"الجمعية الوطنية للمحامين بالمغرب" تطلب تدخّلًا أمميًا لحماية "استقلال المهنة وحصانة الدفاع"    لجنة الإشراف تراجع خطة العمل الوطنية للحكومة المنفتحة    زخات رعدية قوية مصحوبة بتساقط البرد وتساقطات ثلجية من السبت إلى الاثنين بعدد من مناطق المملكة    أرض الصومال تعيش "حلم الاعتراف الإسرائيلي".. ودول إسلامية غاضبة    النيجر يعلن "التعبئة" ضد الجهاديين    رسميا.. الولوج لمدرجات ملعب أكادير الكبير يقتصر على حاملي التذاكر    ورزازات في الواجهة : العلامة الترابية "زوروا ورزازات" visit OUARZAZATE تتصدر مؤلَّفًا دوليًا مرجعيًا في إدارة العلامات التجارية بين الشركات    القصر الكبير .. تنظيم ندوة فكرية هامة في موضوع "المدرسة المغربية وبناء القيم: الواقع والانتظارات"    التعادل يحسم قمة السنغال والكونغو    التذكرة شرط لولوج ملعب أكادير    مواجهة نيجيريا وتونس.. قمة حاسمة بفاس لاعتلاء صدارة المجموعة الثالثة        الخدمة العسكرية.. الفوج ال40 يؤدي القسم بالمركز الثاني لتكوين المجندين بتادلة في ختام تكوينه الأساسي    السلطات المحلية ترفع درجة التأهب لتفادي تكرار سيناريوهات الفيضانات    بنين تحقق انتصاراً ثميناً على بوتسوانا بهدف نظيف    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    تنديد واسع باعتراف إسرائيل بإقليم انفصالي في الصومال    أمطار رعدية وثلوج مرتقبة بعدد من مناطق المغرب        المسيحيون المغاربة يقيمون صلوات لدوام الاستقرار وتألق "أسود الأطلس"    الركراكي: "علينا ضغط كبير.. ومن الأفضل أن تتوقف سلسة الانتصارات أمام مالي"    للمرة السادسة.. الناشطة سعيدة العلمي تدخل في إضراب مفتوح عن الطعام    تارودانت .. تعليق الدراسة اليوم السبت بسبب سوء الأحوال الجوية    مطالب برلمانية لترميم قصبة مهدية وحماية سلامة المواطنين بالقنيطرة    بورصة البيضاء .. ملخص الأداء الأسبوعي    انطلاق فعاليات مهرجان نسائم التراث في نسخته الثانية بالحسيمة    فيضانات آسفي تكشف وضعية الهشاشة التي تعيشها النساء وسط مطالب بإدماج مقاربة النوع في تدبير الكوارث    كوريا الشمالية تبعث "تهنئة دموية" إلى روسيا    أوامر بمغادرة الاتحاد الأوروبي تطال 6670 مغربياً خلال الربع الثالث من السنة    قمة نيجيريا وتونس تتصدر مباريات اليوم في كأس إفريقيا    نسبة الملء 83% بسد وادي المخازن    علماء يبتكرون جهازا يكشف السرطان بدقة عالية    مقتل إسرائيليين في هجوم شمال إسرائيل والجيش يستعد لعملية في الضفة الغربية    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    كيوسك السبت | المغرب الأفضل عربيا وإفريقيا في تصنيف البلدان الأكثر جاذبية    من جلد الحيوان إلى قميص الفريق: كرة القدم بوصفها طوطمية ناعمة    قرار رسمي بحظر جمع وتسويق الصدفيات بسواحل تطوان وشفشاون    الانخفاض ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    جبهة دعم فلسطين تطالب شركة "ميرسك" بوقف استخدام موانئ المغرب في نقل مواد عسكرية لإسرائيل    الأمطار تعزز مخزون السدود ومنشآت صغرى تصل إلى الامتلاء الكامل    التهمة تعاطي الكوكايين.. إطلاق سراح رئيس فنربخشة    انعقاد مجلس إدارة مؤسسة دار الصانع: قطاع الصناعة التقليدية يواصل ديناميته الإيجابية    لا أخْلِط في الكُرة بين الشَّعْب والعُشْب !    التواصل ليس تناقل للمعلومات بل بناء للمعنى    «كتابة المحو» عند محمد بنيس ميتافيزيقيا النص وتجربة المحو: من السؤال إلى الشظيّة    الشاعر «محمد عنيبة الحمري»: ظل وقبس    تريليون يوان..حصاد الابتكار الصناعي في الصين    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    إلى ساكنة الحوز في هذا الصقيع القاسي .. إلى ذلك الربع المنسي المكلوم من مغربنا    الحق في المعلومة حق في القدسية!    أسعار الفضة تتجاوز 75 دولاراً للمرة الأولى    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    جمعية تكافل للاطفال مرضى الصرع والإعاقة تقدم البرنامج التحسيسي الخاص بمرض الصرع    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    كيف يمكنني تسلية طفلي في الإجازة بدون أعباء مالية إضافية؟    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعراء مأخوذون بأشيائهم الصغيرة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 03 - 2014

ليس من الصعب أن تدرك أن هؤلاء الشعراء (الذين نحتفي بهم في هذا الملف) الهادرين كأمواج تركب بعضها دون اتفاق مسبق، قد أبرموا بحرية عالية عقدا مفصلا مع «الخسارات»، ليس لأنهم بلا قامات شعرية، بل لأنهم، حين اختاروا أن يضيئوا على «الفايسبوك»، كانوا يعرفون جيدا أنهم يعزفون قصائدهم تحت غطاء ضجيج مفتوح.
إنها تجربة تتحقق بثبات ورباطة جأش، وبنوع من الحماس «الميتافيزيقي»، على هامش «الديوان الشعري» الورقي، حيث فجّروا جماليّاتٍ كتابيّة جديدة، تعكس فهمهم الخاص للكيان الشعري، بعيدا عن لغة الآباء «المحليين» المفترضين، أبعد كثيرا عن «صناع الشعر» وما يسطرون أو يسقفون، وأبعد فأبعد عن النظريات الشعرية «البروكستية» التي تعبث بمفاصل النص وتستدرجها إلى مقاسات تنطلي بسرعة فائقة على «الطلاب المجتهدين»، وليس على الشعراء «الإيكاروسيين» الذين يرتدون أجنحة من شمع ليبارزوا الشمس في عقر دارها.
يقول الشاعر محمد بنميلود، وهو من أشرس هؤلاء الشعراء و»أخطرهم» على الإطلاق: «إن أردت أن تصير كاتبا، ابتعد عن الأفكار التي يجمع عليها أكثر من مائة شخص، لا تكن أنت الرقم مائة وواحد، أو مائة واثنين. إبحث لك عن أفكار معاكسة، في الاتجاه الآخر، عبر الطريق الجانبية الغامضة وسط أشجار وحشائش وهواء صاف. ابتعد عن أفكارهم حتى وإن كانت صحيحة، فمهمة الكاتب ليست الذهاب في طريق كبيرة مؤدية وصحيحة، بل خلق طرق جديدة في الطرق المسدودة، احفر نافذة في الجدار على مقاسك واهرب منها، طر منها بحرية مع العصافير. 
ليس مهما أن يكون معك الحق فيما تكتب، المهم هو أن تملك القدرة السحرية على جعل ما تقول حقا، وذلك لا يتأتى إلا بالنفخ على الكلمات كساحر، وحبها بجنون، واحتضانها كبيوض لتفقس، وإخراج كلمة حمامة من كلمة قبعة. 
لا تتركهم يخدعونك بعددهم وعتادهم وقدرتهم الجماعية المؤثرة على قول الحقيقة لشخص واحد أعزل. العدد وهم مضاعف، والحقيقة الوحيدة التي عليك الإيمان بها ككاتب هي الشك والريبة والهرب المستمر. إنهم لا يقولون لك الحقيقة، إنهم يخرجون لك ديناصورا من قبعة، بيد جماعة في شخص واحد، بيد تحجر التاريخ بمستحثاته في طبقات العقل الجيولوجية، فيخيفونك. لا أحد يستطيع كتابة الحقيقة، ولا الصواب، إذن قف صلبا كالحداد، واصنع حقيقتك من لاشيء، من حديدة متلاشيات ملقاة على جنبات الطريق، إصهرها واطرقها جيدا حتى تلمع، واقذفها في السماء لتصير نجما».
ونستطيع القول إن المراجع التي يلوذ بها «الشعراء الفايسبوكيون» (الذين نعنيهم بهذا الملف)، على مستوى التجربة، ليست أسماء للاقتفاء والاقتداء، بل هي نصوص لا أرض واحدة لها. نصوص تشبههم، تشتعل طاقة ونورا وألوانا وشجرا وغيمات، كما تطفح بالتأمل الفلسفي اللذيذ (نصوص الشاعرة الواعدة جدا سكينة حبيب الله)، وبالمجازات التي لا تأتي جزافا، وبالكلمات التي تختمر معانيها في مكان ما من العقل، وبموسيقي الجاز والبلوز والريكي والروك وكناوة والعيوط والغرناطي والأندلسي وفيفالدي وفيردي وأرموند وزانفير وباخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي وشوبان وموتزارت ورخمانينوف.. ألخ. نصوص تأخذ بيد لغتهم الشعرية لتعبر بها نحو قارات تخييلية جديدة، حيث تتحول الذات (والذات فقط) إلى «مزمار سحري» يقود جميع الأشياء نحو نهايتها (نحو الأقصى). «هناك الذّات فقط. الذّات المتشظّية، لكن المنفعلة والمركّبة التي تشي بهشاشتها، وتطفح بغيارات صوتها الحميم، وتنزع نحو المجهول، وقد ولّت ظهرها للمعضلات الكبرى، وعكفت بدل ذلك على ما يعجّ به اليومي والعابر والهامشيّ والخاصّ من تباريح ونقائض وتفاصيل وإيحاءات، مرتفعةً بانفعالاتها واستيهاماتها وعلاقاتها وحيواتها إلى مستوى أسطرتها، وبالتالي شخصنة متخيّلها الشعري. ونتيجةً لذلك، برزت رؤى شعرية جديدة في نصوص هذا الجيل والجيل الذي سبقه، تعكس في مجملها إمّا وضع الاغتراب واليأس والحزن التي تتملّك الذات، أو استقالة الذات من الواقع ونفض اليد عن إلزاماته وحاجياته، أو الرغبة الطافحة بالحب والأمل في إعادة صياغة الحياة والتحرُّر من القيود، أو التوق لتحقيق التوحُّد مع المطلق» (عبد اللطيف الوراري أثناء الحديث عن التجربة الشعرية ل «جيل بين قرنين»). وليس هذا المطلق سوى الشعر الذي يتحول إلى معنى خالص. يقول عبد الرحيم الصايل:
«بالنسبة لي، راينر ماريا ريلكه، شاعر كبير وهائل الكرم. لقد كنت أعيش أياما صعبة كنت خلالها أبحث عن حل لفمي الذي كان يتدفق بالشعر ويمنع الفرصة عن يدي. آمنت بالشعر من أول نظرة، ومنذ تلك اللحظة التي آمنت به فيها، صار لقلبي وجود، والْتأمت طفولتي. ريلكه شاعر كريم أنقذتني روحه الشاسعة، وفي رسائله إلى شاعر ناشئ، اعتبرت نفسي الشاعر الناشئ الذي كان ريلكه يراسله. لقد مرت علي أيام، كادت فيها يدي أن تتصلب وكاد فيها فمي أن يضرب عن الكلام، لكن حدث أن التقيتُ ريلكه وتم تخطي المحنة. شكرا لك راينر ماريا ريلكه» .
وإذا كان الصايل يدين بكل شيء للنمساوي (وليس العربي أو المغربي) ريلكه ويتمنى أن يقبل أقدام الشعر الذي رفعه برقة فوق الجرح: (أيها الشعر/ لو كانت لك قدمان/ لقبلتهما صباح مساء/ فأنا مدين لك بكل شيء)، فإن سكينة حبيب الله تكتب (ليس على عجل) كي لا «تتسمم»:
«كيف بدأت الكتابة؟ لماذا أكتب؟ 
لأني لم أفكر في تهشيم الكلمات تحت قدمي والتخلص منها. 
لأن كل شيءٍ بدأ بسبب الخوف والأصوات والهروب. 
لأني في السادسة من عمري اختبأت تحت طاولة الطعام حين داهمت العاصفة البيت لأول مرة، وحين وضعت يدي في جيب مريولي- في محاولة للتكوم - وجدت قطعة طباشير، بدأت أكتب على سقف الطاولة الخشبي أشياء وأشكال، ثم تعبت، كان لدي كلام يجب أن أكتبه، لكني تعبت. نظرت لقطعة الطباشير المتبقية في يدي والتهمتها بدافع من ذلك اليقين الذي لا يقبل الالتباس أن أي شخص ستسقط في يديه من بعدي ستكتب له في ما يشبه الوشاية كل الكلام الذي أتعبني ولم أكتبه. الاحتفاظ بها، كان يشبه إخفاء قلعة في جيب، مفضوحاً ومستحيلاً. أصبتُ بتسمم بعدها، الطبيب أكدَّ أني أكلتُ شيئاً مؤذياً ، منتهي الصلاحية أو غير صالح للأكل (هو يقصدُ قطعة الطباشير) لكني وحدي كنت أدرك أن السبب كان الكلام الذي لم أكتبه/ وهكذا ومنذ ذلك الوقت/ كان علي أن أكتب/ وإلا تسممت».
شعر هؤلاء يتمتع بحيوية كبيرة، إذ تجد فيه كل أشكال التجريب التي يمكن الاغتسال بأضوائها. إنه شعر مثير ورائع. شعر أطفال مشاغبين، وليس شعر أساتذة يعرفون من أين تؤكل الأوزان (رغم أن فيهم من يكتب شعرا عروضيا جميلا مثل الشاعرين محمد عريج وأحمو الحسن الأحمدي) ومن أين تُسرق المعاني وكيف تُخفى وتُطْمسُ وتتحول في النهاية إلى حلوى صالحة للاستهلاك ترتاح في جوارير محكمة الإغلاق. شعراء يضعون الشعر فوق كل شيء، ويتمتعون بحماسة كبيرة للغة الخالية من التغضن. لغة لا تستحوذ عليها «حوافر البعير»، ولا «قفا نبك».
لنقرأ لمحمد بنميلود:
«الّذين يملؤون البئر بماء البحر/ هم أصدقائي/ الّذين يحبّون الأحذية تصل حتّى الرُّكب، كخيّالة الحدود/ والبنادق محشوّة برصاص سبق استعماله/ يسدّدون طلقاتهم في اتّجاه الشّفق الآجوريّ/ ويظلّون حزانى في نهاية الحياة/ كموظّفيّ الإعدامات/ بمعاش لا يكفي لأيّ شيء/ يقول لك الصّديق منهم: إنّ الشّفق يصير أحمر كلّما ماتت الشّمس في الغروب، يقول كلامًا غامضًا، ويصمت أيَّامًا طويلة جدًّا بطول السّكك الّتي بلا قطارات/ يمشي وحيدًا في الثّلج/ ولخطواته آثار تذوب قبل أن يصل/ يكون في بلاد الغربة حارس كاتدرائيّة، وفي بلاده يكون حفّار قبور في المحيط/ هكذا هُم أصدقائي».
ولعبد الرحيم الصايل نقرأ:
«كان علي/ أن أزأر/ وأرمي موزة لي/ وأحك رأسي/ وأصدر نهيما/ وأمد عنقي/ بين الأشجار العالية كزرافة/ وآكل العشب/ ناظرا بعيني غزالة حذرة/ إلى ظلي الذي لذئب/ لقد كان علي/ أن أكون حيوانات كثيرة/ في حديقة جئت إليها/فوجدت أن الحيوان الوحيد/ الذي يعيش فيها طليقا هو الكذب».
ونقرأ لسكينة حبيب الله:
«جرَّبتُ أن أسقِط اسمي مراتٍ عديدة/ لكن كثيرين ظلوا يركضون خلفي/ كي يعيدُوه إليّ / أما من التقطَه أوّل مرة/ فقد كان أبي/ بإصبعين حملهُ كفأرٍ ميت/ ورماهُ في وجهي /وأنا من باب اللباقة/ كان عليّ أن أشكرَه».
ولمحمد عريج:
«كأنَّ يديْكِ تشتهيَانِ قتْلِي/ لتقتسما معاً ميراثَ ظِلّي/ كأنَّكِ والخُطَى أمستْ بلاداً/ ترينَ ولا ترينَ..حُدودَ وصْلي/ لقدْ سَيَّجْتُ أشجاري عميقاً/ لكي لا تدخلي في الليل حقلي/ وقد أوصدتُ خلفي الليلَ كي لا/ أرى عينيكِ في قمرٍ مطلِّ/ خُذيكِ إلى الغيابِ..خذيكِ مني/ خذي شفتيكِ منْ أسراب نحلي/ خذي رُطبي التي سقطت..ولكنْ/ دعيني كي أواسيَ جذع نخلي».
لم يعد الشعر بالنسبة لهؤلاء وسيلة لعرض المعارف الفلسفية أو الأسطورية، أو التبجح بأنهم موسوعات متنقلة، أو أنهم على إلمام بالتجارب الشعرية في أمريكا واليابان وروسيا واليونان وألمانيا والموزمبيق وساحل العاج والبرازيل والكيبيك والتوتسي والهوتو وجبال الهملايا. إنهم يسعون في الغالب إلى تبليغ مشاعرهم بالانزلاق الحر على ظهر التخييل. ليسوا شغوفين بالنظريات الأدبية، ولم يتربوا على بناء جملهم الشعرية على مقياس الجدران النقدية.
يقول الشاعر منير الإدريسي:
«يعجز نقّادنا عن الاقتراب من الأعمال الشّعرية التي تراهنُ على الاختلاف. الأعمال التي تحلّق بعيدا عن السّرب، والتي تحمل اقتراحات جماليّة جديرة بالتأمّل. عوض ذلك يسبحون في البرك التي يعرفون تضاريسها جيّدا».
لنقرأ لسناء عادل:
«ثقبُ الباب/ ليس أميناً في كلِّ ما ينقله/ عن الخارج/ وشعاعُ الحظِّ/ الذي يتسرّب من تحتِ الباب/ سريعاً يخبو/ مهرولةً تمرُّ الأيّامُ/ ووحدَه المجهولُ يعلَمُ كم تهرِّب/ في طيّاتها من جميل/ دورةٌ.. دورتان للمفتاح/ وشيءٌ من العزيمة/ تكفي كي ينفتح البابُ على مصراعيه/ أيها الواقفُ/ -كابنِ امرأةٍ عقيم-/ خلفَ بوابةِ الحياة».
ولحبيبة سميك نقرأ:
«طرقاتي غابات لا تنتهي/ وطني ظل شجرة متعبة/ أحرس الليل من قسوة الكون/ وفي كفي قنديل صغير/ أطرد به كوابيس الطيور النائمة/ وأشق به ظلمة الطريق كمحاربة مجنونة! / في كفي شمس صغيرة/ وعطر وردة ميتةفي كفي سر كبير».
ونقرأ أيضا لليلى بارع:
« وأنتِ تُطلين من نافذتك السوداء/على صباحاتي/تذكري/ أنني رسمتها بأصابعي المجروحة/ لم يحملها لي أي فجر/ أو طائر أزرق صغير/ وأنت تطلين مباهية بفستانك المشتعل غواية/ تذكري/ أنني اشتريت هذا الصباح/ بأقساط باهظة/ من متجر الأيام/ ذاك الذي يقع على درب/ الزمن الحزين/ وأنت تطلين/ لا تنسي/ إزالة تلك الضحكة/تلك التي لا تليق بصباح خجول/ تلفع برداء/ فرح بعيد».
ولأمينة الصيباري، التي تكتب شذرات شعرية ملتمعة وعميقة، نقرأ:
«سامحيني أيتها الفراشات المرتعشة في القصائد إن سكبت فوقك طبقة فورمول سميكة..أريدك أن تتجمدي وأنت في حالة رقص».
إنهم شاعرات وشعراء يحبون الإفراط في كل شيء، ويسعون إلى الهدم بشهية عمياء لا تلوي على شبع. يقترحون خيالا حرا، ويتنافسون في البحث عن الصور الطرية، والنادرة، وغير المطروقة. وهم يعون جيدا أن ليس بإمكان ذلك «الانزياح العذب والمتدفق والطائر» أن يتحقق إلا باللوذ بالأطفال الذين يضحكون في الداخل. إن استدعاء الطفل في قصائدهم هو استدعاء للرؤية الداهشة والمندهشة. الرؤية العارية من الأثاث الخارجي. الرؤية غير المستنزفة بتأويلات الآخرين، ولا بالحُفَر التي تركتها فاغرةً معاولُ الشعراء السابقين. رؤية عذراء كغابة في كوكب غير مأهول. إنها «كتابة ببياض ناصع لا تشوبه شائبة، كصفاء قلب زهرة الغاردينيا التي تصبو إلى النور كي تتفتح مثل صبية ناضجة في موسمها الشهي، وفي معانقتها للصباح وحوارها مع المساء، هي كتابة بقلم مصنوع من خشب جذوع أشجار الجوز، واثقة من قدرنها على التجول بين الكواكب بالخطوة نفسها التي تتجول بها بين السواقي والحقول. إنها تلك اليد المضيئة التي تجرنا برفق نحو ضفافنا البعيدة، حيث كل شيء يبدو ملاكا (كما قالت الشاعرة الإسبانية أليخاندرا بيثارنيك).
شعراء أطفال يسبحون في بحيرات لا يراها سواهم. يعتبرون الطفولة ماء مطلقا، ولذلك يصرون على أن يظلوا مبللين. ومع ذلك، فإن أغلبهم على اطلاع واسع بتاريخ الشعر، قديمه وحديثه، وعلى دراية ب «عمود الشعر العربي»، وبفحول الشعراء ونبلائهم وصعاليكم وفرسانهم. لكنهم استطاعوا أن يحققوا «اللا التفات» اللازم لكل تجربة في الإبداع، فنجوا من «لعنة أورفي»، ليسقطوا في لعنة أخرى، هي البحث عن «الصوت المتفرد». ومن هؤلاء الشاعر الجميل أحمو الحسن الأحمدي الذي يقول في إحدى شذراته الشعرية:
«مَرَّتْ بِنَافِذَةِ الْبَهَاءِ رَوَاحِلِي فَحَطَطْتُ رَحْلَا..
قُدِّي قَمِيصَ الْهَجْرِ مِنْ قُبُلٍ ..فَثَوْبُ الْوَصْلِ أَحْلَى..
إِنِّي لَمَحْتُكِ كَالنَّدَى وَرَأَيْتُ مَبْهُوراً عَلَى عَيْنَيْكِ كُحْلَا..».
بل إن أغلب هؤلاء الشعراء على إلمام طيب بما تفشيه أشكال التعبير الأخرى من مجاورات مع الشعر، فتتحقق في أشعارهم الموسيقى والقصة والرواية والمسرح والسينما والنحت والصباغة والفيديو، وفنون الطبخ والتجميل والتبرج والبيولوجيا والصيدلة والتشريح.. إلخ. شعراء جميلون يعيدون للعالم طراوته الأولى، لا يكتبون شعرا يأكل بعضه، ولا يتعاملون مع اللغة كمنفى، ولا مع «الريبرتوار» الشعري المغربي كأب ينبغي قتله. هم شعراء بدون آباء وكفى، أو يعلنون صراحة أنهم أبناء الأرض الذين هرَّبوا فرحهم الشعري من عبوس الكواكب الأخرى.. ولا يتعاملون مع «الخارج» ككارثة قيامية كالحة. ثائرون ومتمردون دون مخططات حربية (لا تهمهم- أو هكذا يبدو- المعضلات الكبرى). ينتقدون كل شيء، البيت والمدرسة والأحزاب والدولة والحكام. متحيزون للهامشي والهش، وأحيانا للسوداوية واليأس، بل إن منهم من يكتب عن الموت كما لو كان صديقا يشاركه الملح كل يوم.
هؤلاء الشعراء يعيشون الشعر، يقرؤونه ويحسونه ويعرفون جيدا ما يقع حولهم من حروب وترتيبات وألاعيب القوى العظمى والصغرى، لكنهم لا يكترثون بشكل مباشر للصراعات الجيوستراتيجية. لن تجد فيهم خليل حاوي، ولا أمل دنقل، ولا عبد الله راجع، ولا المجاطي، ولا عبد الله زريقة، ولا عبد اللطيف اللعبي، ولا مظفر النواب، ولا عبد الوهاب البياتي، ولا أدونيس. هم كل أولئك، ولا أحد من أولئك أيضا. لا يعتبرون «الصحراء» أو «مدونة الأحوال الشخصية» أو اختصاصات رئيس الحكومة قضية شعرية. ذلك أن الشعر يحقق مصيره خارج الإجماع الوطني، ويسير في اتجاه واحد لا علاقة له بالأمم المتحدة أو منظمات حقوق الإنسان الدولية.
شعراء مأخوذون بأشيائهم الصغيرة، يشرق فيهم الشعر كما لو كان شمسا تطل على حديقة. صيادون ماهرون للصور الرائعة، وليست لديهم أية نية للتقدم في العمر (الهدوء والنضج والترقب). كل ما يهمهم ورقة شجرة أو مقبض باب أو جناح طائر صغير أو ظهر دعسوقة أو عش مقلوب على شجرة منحنية. الأشياء الصغيرة التي لا ينتبه لها الكثيرون. التي تشبه إغفاءة غير متوقعة، والتي تطلق أحاسيسهم الأولى من محابسها، والتي تتمرد على «الأسلوب المحكم».
إن كل واحد من هؤلاء الشعراء يحمل وحشا نائما في مكان ما من قلبه. وهذا الوحش هو الذي يوزع «المزاج الشعري» على كل قصيدة، حيث يطغى اليأس والخوف والعزلة والموت، وأيضا مساحة كبيرة من الفرح الشعري خارج ما تحققه «اللايكات»، لأن الشعر لدى هؤلاء،كما نزعم، ليس «رقصة سربتيز» بل ظلا لمعنى يقودهم إلى موت بعيد. إنه كل شيء. حزن ضاحك وذهاب مزهو بنفسه نحو الشمس.
بقي أن نعترف، ونحن نصافح هذه التجارب التي تسنى لنا الاطلاع عليها (لم نطلع على كل التجارب)، أن «الشعراء الفايسبوكيين» كثيرون، ويكاد عددهم يزداد كل يوم. بل إن العديد من الشعراء المعروفين، الذين يتوفرون على دواوين مطبوعة، التحقوا، منذ سنوات، بهذا الفضاء الأزرق، وصارت إطلالتهم الشعرية الفايسبوكية تكاد تكون يومية. لذلك، فإننا نعني ب«الشعراء الفايسبوكيين» تلك الأسماء التي ارتبط «وجودها الشعري» بالفايسبوك، كما أبانت عن قدرة هائلة على القول الشعري، وعن إتقان لغوي كبير، وعن كفاءة تخييلية تكاد لا تضاهى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.