عامان انصرما، ولا شيء تبدل، ولا وضع تغير نحو الأحسن كما تعهد أولئك الذين حملهم الصندوق العجيب، وأوصلهم إلى الأعلى، إلى الذروة التي لم يحلموا بها يوما، أوهم حلموا بها في دواخلهم من دون أن يبينوا ذلك، وكيف؟ وهم الورعون التقاة الذين لا يبالون بنعم الدنيا وملذاتها، ولا يلتفتون إلى مباهجها وبهارجها، وأفراحها. فقد دخلوا الحكومة صفرا، وسيخرجون منها صفرا، سترى، والعهدة على الشاعر طرفة بن العبد : ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود لقد وصلت العدالة والتنمية -وهي الحزب الإسلامي- السياسي، ظاهره روحي من تجلياته الدروشة، والانكماش، والتقوى و الصلاح والإصلاح، وباطنه حسي قوامه الدنيا وما فيها، ما يحقق التلفيق والتوفيق في صوغ ذكي، وتركيب ألمعي، بعض ثماره هو ما يقطف الآن، ويجتنيه الخُلص القادة الإسلاميون. =وصلت العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، ولا حكم؛ وبوأها مليون صوت أو يزيد، الصدارة، والوجاهة، والسلطة، ولا سلطة، وتدبير الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي العام، ولا تدبير، ولا تسيير، وإنما الخبط العشوائي، والضرب ذات اليمين، وذات الشمال كما تضرب عصا الأعمى في فَيْفَهِ السراب. فما العائق إذن - إذا ما كان هناك عائق؟ =ومن وضع الحصاة في الحذاء، فأثقل المشي، وأوجع المُشْط، وزاد في المعاناة؟ وأين ذهب ذلك الصراخ الحاد المجلجل في سمع الأندية والمؤتمرات، والبرلمان، والساحات، والجوامع والصوامع، ومقار الحزب، في طول الوطن وعرضه؟ أم تراه كان صراخا مبحوحا مرتدا إلى الداخل كصدى الطبل المثقوب، ورجع الناي المخنوق؟ وأين ذهب التشمير، والعمل، والصدع بالحق، واستئصال شأفة الفساد، وملاحقة المفسدين، ومحاسبتهم؟ =سيقول المتسرعون : أنت تحاكم من موقع يصادر على المنجز، فالإيديولوجيا حجاب، والخلاف الفكري جحود، وتباين المواقف بإزاء جملة من المعطيات والوقائع، عماء وصمم مقصودان، إذ لا يراد بها إلا تبخيس عمل الحكومة التي لم تأل جهدا - منذ أن نُفِخَ في الصٌور- في القيام بالمبادرة تلو المبادرة، وإنجاز إصلاح بعد إصلاح، ورفع الضيم والظلم، والجور والعوز، والبؤس عن شرائح واسعة من الجماهير الشعبية خلال تولي اللحى،(بدأت تختفي، هل هو البطر؟)، الحكم والأمر بعد أن كانت الأمور ويلا وثبورا أيام الحكومات السابقة !، والحال أنها لاتزال تعوم في الحوض المتروك، وتقتات من ثمار الحديقة المسيجة. لكن، دعونا نُمَررْ أمام أعيننا -كما في شريط سينمائي- صور المنجز، وعناوين المتحقق، ونواتج التقدم والإصلاح. أين نجحت الحكومة المسيرة من قِبَلِ حزب سياسي- إسلامي ما فتئ يُرْغِي ويُزْبِدُ، يخط ويمحو، يبني ويهدم، يخبط وينكمش، يندفع ويتراجع، يكر ثم يفر، أي نجحت، وفيم نجحت؟ وأين أخفقت؟ وما منسوب النجاح إلى الإخفاق، ودرجة الفشل بالقياس إلى التمكن، وإنجاز الوعد؟ أم أن العثرة والمراوحة شاملان، منطبقان على أنفاس رئيس الحكومة حتى لكأنه يختنق، ويتلجلج تحت ثقل الكابوس، وضغط الرحى الحجرية. إن الواقع المغربي الآسن سياسيا -الآن- لا يترك مجالا للتفلسف، والإيديولوجيا، والتحامل، لأنه ناطق بالعربي الفصيح (أم بالدارجة العالمة؟). ونطقه الفصيح هذا يقول: إن الحال سواد به بقع بيض لكنها مشتتة، ومتباعدة، يعسر أن تتقارب لتتجمع فتزحف - من ثمة- على السواد، مبشرة بالموعد الذي يتناءى بالتأكيد، وهو الموعد الذي جاء بالحكومة الكيرانية، وبالتحديد حزب العدالة والتنمية الذي ألقم المصوتين عليه، قمحا وزيتا وحليبا، وعملا وشغلا، وصحة وافية، وتعليما جيدا، و»رفاها» ملفوفا في الكلام، والزبد المتطاير من الأفواه. ذاك كان برنامجهم الذي ركبوه وامتطوه، وهم بذلك يكونون - قد ركبوا البسطاء، وامتطوا السذج، وتحايلوا على شريحة - لنقل ذلك- معتبرة من الناس لها قسط معتبر من التعليم، والثقافة، وتشغل مناصب محترمة في البلاد. فمنها المحامي والمهندس والطبيب والصيدلي، والأستاذ والمعلم، تماما كما حصل مع «الإخوان» «الرائعين» في مصر المحروسة، ومع «النهضة» التي لم تنهض بعد كما ينبغي في تونس الخضراء ! ولربما كان لمرجعيتهم الدعوية، وفلسفتهم الحزبية - الدينية التي تتغذى على الموعظة الحسنة، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يد في ما جرى، ما يعني يدا في التذبذب، والتقلب، والذهول. وبناء عليه ، يكون تدبيرهم للدولة إيديولوجياً مغلقا، وسماويا مُصْمتا فاشلا فشلا مرده إلى تداخل الديني بالسياسي، والحزبي الضيق الإخواني، بدواليب الدولة، وتسيير شأن وطن. ويكون - من جهة أخرى- تحالفهم مرتبكا عشوائيا الغاية منه - بالأساس- دعم الحكومة / الحزب الأغلبي، دعم أفراده واحدا واحدا خوفا من سقوط وشيك، وتوجسا من ترك الكراسي الحبيبة، الكراسي الوثيرة التي أغدقت عليهم ما لم يكن في حسبانهم فإذا هم مُدْهَشُون، يقولون: أنحن في واقع أم في حلم؟ وكيف صار حتى صار منا الوزير والمدير والرقيب والحسيب، والمليونير الآن، والملياردير غدا. ليس في يد حكومة بنكيران شيء ، ولا في طوقها أن تصلح وتغير، ليس لها السلطة، ولا الحكم، ولا الحساب ولا العقاب ولا الثواب، ولا الكاريزما والتجربة. في يدها - إنْ في النسخة الأولى أو الثانية - سوط غيرها، وصوت آخرها. حكومة بدون أفق، لا مخطط محكم الطرق والأدوات والآليات واضح ومرسوم الأهداف، لا مشروع مضبوط في الزمكان، وفي المدى المنظور والمتوسط، ولا استراتيجية اقتصادية واجتماعية وسياسية تهدي المسير والمسار من أجل إكرام الشعب، وإنجاز الأدنى من مطالبه المستحقة في الحرية والعدالة والعيش الكريم. الدستور مفارق للتدبير الحكومي، بل قل إن رئيس الحكومة هو من يحاول أن ينأى بنفسه عن إعمال الدستور، لكأنه يخاف من مباشرة وتفعيل صلاحياته واختصاصاته حتى لا يقع في المطب، خوفا من تلك اليد التي على البال. لهذا، فهو لا يألو يطلب ودها، ولا يترك سانحة ولا جانحة من دون أن يلوذ بالغيب، بالسماء، التي تبارك خطوه، كما باركته يوم أتت به على صهوة الغيم، وبساط الريح، أقصد صندوق العجائب والغرائب، صندوق النعمة، وصندوق النقمة في آن : فإذا أعياه اللوذ واللجوء إلى الميتافيزيقا التي يعلم أنها تغطي عجزه، وتُنْسِي إخلاف وعده ، وبرنامجه الانتخابي «المعقول»، لاذ بالملك اتقاء للنبال والحبال، وألقى الحبل على الغارب ، وعلى جماعة الحيوان: «تماسيح وثعالب وابناء آوى، وقردة وخنازير، وغيرها «. غير أنه - وهو يعلم هذا جيدا- إنما يلتجيء إلى هذين تقية وتقنعا، وطمعا في الاستمرار والبقاء في المنصب المُخْصِب، والجاه الذي يُقَوي البَاهْ، وقد ذاق واستمرأ، واستحلى، علما أن حزبه الإسلامي الذي اعتلى السنام في غفلة من الأحزاب والأنام ، والذي جاءت به ريح عربية صرصر في زحمة البوار والعوار، والضجيج والعجيج، فاغتنم الفرصة، وتسيد بالدين مأربا إلى مبتغاه، وهو ما تحقق له . ليس هو حارس البلاد، ولن يكون، ولا حزبه عاملا من عوامل الاستقرار التي ما فتئ رئيس الحكومة يُصَدع بها رؤوسنا، ويمطرق أسماعنا في البرلمان والإعلام. الاستقرار المغربي قائم قبل أن تجيء هذه الحكومة، وبعد أن تذهب، فهل كان المغرب في مُضْطَرَبِ، وفي حرب أهلية انطفأت بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم؟. على السيد بنكيران وصحبه أن يعرفوا أن القلاقل الاجتماعية التي هزت أركان البلاد العربية، وكان للمغرب نصيب ضئيل منها والتي التف عليها الملك بحِرَفية عالية، وذكاء وَقادٍ عبر خطاب مارس الشهير العام 2011 الذي تلا حركية 20 فبراير، تلك القلاقل فجرها ظلم وحيف وفساد واستبداد. والمغرب عرف ويعرف أشكالا من الحرمان، والبؤس، والفساد، والاستبداد، لم يستطع حزب بنكيران ولا حكومة بنكيران تطويقها والحد منها حتى لا نقول اجتثاثها واستئصالها، وهو الأمر الذي أخفق فيه «الرميد» كما أخفق فيه «الخلفي» كما أخفق فيه «الرباح» كما أخفق فيه «الداودي» كما أخفق فيه «الأزمي»، كما أخفق فيه كبيرهم: «عبد الإله بنكيران. أما الإستقرار السياسي، والأمن الاجتماعي، فيحال على المؤسسة الملكية، إذ الشعب بكافة أطيافه يثق بالملك وفي الملك. ولولا الأوراش التي يطلقها رئيس الدولة في كل وقت وحين، هنا وهناك ضمن مجهود متواصل، وحرص قمين بالمسؤول الأول على البلاد، لكانت البلاد في الحضيض، في أسفل سافلين وكان الشعب يغوص في وحل المهانة، وطين الذل، وحمأة البؤس، وكفر الفقر الشامل، والعَوَزِ الكامل. نعم، لسنا مقطوعي الذاكرة أو عديمي المروءة حتى نقفز على شرفاء وأحرار هذه البلاد الذين حملوا البلاد في بؤبؤ العين، ونياط القلب، فناضلوا واسترخصوا أرواحهم، من أجل رغيف كريم لشعب كريم، ومن أجل أن يكون لأبناء الوطن موطئ قدم تحت الشمس بعيدا عن ليل الاستعمار، وليل الاستغمار: (أذناب الاستعمار)، الذين أتوا على الحرث والنسل إبان العقود الأولى بعد الاستقلال وما زالوا . إن أولئك المناضلين والمناضلات هم من أرسى دعائم الكرامة، وكافحوا من أجل الحرية والديمقراطية، وتوزيع الثروة الوطنية بالقسطاس على أبناء الوطن. وقاوموا على عدة جبهات لكي يكون التعليم والصحة والشغل والسكن اللائق. ولئن طفا رماد كثير، ورَانَ غيم ثقيل مشبع برائحة السياط والرصاص، في فترات ساخنة بين الملك الحسن الثاني ، وأطياف من الديمقراطيين، والوطنيين الشرفاء، فإن السماء انقشعت، والشمس سطعت في العهد الجديد، عهد الملك محمد السادس الذي يحاول أن يقطع مع ما ضاع من فرص وسوانح، ويؤهل البلاد والعباد إلى ما به يكونان أي إلى ما به يضعان «رجليهما» على سلم الغد المشرق، غد الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، الغد الريان، فماذا بقي لبنكيران؟ إشارات : 1 - ماذا تغير؟ : فالإفلاس طال التعليم، وطال الصحة، وطال التشغيل والعمالة، وطال الأسعار، وطال المردودية العامة، وطال الثقة في السياسة، وفي الأحزاب قاطبة، وأخشى أن يطال روح الوطن، ويأتي على البقية الباقية من رباط المواطن بالوطن. 2- يذهب ضمير الحركة الدعوية: حركة الإصلاح والتجديد ،الموجه الفعلي لحزب العدالة والتنمية، أحمد الريسوني وهو - على كل حال- ضمير منفصل وضمير متصل - إلى أن حزب العدالة والتنمية، ومرجعيته الدينية الدعوية، لا يَمُتان بسبب، ولا بصلة واهية أو متينة، إلى حركة الإخوان المسلمين»، وكذلك يفعل عبد الإله بنكيران، وقد قالها قبل فترة لجريدة « الشرق الأوسط « . والحقيقة أن في المسألة التفافا، وتقية، وخوفا من تداعيات آتية، واستحضارا لحال ومآل «الإخوة» في مصر. وإلا فإن العروة وثقى، والرباط متين بين الحركتين، فهذه بنت لتلك، وهؤلاء عندنا يتداعون بالسهر والحمى لما وقع في مصر، ويقع الآن في تونس. لكن الكرسي يُعْمِي، ويفقد الصواب، وقد يقطع حبل الود بين الإخوة / الإخوة- فما بالك بأعضاء «المجتمع الجاهلي» الذي هو أنت وأنا ونحن. ألم يكن عبد الكريم الخطيب عضوا في التنظيم الدولي للإخوان ؟ ألم يكن ولايزال، أبا روحيا، ومعلما مُعَمِدا للعدالة والتنمية ، منه غرفوا، واغترفوا، وتزودوا، وتبركوا .؟ فماذا يكون قد رضع هؤلاء « الإخوان « الحاكمون إن لم يكن لبان الإخوان المسلمين : «الفرقة الناجية « وسط مجتمع كافر ؟ . 3-»المظلومية» التي تسكن خطاب الإخوان في مصر، هي نفس المظلومية التي تتردد في خطاب حزب العدالة والتنمية، وإنْ بصيغ معدلة، زد على ذلك، مسألة الاستقواء بالشارع، والغطرسة والاستعلاء التي يمارسها بعض القادة الإسلامويين، وهي الصفات والسلوكيات عينها التي قادت الإخوان المسلمين إلى «الهاوية» والخروج صفر الأيادي من حكم وسلطة أتيحت لهم، ففرطوا فيها.