الأمن المغربي والإسباني يفككان خيوط "مافيا الحشيش"    ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لأوروبا    السجن المحلي بتطوان يحتفل بالذكرى ال16 لتأسيس المندوبية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    الزمالك المصري يتلقى ضربة قوية قبل مواجهة نهضة بركان    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    أمن فاس يلقي القبض على قاتل تلميذة    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    المديرية العامة للأمن الوطني تنظم ندوة حول "مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي"    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    نيروبي.. وزيرة الاقتصاد والمالية تمثل جلالة الملك في قمة رؤساء دول إفريقيا للمؤسسة الدولية للتنمية    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري        اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين        إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسرح.. سياسة وزيادة

يعد المسكيني الصغير أحد رواد الكتابة الدرامية الطلائعية بالمغرب والعالم العربي، والريادة هنا ليست مرتبطة فقط بتراكم التجربة وقدمها وتعدد النصوص التي ألفها الرجل، إنما الريادة هنا تتسع لتشمل أيضاً نوعية الاشتغال الدراماتورجي عند الكاتب، وطبيعة انشغالاته الفنية التي تندرج ضمن ممارسة ثقافية متسمة أساساً باختيارات سياسية وإيديولوجية واعية وواضحة المعالم، عنوانها الكبير، فكرياً، هو الانتصار للقضايا العادلة للإنسانية عموماً.. ورهانها الاستراتيجي، فنياً وجمالياً، يرتبط جوهرياً بإشكالية التأصيل والتأسيس في المسرح المغربي والعربي. ومن ثمة تميزه.
ويتعزز معنى الريادة، في هذا المضمار، حين نعرف أن المسكيني الصغير، شأنه في ذلك شأن نخبة من الكتاب والمثقفين والمبدعين التقدميين المغاربة، كان يمارس شغبه المسرحي بجرأة نقدية وسياسية تجاه الأوضاع العامة وطنياً وعربياً في الوقت الذي كان المشهد السياسي في المغرب متسماً بالصعوبة والقلق واللبس، وكان يعرف حالات الاستثناء والاستنفار ضد كل ممارسة ثقافية متنورة، وكانت السلطة السياسية تتفنن في ملاحقة ومحاصرة المثقفين الملتزمين، الذين كانت تنزعج من إبداعاتهم، ونالت الفرق المسرحية والجمعيات الثقافية الجادة حظها من هذه التعسفات، ولاسيما منعها بشتى الوسائل من تنظيم أنشطتها وندواتها وتقديم عروضها الفنية وفرجاتها المسرحية والغنائية للعموم، والتي غالباً ما تنتهي بلقاء مناقشة بين الجمهور والفنانين، الشيء الذي لا يروق للسلطة التي كانت تتوجس من مثل هذه اللقاءات الثقافية وتعتبرها بمثابة تجمعات سياسية.. وخلال هذه الفترة، فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، التي كانت تعرف بسنوات الرصاص، كان المسكيني الصغير منخرطاً بفعالية وقناعة في هذه الدينامية الثقافية والجمعوية، وكانت الفرق المسرحية والمخرجون المسرحيون يتسابقون على النصوص المسرحية للرجل، لما تحمله من مضامين إنسانية قوية تستجيب لأفق انتظارهم، وتتناغم مع أفقهم الثقافي الملتزم والمشترك.. وبالتالي لم يسلم المسكيني الصغير بدوره من ملاحقات السلطة ومضايقاتها، حتى أنه تعرض للاعتقال والسجن بسبب أفكاره وكتاباته..
ولعل المتتبع الموضوعي لتاريخ المسرح العربي، والقارىء الرصين للريبرتوار المسرحي المغربي، والشاهد المواكب للحياة الثقافية المغربية، سيعترف للمسكيني الصغير بإسهاماته المتعددة في تأطير الحركة الثقافية والفنية ببلادنا بنفس تربوي ونضالي ومواطن منذ البدايات الأولى لحركة مسرح الهواة بالمغرب، وصولا إلى الراهن المسرحي الوطني والعربي اليوم.
هذا، وفي اعتقادنا، لا تستقيم أي قراءة أو استقراء لنصوص وكتابات المسكيني الصغير من دون ربط ذلك بالأرضية التنظيرية التي ابتكرها وأبدعها وصارت ملتصقة باسمه وصورته ومساره، وهي نظرية »المسرح الثالث« التي أعلنها المسكيني الصغير في بيانه الشهير (والوحيد) على هامش المهرجان الوطني لمسرح الهواة المقام بمدينة تطوان سنة 1980، حين أعلنها ثورة على المسرح السائد المتسم بالتسطيح والتكريس والتبعية والثقافية ومغازلته للسلطة..
في هذا الباب، أرى أنه لابد من توضيح بعض الأمور التي أعتبرها مهمة، والتي يتيحها لي هذا السياق (سياق تقديم كتاب جديد للمسكيني الصغير)، باعتبار أنني مررت شخصياً من مسالك ودروب هذه التجربة، وعايشتها عن قرب، وساهمت في بلورتها وتحليلها ومقاربتها، نقداً وتمثيلا وكتابة وإخراجاً..
ومن بين هذه الأمور الهامة:
أولا: إنه فعل وليس رد فعل
ساد الاعتقاد أن بيان المسكيني الصغير لإعلان ورقة / تيار »المسرح الثالث« إنما جاء كرد فعل على بيان »المسرح الاحتفالي« لعبد الكريم برشيد، والواقع أنه لم يثبت في نص بيان المسرح الثالث ما يشير إلى ذلك، لا صراحة ولا ضمنيا.. ولم يثبت أن صرح المسكيني الصغير، في كتاباته ومحاضراته، بأنه كان بصدد الرد على بيان أو تيار فني ما، بقدر ما جاء »المسرح الثالث« كاجتهاد فكري مبني على تراكم الممارسة وتراكم المشاهدة في الحقل المسرحي المغربي لسنوات وعقود.. ولم يدع أنه يعتزم نشر بديل مسرحي عن مسرح آخر كائن.. ولا كان ينوي فتحاً مبيناً يروج عبره سيلا من الفتاوى والدروس..
ولعل مرد اعتقاد البعض أن »المسرح الثالث« كان مجرد رد فعل على »المسرح الاحتفالي« يعود، في اعتقادنا، إلى سببين رئيسيين.
أولهما أن الساحة الثقافية المغربية لم تتعود آنذاك على ثقافة البيانات الفكرية التي يدعو فيها أصحابها إلى تأسيس تيارات، والحقل المسرحي نفسه لم يكن قدراً على تمثل واستيعاب الاختلاف الفكري والسياسي والفني، لأن حركة مسرح الهواة نفسها، بما هي حركة ثقافية تقدمية، كانت تعتقد أنها تشكل جسداً واحداً منسجماً متناغماً لا يمسه الاختلاف والتناقض لا من ظاهره ولا من خلفه، بدعوى أن الأهداف والرؤى والمواقف كانت موحدة، وهي فكرة إيديولوجية كانت موغلة في الأحادية، ورغم ذلك كان المسرحيون سباقين إلى سن أسلوب البيانات الفكرية، وليس السجالية، في المشهد الثقافي المغربي. من ثمة ساد الاعتقاد أن بيان المسكيني يرد على بيان برشيد، وبالتالي اعتُبر ذلك بداية لمشروع صراع وتناحر بواسطة البيانات والبيانات المضادة.. إلا أن التاريخ سار عكس هذا المسعى، ففي الوقت الذي استمر فيه برشيد في إصدار البيانات، اكتفى المسكيني الصغير ببيان واحد فقط، لاغير.. وعرفت الساحة المسرحية إثر ذلك، بيانات واجتهادات لمسرحيين آخرين، كورقة مسرح المرحلة للراحل الحسين حوري، وورقة »مسرح النقد/ النفي والشهادة« للراحل محمد مسكين، وورقة »المسرح الفقير« للمخرج عبد المجيد سعد الله، ومشروع »المسرح الأسود« للمخرج عمر درويش، و »الإخراج الجدلي« لعبد القادر اعبابو، و »مسرح الصورة« لأحمد أمل.. وعرفت الساحة المسرحية أيضاً اقتراحات دراماتورجية أخرى بعيداً عن البيانات كتجربة الاستنبات المسرحي عند محمد قاوتي، وتجربة الراحل محمد تيمد، ومشروع عبد الحق الزروالي، وغيرهم من المسرحيين المغاربة الذين أثروا المشهد المسرحي بإبداعات وتصورات جديدة ومغايرة..
السبب الثاني يكمن، في نظرنا، في أن المسرح الثالث لم يجد حرجاً في الإعلان عن قدرته على استيعاب كل الأشكال والأصناف المسرحية الكائنة والممكنة شريطة قابليتها للتفاعل في نطاق جدلي يغني قيمتي التبادل والحوار الثقافيين والفنيين.. من ثمة، يمكن للمسرح الثالث »أن يتعالق مع جميع أنواع المسرح في حدود معينة، أهمها إمكانية مجادلة هذه الأنواع وتوظيفها مضموناً وإخراجاً في إطار رؤيته الإبداعية« (1). كما أنه قادر على »التعامل مع المسرح العالمي برؤية التجادل والتفاعل والتكافؤ بعيداً عن التبعية، ويرفض الاستيراد المستمر والتصدير المستمر« (2). وإنه، أي المسرح الثالث، لا ينفي بالضرورة أي تيار مسرحي، »إلا أنه قد ينفي ويختلف منهجياً مع أي تيار في طبيعة تحديده لموقعه وأسلوب تعامله في الزمان والمكان والتاريخ. وعلى هذا الأساس، فإن المسرح الثالث يرفض كل تبضيع فولكلوري للفنون الإنسانية، وينزع في هذا الإطار إلى وسم تعامله مع هذه الفنون بخاصيات التجادل والتحديث والتكافؤ والتكامل، كلما ظلت تلك الفنون تخدم الإنسان وجوداً وموقفا وتقدماً«. (3)
هذا الموقف غير الرافض للآخر لم تتم استساغته بأريحية، واعتُبر في تأويل خاطىء، أنه رد فعل بديل عن كل الأصناف المتواجدة وعلى رأسها المسرح الاحتفالي الذي كان نشيطا وبارزا وحاضراً في العروض المسرحية والمهرجانات والندوات الفكرية. والواقع أن المسرح الثالث لا يؤمن بقتل الآخر، بقدر ما يدافع عن الحق في الحياة، ويقترح استيعاب الجميع والتجادل مع الجميع، ولا يدعو إلى العيش على الأنقاض، بقدر ما يدعو إلى تقوية فكر المختبر المسرحي والتجريب والبحث.. واستشراف المستقبل.
ثانيا: مسرح واضح المعالم
"المسرح الثالث" اعلن نفسه بوضوح عمن يكون، وماذا يريد، والى أين سيتجه. حتى ان البعض اعتبره، انذاك مقدمة لتيار سياسي جديد جاء من أجل اصلاح وتغيير الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالبلاد. لانه وضع نفسه في خندق اسمته ورقة المسرح الثالث ب "الثقافة المسؤولة" التي لا تهادن ولا تنفي الصراع، والتي، تؤكد ذات الورقة. لا يمكن ان يتحقق لها وجود بمعزل عن التوجه المنحاز للحقيقة معتبرا في المجمل ان المسرح لا يمكنه باي حال من الاحوال، ان يكون بريئا، وبالتالي لا يمكن له ان يستغني عن الاختيار (اختيار ليبرالي او اشتراكي او) وفي هذا السياق يؤكد المسرح الثالث في بيانه الاول انه "يأخذ بمفهوم الثقافة المسؤولة، لان وضعنا واختيارنا الاقتصادي والسياسي والثقافي والمسرحي لا يمكن ان يستقبل كل شيء ببراءة، كما انه لن يستطيع ان ينيب عنه من يدعي المصلحة العامة والثقافة المرغوب فيها. لان التفاوت القاهر في عملية التقدم على الصعيد المادي اصبح يرفض كثيرا من النماذج العلائقية التي لا تترك الفرصة امام الاجتهاد والتفكير في ايجاد مسرح متقدم، مسرح يعتمد بالدرجة الاولى جدلية التطور بين عامل الاحتكاك الطبيعي والحضارة الانسانية، وبين مميزات الخصوصية البشرية في مكوناتها الحضارية الانسانية المشرقة.
ولم يتردد المسكيني الصغير، في المقابل، ان يكشف عن ا لمسرح الذي يريد والمسرح الذي لا يريد. معلنا رفضه القاطع للتدخل الرسمي للدولة بالنسبة لتعريف المسرح ودوره، وهذا التعريف، يقول المسكيني، "لا يمكن في اعتقادنا الاعتماد عليه او الاخذ به، نظرا لكونه يفرض بعدا واحدا ويخدم اتجاها واحدا. ذلك ما يتبين في نوعية العلاقة التي كانت قائمة، انذاك بين المسرح والدولة، حيث كانت هذه الاخيرة تدعم نوعا واحدا من المسرح وهو النوع الذي لا يجادل ولا يشاكس ولا يعارض ولا يفكر ولا يجتهد، وهو المسرح الرسمي الذي تتبناه وسائل الاعلام العمومية والمؤسسات الرسمية التابعة للدولة، وهو المسرح القائم على التسطيح والتكريس والتبعية مضمونا، والتهريج والاضحاك المجاني شكلا. و على مستوى جدلية المضمون والشكل، يرى المسرح الثالث ان هناك ادبا انسانيا في اغلبه خادع لانه يدعي الشمولية في التعبير عن ا لحزن الكبير للانسان، ولكنه في واقع الامر، لا يبدع الا بلسما من الدموع والاسف، ويتجلى هذا في الشكل و المضمون اللذين يدغدغان عواطف الجماهير بلغة مأساوية. فالمسرح الثالث يرى ان الاحساس بالظلم والفقر والقهر والجوع والغثيان.. لا يكفي، والتخطيط لنزع هذه الحالة عن طريق الاستجداء، هو حل ترميمي، بل ان المسرح الثالث يرى ان الوعي بالظلم هو تغيير للحالة القائمة.
هذا المنحى السياسي الواضح للمسرح الثالث يتأكد في اكثر من متن في الورقة /البيان، سواء من خلال تأييده المعلن للخط الانساني التحرري في مواجهة كل انواع الضغط والهيمنة والسطحيات، او من خلال رفضه لما يسميه ب "الاسلوب المداعب"، ورفضه الصارم لكل تركيب لا يقترن بالحياة.
ويزيد اقتران المسرحي بالسياسي عند المسكيني الصغير حين يقربأن "المسرح الثالث ينطلق،من توجه ايديولوجي معين، تتحكم فيه معايير فلسفية جمالية ترتكز على دينامية الجدل بين مكونات العرض في ا لزمان والمكان والتاريخ. وتطبع هدفه في التعامل مع الظواهر والاشياء بالوضوح في الاختيار على المستوى المرحلي والبعيد المدى". ومع ان الوقت الذي جاء فيه البيان كان يتميز بحرارة الصراع السياسي والفكري والمجتمعي بين اقطار اليسار والتقدم من جهة وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى، اي في الوقت الذي كان فيه من الصعب على المثقف المستقل ان يعلن افكاره.
وعقائده على العموم، فإن المسكي الصغير لم يكن واردا لديه إخفاء هذا »التوجه الايديولوجي المعين« الذي يشكل منطلقا لمسرحه، اذ جاء التصريح والتلميح لهذا الانتماء الايديولوجي والسياسي في أكثر من متن داخل النسيج البنيوي لبيان التأسيس، والذي يشير مباشرة الى الفلسفة الماركسية، والمادية التاريخية والجدلية التي كانت ومازالت تشكل الوعاء الفكري المرجعي لليسار المغربي على اختلاف مشاربه وتياراته.. فالمسرح الثالث يتصور عملية التشخيص المسرحي انطلاقا من منهج يستمد مبادئه الفنية من قانون التغيير وفضح المتناقضات المتجلية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.. على هذا الأساس ينهض مفهوم المسرح الثالث الذي جاء »استبطانا واستنباطا لقانون التغيير الجدلي ولقانون نفي النفي وحركيته المطورة / الصاعدة في الزمان والمكان والتاريخ.
وبالرغم من هذا التأطير السياسي والايديولوجي الواضح، فإن المسرح الثالث يرفض المباشرة في الطرح واللغة والاسلوب، ويرفض الطرح البعيد عن الاطار الفني والابداعي والمسرحي (11)، وينتصر للجماليات و الايقونات والترميزات والتوجه لذكاء المتفرج وليس لعواطفه فحسب.
ثالثا: مرتكزات قاعدية أساسها الجمهور.
وفي هذا المنحى يعتبر المسرح الثالث ان عنصر المشاركة الواعية للمتلقي امرا اساسيا في العملية الابداعية المسرحية، ومن ثمة فهو ينفي البساطة والتلقائية، مقابل التعقيد والتركيب، في اطار علاقة تفاعلية وجدلية بين المتلقي كمنتج والمتلقي كمستهلك، اي انه يتعين على المبدع المسرحي الا يستبلد الجمهور باعتباره مستهلكا، والا يستعلي بذاته باعتباره منتجا ومصدرا وحيدا للفكرة والفرجة. لان الفكرة تصنع بتفاعل بين الملقي والمتلقي. وهنا يؤكد المسرح الثالث انه ينفي عنصر التلقائية في علاقته بالمتفرج، ويؤمن بالمشاركة بواسطة الفن المسرحي المبدع وليس بواسطة الفرجة السلبية، اي الفرجة من أجل الفرجة.
ولعل الجمهور يعد من بين المرتكزات الاساسية للمسرح الثالث، ذلك ان نظرية المسرح الثالث كلها مبنية على ثالوثين رئيسيين يلعب فيهما الانسان دورا محوريا:
الثالوث الاول: المكان، الزمان، والتاريخ
الثالوث الثاني: الفكرة،ا لفكرة النقيض، والفكرة الثالثة
وسنقتصر هنا، في عجالة، على تبيان أهمية المكان في المسرح الثالث، لانه في نظرنا، عصب نظرية المسرح على العموم.
فالمكان في المسرح الثالث هو فضاء للتلاقي بين البشر، وهو بالتالي الحيز الجغرافي والبشري الذي يفرض حدودا دنيا من التفاهم والتفاعل على صعيد الوجود الانساني ، وجدانيا وروحيا وماديا... والاحساس بالمكان هو بالضرورة احساس بتملك حيز ما ينبغي "تطويقه" والدفاع عنه في مواجهة كل أشكال السلب والنهب والنزع، ومن ثمة يستقيم معنى الوطن والاحساس بالروح الوطنية... كما ينهض من خلال الاحساس بالمكان الاحساس بالظلم والعدل، وكل اشكال المتناقضات التي تتعايش في المجتمع الواحد، اي في المكان الواحد، مهما ضاق او اتسع مجاله الواقعي، وفي المسرح يصير المجال الواقعي / المكاني متخيلا، واذن فانه يسع كل القراءات والتأويلات والاجتهادات التي تملأ الفراغ والفضاء انطلاقا من الثقافة المشتركة الموروثة او المتداولة بين الكاتب المسرحي و جمهوره.. و من ثمة يصبح البناء المعماري للمكان على ركح المسرح امتدادا او تجاوزا للمكان والامكنة التي يقترحها النص المسرحي. وفي هذه العملية تتداخل دلالات المكان كما يرسمه النص في سياق الاحداث التي تجري فيه، والمكان كما يقترحه الفنان السينوغراف بتواطؤ مع المخرج في بنيان معماري باشكال وأحجام وألوان محددة ومدروسة، والمكان او بالاحرى الامكنة التي يتمثلها المتفرجون ويملأون بها احتياجاتهم لفهم الحكاية ومسارها. واذن فالمكان بهذا المعنى، حتى ولو كان ماديا مشاهدا
وملموسا، فإنه مجرد حالة متخيلة سرعان ما تتلاشى بتتالي الحالات المتخيلة الأخرى... فالمكان يصنعه الانسان سواء في الواقع أو في الخيال، للاستجابة لحاجة ما.
والمكان بهذا المعنى يصير الزمان أمرا محسوسا، بحيث لم يعد الزمان يقتصر فقط على الثلاثية الملموسة في الماضي والحاضر والمستقبل، بل يتجاوزها ليصيرها زمنا محسوسا لدى الجمهور انطلاقا مما قد يلاحظ بالملموس من تفاوت مادي مرتبط بطبيعة المكان المادي أن المتخيل نفسه.
رابعا: التنظير والممارسة
يذهب الكثير من النقاد والدراسين إلى أن المسكيني الصغير نظر للمسرح الثالث انطلاقا من رغبة ذاتية في تقعيد اشتغالاته الدراماتورجية، وبالتالي فهو ينظر ليفسر طريقته في الكتابة التي لم يراكم فيها، آنذاك (قبل التنظير أي إبان الثمانينات من القرن الماضي) سوى بضعة نصوص، وينظر أيضا لما سيأتي من كتابات ولما ينبغي أن تكون عليه الكتابة للمسرح في نظره.. والحقيقة التاريخية تذهب بنا إلى أن المسكيني الصغير لم يكن يتوخى خلق نظرية ونشرها كما تنشر الدعوة.
وفي هذا السياق، لعل السؤال الحقيقي الذي أثارته عمليات التنظير في المسرح المغربي يتجلى في العلاقة التي يجب أن تبنى بين النظرية والتطبيق، وفي سؤال من الأسبق؟ التنظيم أم الممارسة؟ حتى أن البعض اعتبره سؤالا اشكاليا يشبه إلى حد ما السؤال الأزلي الأسبقية؟ أ للدجاجة أم للبيضة؟
لكن أليس التنظير شكلا من أشكال الممارسة؟ لندع هذا السؤال جانبا ونعود لظروف نشأة المسرح الثالث، وهل تنظير المسكيني الصغير سبق الممارسة أم أعقبها؟
في موسم 1980/1979، كان المسكيني الصغير عضوا باللجنة الوطنية المكلفة من قبل وزارة الشبيبة والرياضة بمعاينة وانتقاء العروض المسرحية المعدة للمساهمة في الاقصائيات الوطنية للتأهيل للمشاركة في المهرجان الوطني لمسرح الهواة الذي كانت تنظمه الشبيبة والرياضة كل سنة، وكان أعضاء اللجنة الوطنية ومن بينهم كاتبنا يجوبون البلاد طولا وعرضا من طنجة إلى الداخلة، ومن وجدة إلى وارزازات... وتمكنوا من مشاهدة أكثر من مائة ( 100) عرض مسرحي بمختلف أقاليم وجهات المغرب. كان أعضاء اللجنة يشاهدون ويعلقون وينتقدون ثم يختارون العروض المؤهلة، بينما المسكيني الصغير، فضلا عن ذلك، كان يرصد التجارب المسرحية المقترحة والمبرمجة في هذه الاقصائيات، ويقرؤها ويدونها ويناقش أصحابها على هامش زيارته لمنطقتهم قبل مغادرتها لمنطقة أخرى.. وبالتالي يعود لاستقرائها وتحليلها بهدوء وترو.
وفي هذه الجولة الماراطونية، عاين المسكيني الصغير، الذي تحول من كاتب مسرحي إلى باحث، زخما هائلا من العروض المسرحية التي أنتجتها فرق مسرح الهواة، والتي وإن تفاوتت من حيث الجودة، إلا أنها تكاد تتشابه في المقاربات، وسجل الكاتب الباحث أن القاسم المشترك بينها هو البحث في الأشكال المسرحية المختلفة، والتطرق لمواضيع جريئة سياسيا ومجتمعيا.. ولاحظ المسكيني الصغير أن هذه العروض المائة تتسم جميعها بمعالم تستحق التأمل منها:
الاشتغال على نصوص مسرحية معظمها من تأليف كتاب مغاربة.
معظم النصوص مكتوبة بنفس سياسي واجتماعي نقدي.
اختيار مضامين إنسانية قوية من قبيل البحث عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، انتقاد السلطة ومظاهر الظلم والتعسف، الدفاع عن العمال والفلاحين والمستضعفين، التطرق لقضايا الهجرة ومعاناة المهاجرين، التضامن مع فلسطين ولبنان والشعوب المستعمرة، التضامن مع المظلومين والمضطهدين نقد الرشوة والمحسوبية ومظاهر الفساد في المجتمع، نقد تزوير الانتخابات، إثارة مشاكل التعليم والأمية والجهل، نقد السياسات الاجتماعية
في قطاعات الصحة و السكن والنقل، الاستهزاء بالبرلمان والمنتخبين والوزراء والموظفين السامين، نقد مظاهر التطرف والتعصب الديني، إثارة قضايا التي لم تكن تثار إلا في عروض مسرح الهواة...
اعتماد عدد لا يستهان به من النصوص المسرحية على التراث، باستحضار معالم وأعلام وأحداث ووقائع من التراث المغربي والعربي والعالمي.
اعتماد كل العروض المسرحية على نفس تجريبي لمحاولة خلخلة النمط المسرحي السائد، مما مكن عددا من المخرجين من تملك أسلوب خاص بهم، يتجدد بالبحث التجريبي في الأشكال والمدارس الغربية وفي علاقتها بالثقافة والفنون المغربية، سواء على مستوى الديكور أو الملابس أو الإضاءة والتقنيات المسرحية المختلفة...
من خلال هذه التدوينات، خلص المسكيني الصغير أن في المغرب مسرحا آخر لا يعرفه الجميع، وهو مسرح يفكر وينتفض، يجتهد ويتجدد، مسرح تقدمي ينتصر للأفكار الإنسانية ضد كل التيارات الرجعية السائدة في الثقافة العربية والمغربية والتي تعتمد التهريج والتبسيط وتدعمها الدولة ومؤسساتها وإعلامها.. مسرح ينتصر لهويته الثقافية ويستلهم تراث بلده، مسرح جدي قائم على النقد والسؤال والبحث..
وانتهى المسكيني الصغير إلى أن ما شاهده خلال جولته هو المسرح المغربي الحقيقي، وبالتالي يحتاج إلى تأطير نظري مسرحي مغربي.. من ثمة جاءت نظرية »المسرح الثالث» كنظرية مغربية لمسرح مغربي.
ولم يدع المسكيني الصغير يوما أنه صاغ ورقة ا لمسرح الثالث انطلاقا من نصوصه وحدها.. بل ارتوى من نبع ونبض المسرح المغربي على امتداد التراب الوطني.
وهذا طبعا لم يمنع الكاتب أن يصيغ فيما يأتي من كتاباته نسيجا تطبيقيا بل نموذجيا لرؤيته المسرحية كما تشبع بها خلال مشاهداته على الخشبة وبعد تحليل مشاهداته على الورق، وهي "مشروع رؤية منهجية إبداعية حداثية تنويرية تجادل الإنسان في مكوناته المادية والروحية والعلائقية"..'14).
ذلك ما سنعيشه مسرحيا بالملموس، في فترة ما بعد الثمانينات« في نصوص »"الجاحظ وتابعه الهيثم"، و"»رحلة السيد عيشور"«، و"البحث عن رجل يحمل عينين فقط"«، و»"الرجل الحصان"«، و"السيد جمجمة«"، و"»العقرب والميزان"، »و"الباب أربعة"، و"الجندي والمثال"«، و"»صندوق الرما«" ونصوص أخرى منشورة وأخرى قادمة...
فأيهما أسبق، في هذه الحالة، التنظير أم التطبيق؟
الرباط 31 يوليوز 2014.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.