان مالك مهندسها الاساسي، ومرحلة ثانية هي مرحلة الامتداد حيث تم تبويب وتدقيق المتن الفقهي، وهو عمل قام به اساسا أتباع وتلاميذ مالك في الشرق. ثم مرحلة ثالثة وسع خلالها المذهب المالكي مجال تطبيقه، لاسيما من خلال تغلغل مكثف وكبير في الغرب الاسلامي (المغرب والاندلس)، وهذه المرحلة الأخيرة من صنع فقهاء المغرب العربي.
ولا حاجة للتأكيد بأن ميلاد المالكية رافقه نشاط مكثف للأتباع والتلاميذ. مجهود متواصل عبر الزمن والامكنة، حيث أنشطة الدعوة والتعبئة والتوصيل يدعمها انتاج مكتوب يذكر بالأسس ويدون الممارسات الثقافية ويؤطر الخيال الجماعي.
هذا الاتصال لم يحدث دون اصطدامات. والمواجهة الدامية بين العربي عقبة بن نافع والبربري كسيلة سنة 64 هجرية (684 ميلادية) خير مثال على ذلك. واغتيال الرجلين وكلاهما مسلم ، دشن لتقاطب بين تمثلين للإسلام. تمثل يتمحورحول أفضلية العرب ولغتهم، بل وأرستقراطيتهم القرشية. وتمثل يفضل التقاليد البربرية والأرستقراطية المحلية. هذه المواجهة هي المؤشر على ثورة البربر الشهيرة سنة 122 هجرية (740 ميلادية) ضد الاستعباد والنهب الذي تعرض له السكان المحليون على يد «الغزاة» العرب.
والقطيعة الأولى بين المغرب والمشرق تعود لامحالة الى هذه الحقبة. ومنذ ذلك الوقت، أصبح المغرب ملجأ لكل اتجاه في الإسلام يكون ضحية للعصبية العربية وتسلط أرستقراطيتها.
وهكذا وجد الخوارج الذين تعرضوا للملاحقة في الشرق ملجأ في المغرب، بل ظلوا في بلاد المغرب حتى بعد النزوح السني الكبير في نهاية حكم الموحدين. وبقيت بعض البؤر في «تحارت» وسجلماسة وجبل نفوسة، ووجد الشيعة أيضاً ملجأ في المغرب، لا يتعلق الأمر باتجاه راديكالي من هذا الاتجاه الإسلامي الآخر، ولكن هي صيغ معتدلة مثل «الزايدية» والاسماعيلية. والسلطان المغربي الأول المولى إدريس كان شيعياً.
واستمرت تمظهرات التدين الشيعي بعد ذلك في الأوساط الشعبية في منطقة سوس المغربية. أما المذهب السني، فقد كانت الأندلس مرتعه الأساسي. استقر هذا المذهب هناك أولا في صيغة التيار الأوزعي القادم من الشام عند قيام الدولة الأموية، في هذه الديار الأوربية. وفي باقي الغرب الاسلامي كان للمذاهب السنية، حتى القرن الثاني للهجرة، تواجد مختلف. ويمكن أن نرصد وجود المذهب الحنفي والمذهب المالكي (في القيروان) وبدرجة أقل الأوزعية القادمة من الأندلس. وهكذا وحتى النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة (القرن 9 ميلادي)، كانت عدة فرق دينية تتواجد بالمغرب وعدة مذاهب. وبالتالي كيف ولماذا اختار المغاربيون مذهباً واحداً هو المذهب السني، ومدرسة واحدة هي المدرسة المالكية؟
عقائد مستوردة من الشرق
أهل المغرب كانوا بشكل أو بآخر على اطلاع على ما يجري في الشرق الاسلامي، خاصة صراعات السلطة بين العائلات الأرستقراطية المتنافسة والمواجهات الدامية في بعض الأحيان بين الفصائل الدينية والمدارس الفكرية، كانت مجموعات من أهل المغرب تتوجه إلى الشرق إما بغرض الحج في مكة أو من أجل الإقامة في أماكن التكوين الفقهي والأدبي في المدينة أو الكوفة أو دمشق. وأهل المغرب لم يكونوا مرتاحين للنقاشات الفقهية العاصفة بين مختلف المدارس الفكرية. واختلاف المذاهب في هذه البقاع التي كانت مهد الاسلام والعمل الأول للنبي محمد، لم تكن بالنسبة لهم مؤشراً على الغنى الثقافي والفكري، بل على العكس، مؤشراً على الضعف وانقسامات المسلمين. وبالتالي كانوا يميلون أكثر نحو الخطابات والممارسات التي تعزز وحدة العمل وتقليص مواضيع الفرقة. وقد نجح المذهب المالكي في أن يكسب تعاطفهم.
وموقف مالك من الحجاج والطلبة المغاربة الذين كانوا يحضرون مجالس دروسه، ربما لعب دوراً. بعض الروايات تتحدث عن العناية والاحترام واللباقة التي كان يحيط بها مالك أهل المغرب. ويروى أنه قال عنهم «إنهم أهل الأمن والذكاء والعقول»، بينما أتباع أبو حنيفة كانوا يهزأون من لكنة أهل المغرب ويحتقرون ميلهم إلى تجاهل نقاش الأفكار. وهكذا في مخيلة علماء المغرب، فإن تمثل مالك له مكانته المرموقة، وحسب الروايات، فإن النبي محمد عينه كمرجع في أحد أحاديثه. وكونه كان مفتي المدينة التي لم يغادرها، وبالقرب من قبر النبي، جعل منه وريث السُّنة. وهي علامة على طهرانية فقهه البعيد عن كل تشويش أو إضافات قادمة من أقطار أخرى. ومذهبه هو السنة الحقيقية. فهو ليس مرجعاً، بل هو المرجع بعينه. وهكذا تبنى المغاربيون مالك والمالكية، وميزوه عن باقي المذاهب.
لماذا تبنى المغرب المالكية؟
الخيال الجمعي هو نتاج التاريخ. وخيال أهل المغرب يترجم إعجاباً بالمالكية. وتاريخ بنائه موضوع جدل اليوم لكن البحث التاريخي أبرز وعزز بعض الاتجاهات الأساسية. وحسب عباس الجيراري، ازدهر مذهب الخوارج في المغرب العربي، لأنه يلتقي مع ميل المغاربيين إلى الاستقلال ورفض الامتيازات الأرستقراطية والممارسات التمييزية. لكن هنا أيضاً يتعلق الأمر بتمثل وبناء بَعدي. صحيح أن الخوارجية كانت طيلة القرنين الأولين للهجرة واقعاً مهماً في المغرب العربي، ربما بسبب بعد مركز سلطة الأمويين. ولكن كيف نجحت المالكية في التفوق على الخوارجية؟ الجواب يكمن في تفسير معطيات التاريخ الواقعي. وكتب «الطبقات» المخصصة للسير الذاتية للمالكية تشير إلى وجود حوالي 1300 من الفقهاء والأتباع الذين تلقوا تكوينهم في مجالس العلم التي كان يؤطرها مباشرة الإمام مالك في المدينة، ومن بينهم الكثير من أهل المغرب. كانوا يتوجهون في رحلات إلى الشرق العربي لأسباب متعددة: الحج إلى مكة بطبيعة الحال، ولكن أيضاً لزيارة المدينة وقبر النبي. وبالنسبة لأكثرهم اهتماماً بالتحصيل والفقه، كان لهم سببان مهمان آخران: التكوين على يد إمام المسجد الأعظم، حيث كان النبي يقيم الصلاة وأسس للسنة. والسبب الثاني هو المصافحة، أي مصافحة مالك والاستفسار عن بعض أحاديث النبي. وكل من استفاد من هذه المصافحة يصبح عضواً في سلسلة السند لتصحيح الأحاديث النبوية المعنية.
ولتفسير إعجاب واهتمام المغاربيين بالمالكية، يتحدث ابن خلدون عن التشابه التام تقريباً بين الحجاز والمغرب العربي من حيث البيئة الطبيعية والثقافية، فالمجال الصحراوي والبنية الاجتماعية القبلية تجعل من الحجازيين والمغاربيين أهل فطرة. والبيئة الطبيعية تفرض عليهم نمط عيش بدوي، ومن ثم المكانة المحورية للعرف، هم أناس بسطاء، عازفون عن التفكير المعقد. وأثر الحضارات الرومانية والبيزنطية على ثقافتهم يبقى ضعيفاً. فهم في صلب البداوة، خلافاً لأهل العراق الذين كانوا في صلب الحضارة. وجهة نظر ابن خلدون هذه مبالغ فيها ومثيرة للجدل ومنتقدة. فالمالكية في الغرب الاسلامي ليست هي مالكية الصحراء (ولو أن الصحراء كانت هي محتضن التجربة المرابطية)، بل على العكس من ذلك، كان مذهب الحواضر الكبرى: القيروان وقرطبة وفاس. صحيح أن القليل من المغاربيين أقاموا في العراق وصاحبوا أئمة الكوفة والبصرة. لكن التفسير يكمن لامحالة في اختيارات وميول الأشخاص أكثر منه في نوع من الطبيعة البدوية، لاسيما التبريرات المرتبطة بصعوبات السفر.
المالكية، اختيار سياسي
أدب الرحلات وسير الأحاديث وخاصة كتب الطبقات والتراجم مليئة بالمعلومات التي تسمح بالتأكيد أنه بعيداً عن اليقينية الجغرافية وهذه «الأهمية البدوية»، فإن العمل الإرادي والطوعي للناس هو الذي كان وراء اختيار المذهب المالكي. لم يكن كل شيء طبيعياً ولم يكن كل شيء تلقائياً ومسلسل احتضان وتبني المغاربيين للمالكية لم يكن لا خطاً متصلا ولا خطاً مستقيماً. فالمغاربيون هم الذين ذهبوا للقاء المالكية في الحجاز، وهم أيضاً من نشرها ولاءمها مع الغرب الإسلامي وفي الصحراء وفي غرب السودان. ويقال بأن عامر بن محمد بن سعيد القيسي هو من أدخل كتاب مالك «الموطأ» إلى المغرب في عهد المولى ادريس الثاني. لكن دور قاضي القيروان ابن سحنون دور أكثر أهمية. فهذا الأخير ألف مدونة تحمل اسمه ، وهو كتاب يسمى «فروع» يفصل ويؤقلم أسس وتوجهات كتاب مالك. وهذه المدونة كانت بمثابة مدرسة.
وانطلاقاً من القرن الثالث الهجري (10 ميلادي) أصبح الغرب الاسلامي في غالبيته مالكياً في جزئه المديني. والحواضر الكبرى والعواصم السياسية أصبحت مراكز للعلوم الدينية وأصبح التدين المالكي يؤطر الحياة اليومية. وهكذا لعبت قرطبة والقيروان وفاس دوراً أساسياً في نشأة المالكية المغاربية. كانت بمثابة مشاتل للتكوين فاق إشعاعها الأقطار المغاربية، وانتشرت المالكية الى افريقيا جنوب الصحراء وغرب السودان إلى ضفاف نهر السينغال عن طريق التجار المغاربيين والأندلسيين.
التجربة الفريدة للأدارسة
حسب الفيلسوف والفقيه الأندلسي ابن حزم «منذ البداية تطور وترسخ مذهبان بفضل الرياسة و السلطان، إنهما المذهب الحنبلي والمذهب المالكي». في الأندلس، بدأ المذهب المالكي مع الخليفة الأموي هشام بن عبد الرحمان (174/165 للهجرة/ 790/782 ميلادية) كان مالك بن أنس لايزال حياً لكن الخليفة الحكم بن هشام (200/174 هجرية/ 816/790 ميلادية) هو من أرسى المالكية كمذهب رسمي للدولة، وبالتالي أصبح أساس التشريع. ومع الخليفة عبد الرحمان بن الحكم أصبحت كل المهام الرسمية الدينية والتشريعية حكراً على المالكيين. وتجسد هذا التوجه من خلال تعيين يحيى بن يحيى الليتي في منصب قاضي قضاة قرطبة.
في المغرب تجربة الأدارسة كانت فريدة. فإدريس الأول كان شيعياً زيدياً، عقد تحالفاً عن طريق الزواج مع قبيلة أوربة البربرية التي كان ينتشر داخلها المذهب الشيعي المعتزلي. لكن نعلم أن ابنه ادريس الثاني كان سنياً. وبعد بضعة عقود على وفاة والده، أرسى المالكية في فاس. فماذا وقع في تلك الفترة ؟ هناك تفسير أول يفيد بأن الجواب يكمن في طبيعة التشيع الزايدي الذي لم يكن راديكالياً. ويقول بعض الباحثين بأنه صلة الوصل بين الاتجاهين الكبيرين في الاسلام السنة والشيعة. ثانياً ادريس الثاني لم يترب في كنف والده الذي توفي قبل ولادته (179 هجرية/ 795 ميلادية) وتربيته لم تتم وفق المنهج الشيعي. ثالثاً، بعد أن أخذ فعلياً زمام السلطة، استقبل المولى ادريس الثاني بفاس عاصمة ملكه، موجتين كبيرتين من هجرة العائلات السنية المالكية. الموجة الأولى قدمت من القيروان في أعقاب نزاعات جدية مع السلطة في افريقيا (تونس). ويتم الحديث عن حوالي 300 عائلة. والموجة الثانية كانت نتيجة مأساوية لصراع دموي في قرطبة سنة 202 للهجرة (818 ميلادية)، ويتعلق الأمر بهجرة حوالي 4 آلاف عائلة أغلبها عائلات مالكية فرت من قرطبة الى فاس.
هذا التجمع من العائلات المالكية في فاس كان له بالتأكيد تأثير على محيط المولى ادريس الثاني. وعلى كل حال، فتعيين المالكي سعيد القيسي كأكبر قضاة فاس ، له دلالته في ترسيم المذهب المالكي. وتجدر الإشارة الى أن الأمر يتعلق بتلميذ تلقى تكوينه بشكل مباشر على يد الامام مالك ، وربما كان يحمل معه النسخة الاولى من كتاب «الموطأ» الى المغرب. ومع ذلك بعد وفاة المولى ادريس الثاني، أسفر انفجار المملكة إلى عدة إمارات ادريسية عن تعدد المذاهب والولاءات، ولم تكن المالكية قد ترسخت واستقرت بشكل كامل.
المرابطون أرسوا المالكية في المغرب العربي
كان الشرق الاسلامي خلال القرنين الرابع والخامس الهجري (القرن 10 و 11 ميلادي) يعيش على ايقاع صراع التيارات وتنافس حاد بين المذاهب. والقاعدة الاجتماعية والسياسية لهذه الصراعات في الحقل الديني كانت هي التعارض بين الارستقراطيات العربية وغير العربية داخل الامبراطورية الاسلامية. والتقاطب بين السنة والشيعة يترجم ايضا هذه الصراعات، لكنه لا يغطيها تماما.
فالعقيدة الاشعرية في مختلف تعبيراتها ، تؤكد ان هيمنة الايمان على العقل لا تسمح فقط بالمواجهة بين مختلف التشبيهات والبدع، ولكن ايضا بظهور اتجاهات عقلانية وانسانية مثل الاتجاه المعتزلي.
في المغرب، في بداية القرن الخامس الهجري (القرن 11 ميلادي) حصل ترابط عضوي بين الاشعرية والمالكية. ويؤكد البعض ان المغرب العربي كان قد تبنى الاشعرية عندما بدأ المذهب المالكي يتطور. لكن آخرين ولا سيما المؤرخ عبد الله العروي، فيشيرون الى عكس ذلك. وتحرّك المرابطين الذي سيطور المالكية في غرب المغرب العربي انطلق من الصحراء. وهذه المناطق كانت مقطوعة عن الشمال طيلة فترة طويلة. يقول العروي «ربما هذا الغياب الطويل للاتصال، هو ما يفسر الصحوة الاسلامية. فالاسلام البسيط السياسي الخالص الذي ميز الفتوحات الأولى ربما اصبح مميزا اكثر مع الاتصال بالسود. ثم وجد الصنهاجيون في القرن 10 جنوب المغرب، افضل اعتناقا للاسلام بفضل عمل الادارسة والتجارة مع الاندلس. ومن ثم ظهرت الحاجة الى تحول ثان جسدته رمزيا رحلة حج يحيى ابن ابراهيم زعيم «الكونفدرالية الصنهاجية العربية». وفي بداية القرن الحادي عشر بدأ رد الفعل الكبير ضد المذهب الشيعي والذي سيؤدي الى ميلاد حركة ايديولوجية ستشكل ما سيصبح العقيدة السنية. وستساهم في ذلك ثلاث مدارس بدرجات مختلفة. الحنبلية على مستوى المبدأ والتي وجدت صدى كبيرا في أوساط بسطاء شعب المدن ، والشافعية على مستوى المنهجية القانونية والفقهية والتي استطاعت كسب الاوساط الارستقراطية في المراكز التجارية الكبرى، والمالكية على مستوى التنظيم القانوني والاجتماعي، وانتصرت بالخصوص في مجتمعات قليلة الاختلاف.. في محاولة لتجاوز التشيع عن طريق الاجنحة.. في الشرق الاشعرية الجديدة هي التي مهدت الطريق للسلجوقيين وفي الغرب آل هذا الدور للمالكية، كما تشكل في القيروان. وليس مستبعدا ان الفقهاء المالكيين هم من اقترحوا على يحيى ابن ابراهيم توفير قائد روحي له، وسلسلة ابو عمران الفاسي وجاج عبد الله بن ياسين ماهي سوى سلسلة من الدعاة المالكيين العباسيين.
ومنذ ان كتب العروي هذه الاطروحة، أفاض البحث التاريخي في شرح هذه العلاقات والمسارات. والثابت اليوم ان شبكة ضخمة كانت تجمع في بداية القرن 11، الفقهاء المالكيين. وكانت تربط بين المدينة المنورة والقيروان وقرطبة وفاس وسوس والصحراء. وهذه الشبكة المالكية هي التي ساعدت في صعود وتنامي نفوذ المرابطين. وقد كان لقاء يحيى بن ابراهيم لكدالي زعيم «الكونفدرالية الغربية» مع أحد علماء المغرب المقيم في المغرب العربي، وهو أبو عمران الفاسي ، كانت نقطة بداية ملحمة المرابطين ، وكذلك تطور المالكية في المغرب العربي. وقد كتب ابو عمران رسالة الى تلميذه في المغرب ويدعى الوجاج ، سلمها له يحيى ابن ابراهيم وعين عبد الله بن ياسين كزعيم روحي لدى «الكونفدرالية القبيلة» التي كان يقودها يحيى بن ابراهيم وعهد إليه بمهمة ليس فقط نشر المذهب المالكي، ولكن ايضا ان يجعل منه اداة دعاية في مجموع الغرب الاسلامي. وعندما فشلت المحاولات الاولى لجأ عبد الله بن ياسين الى جزيرة قرب الداخلة، واسس بها رباطا ، حيث عمل على تكوين فقهاء قادرين على التأطير والتعبئة وفق مبادئ المذهب المالكي. وفي هذا المكان ولد المذهب المالكي المغاربي على أساس العقيدة الأشعرية.
الامتحان الاول للمالكية المغاربية
كتب العالم السني الكبير أبو حامد الغزالي في بداية القرن 12 ، مؤلفا سيكون له صيت، إنه كتاب «إحياء علوم الدين»، وهذا المؤلف المهم ازعج فقهاء المالكية في الغرب الاسلامي ، وخاصة فقهاء الاندلس. يقول الغزالي في كتابه «سيدي الوحيد ومعلمي الوحيد وملهمي الوحيد ومخلصي الوحيد هو النبي آخر الرسل في الدنيا والشفيع الوحيد في الآخرة». وبالتالي كان يدعو الى العودة الى الاصول ، الى المنبع الوحيد: النبي، وبالتالي كان يطعن في تقاليد المالكية التي بلورها فقهاء المغرب العربي بشكل كبير. في كتابه انتقد الغزالي فقه الفروع ، أي نصوص التدقيق والتطبيق. واضافة الى انتقاد ميل الغزالي نحو الفلسفة، ودعوته الى الزهد عن طريق تصوف جماعي، آخذ عليه فقهاء المالكية المغاربيون ايضا، ضعف الاحاديث التي ذكرها في مؤلفه. وكان فقهاء المالكية المغاربة يخشون من ان تنال افكار الغزالي من هيئتهم ودورهم كوسطاء بين المؤمنين والله. ولذلك كان رد الفعل عنيفا. فقد اصدر قاضي قرطبة ابن حمدين فتوى تمنع قراءة كتاب الغزالي وتطبيقه، ثم اصدر فتوى تعلن ردة الغزالي، وأثر في نفس السياق على أمير المسلمين المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين الذي أمر سنة 503 هجرية (1109 ميلادية) بحرق كتاب الغزالي في الاندلس والغرب الإسلامي، وهو أمر نفذ على الفور في ساحة المسجد الكبير في قرطبة.
هذا العنف ، ليس حالة معزولة، فالتدين المغاربي والتقاليد المالكية التي تؤطره وتضفي عليه الشرعية، الى جانب التصاقها بالسلطة السياسية، بني بشكل قسري، كلما شعرت بتهديد يزعزع استقرارها. . ويحكى ان الغزالي الذي كان شديد النقد لتجاوزات السلاطين، علق عندما أُخبر بحرق مؤلفه «ليهدم الله سلطانهم كما هدموا كتابي !» . وكان يعني ، بطبيعة الحال ، المرابطين.
التركيبة الدموية وانتصار المالكية
لعب الموحدون بعد ذلك ، دورا اساسيا في المغرب العربي والاندلس. لم يكونوا فقط مهندسي الوحدة السياسية لكل الغرب الاسلامي تقريبا، بل ان عملهم على المستوى الديني، بغض النظر عن العنف الذي رافقه، ادى الى صيغة تركيبية ستشكل اطارا للتدين المغاربي. ويحكي بعض المؤرخين ان القائد الروحي للموحدين، المهدي بن تومرت، كان هو من ثأر للغزالي. ويعتقد أنه التقاه عندما اقام في الشرق؟ لا شيء ملموس يدل على ذلك، في الوثائق. لكن في الخيال الجماعي، يبدو الامر متطابقا. وفي كل الاحوال، قدم الموحدون أنفسهم كإصلاحيين مستعدين لتغيير الممارسات الدينية وإقرار الايمان الصحيح والحقيقي. وآخذوا على المرابطين الدور المهيمن للعلماء والفقهاء المالكيين وهيمنتهم على الدولة ، وانتقدوا لجوءهم الممنهج لكتب الفروع التي تجيز البدع والانحرافات المتنوعة. كما انهم لم يكونوا يميلون الى الفقهاء المالكيين وضعف الاجتهاد وإجازة الاختلاط وسفور النساء وحجاب الرجال او الموسيقى وآلات الترفيه الاخرى... كلها أشياء لم تكن تروقهم.
ولفرض إصلاحهم، لجأ الموحدون الى اسلوب القوة ، وبطبيعة الحال، كانت المقاومة قوية كذلك، فالمالكية كانت قد انتشرتب بين الناس وانتفضت عدة حواضر ومدن ضد الاساليب العنيفة للحكام الجدد، وبالرغم من هذا العنف، لم يتمكن الموحدون من القضاء على المذهب المالكي من المغرب العربي، فلجأوا الى التوافق معه. وهكذا في عهد خلافة المامون (توفي سنة 630 للهجرة / 1232 ميلادية) تم إعلان نهاية مذهب ابن تومرت رسميا، وخرجت المالكية المبنية علي اأشعرية من سريتها لتترسخ في الاذهان. وفي عهد المرينيين ، تصاعد تجذر المالكية في المغرب، ولتجاوز عائق ضعف شرعيتها ، قامت الدولة المرينية بعملين: إعادة الاعتبار للمالكية، وترسيخ المكانة الاعتبارية للشرفاء، لا سيما العائلات الادريسية، وبطبيعة الحال، توظيفها سياسيا واجتماعيا. وهكذا خلال هذه الفترة المرينية، عادت المالكية بقوة وستصبح أساسا لسلطة الدولة والمنظم للحياة الاجتماعية، تؤطر الحياة اليومية: الزواج، التجارة، الإرث، الجوار، الحج، التعليم، والتربية والتمدن والعمارة والممارسات الثقافية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.