وفد قضائي وطني رفيع يزور جماعة الطاح بطرفاية تخليداً للذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء واستحضاراً للموقع التاريخي للملك الراحل الحسن الثاني    مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    هنا المغرب    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة إلى النهائي بعد تجاوز المنتخب السعودي في نصف النهاية    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد أنهم "لن يستسلموا لإسرائيل"    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلاغة الحرية والبلاغة المضادة في « كعكة الميدان» للشاعر إدريس الملياني


ملخص:
يناقش هذا المقال «بلاغة الحرية والبلاغة المضادة» في قصيدة «كعكة الميدان» للشاعر المغربي «إدريس الملياني»، انطلاقا من تصور بلاغي جديد، يستعير أدواته المنهجية من أعمال «عماد عبد اللطيف»، إيمانا منا بأهمية مشروعه البلاغي، وقدرته على الانفتاح على مختلف الخطابات، بما في ذلك الشعر، وذلك بخلاف أغلب الدراسات التي قصرت اهتمامهاعلى الخطابات اليومية والاستجابات الجماهيرية.
الكلمات المفاتيح:
خطاب الميادين، بلاغة الحرية، بلاغة الزهد، بلاغة السلطة، سرديات المثالب.
على سبيل التقديم:
«البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا، وخطبا»¹، و»منها ما يرتبط بالجمهور،والسّلطة، والتصفيق، والزّهد، والمجابهة والصراع، والأبوية، والحرية»²..
«بلاغة الحرية» مفهوم استحدثه الباحث المصري عماد عبد اللطيف، للتأريخ للثورة المصرية المعاصرة، وقد نشر كتابا بهذا الاسم عالج فيه ثلاثة خطابات رئيسة وهي:
أولا: خطاب الميادين؛ الذي عرف وحدة في الشّعارات للثورة ضد النظام، وقد احتفلت الميادين بالحرية وهتافاتها وأيقوناتها ولافتاتها وشعاراتها وأغانيها وفكاهاتها بلغات وأشكال متعددة، وأصبحت للميادين رمزيتها مثل ميدان التحرير، وغيره من الميادين التي عرفت وستعرف ثوْراتٍ مماثلة في الغرب والشرق.
ثانيا: خطاب الشاشات: وتمثله وسائل الإعلام بشتى ألوانها التي يسخّرها النّظام لوأد الحرية.
ثالثا: خطاب الصناديق: رصد هذا الخطاب سلوك الانتخابات، وثقافة التصويت، واستراتيجية الإقناع في الدعاية السياسية التي تركز على «الباتوس» العاطفي من خلال دغدغة مشاعر الشعب³.
بناء على ما تقدم وغيره، سنحاول في هذه الدراسة النّبش قليلا في «بلاغة الحرّية»؛ إيمانا منا بدور الشعر في انعتاق الإنسان وتحريره من ربقة الاستبداد والعبودية، لذلك سنفترض أن القصيدة « كعكة الميدان» نوع من أنواع الخطاب الميداني؛ لما تحمله من شعارات تحتفل بالحرية وتناهض الظلم، بل نكاد نجزم أن الديوان « أعراسَ الميادين» برمته ميدان فسيح للحرية، وعرسٌ مغربي من أعراسها.
قبل أن نباشر التحليل نطرح الأسئلة الآتية التي سنحاول الإجابة عنها:
لمَ هذه القصيدة خطاب ميداني يحتفل بالحرية ؟
من أين يستمد الشعار الموجود في النص بلاغته؟
ماهي استراتيجيات الإقناع داخل النص؟
ا- «كعكة الميادين»بوصفها ساحة للحرية:
تختزن كلمات هذه القصيدة طاقة من الغضب والاحتجاج، هذا الشعور الذي تنامى منذ البداية؛ إذ نشعر أن الكيل طفح وأن الحزن بلغ مبلغه من الشعب، فخرج إلى الميدان، ليقول إلى العالم ما يريد؛ يقول الشاعر:
ماذا
يريد
الشعب
جاء
يريد حلْ
لا الشعب
جاء يريد
ماذا
الشعب جاع
يريد أكلْ
هذا الخروج إلى الميدان لنيل أبسط مطالب العيش، هو خروج للبحث عن «أكل»، إذ إن الدافع كان طبيعيا صرفا، فرضته الطبيعة الكونية التي يشترك فيها الإنسان وغيرَه من الكائنات الحية، التي كلّما شعرت بالجوع خرجت بشكل عفوي لتلبية هذه الحاجة الضرورية بكل ما بقي لديها من إرادة وقوّة. إنها بلاغة المجابهة والصراع من أجل العيش، بلاغة التغيير؛ تبتغي انتزاع تحكّم بلاغة السلطة في الحيز البلاغي، وذلك بتقديم بلاغات مضادة، تتكئ على «الاحتشاد البلاغي»4 من خلال التوازيات الصوتية والتركيبية التي يخوّلها الشعر الحرّ مثل: «يريد حلْ» الذي يوازي تركيبيا وصوتيا «يريد أكلْ» مما أسهم في تبئير إرادة الشعب، وبلاغة الرّفض التي يمثلها تَكرار حرف الجواب «لا» الذي ارتفع صوته بشكل مدهش بعد كل سطر من سطور هذه القصيدة؛ يقول الشاعر إدريس الملياني:
لا الشعب
جاء يدق
باب الحرية الحمراء
في الميدان
بل
هو كعكة الميدان
يهتف
ملء سمع
العالم : اِرحلْ!
إن إرادة الشعب عرفت تصاعدا في الرغبة في تحقيق مزيد من المطالب عبر سلّم معجمي حجاجي؛ يمكننا أن نمثل له فيما يلي:
يهتف..: ارحل
يدقّ باب الحرية
يريد أكل
يريد حل
فالمطلب الذي يقع في أسفل السلم « يريد حلْ» هو أقلّ حجاجية، وقياما بعملية التوجيه من المطلب الذي يقع في أعلى السلم «يهتف..:ارحل»، لما يحتويه من سمات تأثيرية أقوى من سابقيه؛ والفعل المضارع ( يريد)يقوّي فكرة الحضور، ويعد حجة سلطة وشرعية، غايتها إقناع المخاطب بشرعية حراكه وفورته5، والهتاف بصوت الجماعة «ارحل» فيه اتّحاد فقوّة إرادة لا يمكن كسرها.
ا- ا- فعل «ارحل» بوصفه أيقونة لغوية:
تستثير أيقونة «ارحل» اللغوية عواطفَ مشتركة بين كل من ينشد الحرية، لا سيّما المجتمع العربي؛ لأنها تستدعي الذخيرة الخطابية الكامنة في ذاكرته، وتنشّطها من خلال تذكيره بأمجاد أمّته وربيعها، وتقوم بتفعيل خطاب الثورة، يقول الشاعر:
يهتف
ملء سمع
العالم : اِرحلْ!
الأيقونة اللغوية علامة محمّلة بطبقات كثيفة من الدلالات والإيحاءات لدى من يتلقَّونها، كما أنها تحظى بمقبولية جماعية واسعة على اختلافها، وتمكن من القيام بصياغة وعي جمعي شامل، وتختزل خطاب الثورة في مقولات وصور قليلة، لذلك فأيقونة «ارحل» صورة مصغرة للخطاب الثوري6. خطاب مزّق ستار الخوف اللغوي، بهذاالفعل المباشر، الواضح، القاطع، والصارم، الذي خلق بلاغة جديدة لا تنافق ولا تراوغ، تسمي الأشياء بمسمياتها 7.
ا-ب- الهتاف صوت الثورة المجلجل:
يبرِز الهتاف صوت الثورة المزلزل؛ إذ إنه» يصوغ مطالب الثوار في شكل بلاغي موجز وواضح، ويصبح ترديده جماعيا يدل على حصوله على قبول عام، فضلا عن كونه يخلق هوية جماعية بين القراء رغم اختلاف هوياتهم الفردية، من خلال وقوفهم وراء مطالب موحدة، كما يقوم بوظيفة نفسية؛ هي التفريغ الإيجابي لشحنات الغضب والرفض من خلال الانخراط في الهتاف المتواصل، الذي يقلّل من التوتّر والقلق الّذيْن قد يصاحبان الاحتجاج»8 ، كما تسعى بعض الهتافات إلى وصف تماسك الثوار ووحدتهم في مقابل محاولات التفريق التي تبذل لإجهاض تكتلهم، ويوجد في النص صدى لذلك التلاحم المرعب بين الشعب والجيش؛ يقول الشاعر:
في الساحة انضمّ إلى
الشعب الجنود..
ويقول في موضع آخر:
الشعب والجيش
يد واحدة واعدة
أقوى من التصفيق..
لكل ثورة صليلها، وصليل الثورات السلمية هتافاتها التي تقوي إرادة الشعب، وتقاوم محاولات بثّ الخلاف في صفوف الثوار9؛ ذلك أن قيادة الهتاف عموما يتم تبادلها بين كل من يرغب في ذلك من الثوار، فالشعب صوت واحد، ويد واحدة واعدة أقوى من التصفيق القهري والعرفي10 اللذيْن لا تطمئن الثورة إليهما.
ا-ج- سلاح الاستعارة:
نادرا ما تكون الاستعارات محايدة، لأن إنشاء شيء بمفردات شيء آخر تنتج عنه وجهة نظر معينة حول «الشيء» موضوع التساؤل، وينطوي غالبا على اتجاهات وتقييمات محددة11، وفي هذا النص استعارات سياسية تهدف إلى إقامة علاقة تواصلية خفية مع المتلقي ، تبتغي النفاذ عبرها إلى المشاعر والقلوب12؛ يقول الشاعر في حديثه عن الشعب المنتفض ضاربا بعرض الحائط ما قاله سابقا:
بل
هو كعكة الميدان.
استعارة « كعكة الميدان» بمفردات الاستعارة المفهومية تبين الشعب باعتباره كعكة في ميدان الثورة، تسعى أجهزة النظام إلى اقتسامها، فالكل يريد حصته منها، ويهدف هذا التصور إلى إعطاء الثورة بعدا ماديا، فالكعكة حلوة، تسيل لعاب كل الأطراف الحاكمة، وهذه هي حال الثورة في جميع البلدان العربية، كما أن هذه الاستعارة « كعكة الميدان» تجد لها في ذاكرتنا الخطابية مبررا، لاستحضار فكرة تقسيم الغنائم، لتتحول الانتصارات إلى طبق تتنازع حوله الأطراف13، وفي هذا النص باعتباره- في نظرنا- ميدانا للثورة والحرية، تسعى الاستعارة إلى تنبيه الشعب الذي تُصوِّب السلطة الحاكمة صوبه نظرات العداء ، هذا التنبيه الذي تبئره صفة الحمرة في استعارة الشاعر الآتية:
جاء يدق
باب الحرية الحمراء
في الميدان
فاللون الأحمر يمتاز بالوضوح الشّديد، لذا تطلى علامات التحذير كإشارات المرور ومعدات الحرائق باللون الأحمر، ويُكسِب اللونُ الأحمرُ الصورةَ بروزا، ويستخدم علامة توكيد ويستعمل بشكل واسع للإشارة إلى وجود خطر14، وكلّها معانٍ تنبض بها الحمرة في هذه القصيدة. التي جعلت الحرية عنوانا بارزا لا يمكن تجاوزه.
ب-بلاغة الزهد:
قصيدة « كعكة الميدان» ساحة فيها الصوت والصوت المضاد، بلاغة الحرية والبلاغة المضادة؛ فإلى جانب صوت الشعب المجلجل، هناك صوت النظام؛ الذي يقول الشاعر بلسانه؛
نحن على استعداد
لنرحل الآااان
عن السلطة و البلاد..
وفي موضع آخر يقول إدريس الملياني مستعيرا صوت النظام:
نسلّم السلطة
فورا وعلى الأقلْ
في نهاية السنة..
فالنظام يبدي عفّة وزهدا عن الحكم، وبلاغة الزهد تقنية من تقنيات الخطاب العربي المعاصر للثورات العربية، وفيها يبدي الخطيب أن غايته هي بناء وحماية الوطن؛ وهي تقنية تمكن من النفاذ إلى فئة واسعة من الجماهير، التي يستحكم فيها الباتوس العاطفي من الاقتناع بأن الخطيب على صواب، ويعطيه مهلة أطول للتفكير في استراتيجيات أخرى لوأد الثورة15، مثل استعمال «سرديات المثالب» التي اعتمدتها بلاغة السلطة، التي وردت في هذا النص لمقاومة الأثر البلاغي لسرديات الثورة السلمية التي ينهجها الشعب؛ يقول الشاعر:
لكنّنا بحاجة
لا إلى بلطجة
بل أياد آمنةْ
مثل أيادي الجميل
وبثينةَ
حلوة الطلعة..
بنى النظام نموذجه الذي يتأسس على الأمن والحب في أنقى حلله؛ من خلال استدعاء جميل وبثينة، وعكس هذا النموذج حين قصد الثوار وذكر مثالبهم، فهم «بلطجية»، فوضويون، لا يعرفون معنى الحب والأمن.
ج- التناص الأدبي والتاريخي:
يشكل التناص تقنية فنية في هذه القصيدة التي صوّرت الأبعاد السياسية والفكرية لثورة الربيع العربي، ومن أشهر رموز الحب التي تشكل نبضا عاطفيا في الخطاب الثقافي قصة جميل و بثينة، وهي قصة لها سلطة قيمية، تحمل سلوكا معياريا؛ يقول الشاعر:
مثل أيادي الجميل
وبثينة
حلوة الطلعة
البهية
البهيجة
الفرجة والفلجة
الشافية الغليل
والعليل
والعنة!
فجميل وبثينة إرث عاطفي مشترك في الذاكرة الجمعية العربية، وقد وظفه النظام في خطابه داخل هذا النص لإشعال مشاعر الحب، وتشغيل عاطفة الشعب، وهو كذلك وسْم ضمني للنظام الحاكم بالعشق العذري أو الأفلاطوني الذي يتغيا إظهاره نحو الوطن وأبنائه، بعيدا عن كل نزوة، لاستمالتهم والتأثير فيهم، بغية أن يعدلوا عن الثورة في وجهه، وأن يجددوا له عهد الحب والولاء له.
لقد تم استدعاء شخصيتي جميل وبثينة التاريخيتين إضافة إلى التأثير العاطفي على المخاطب للتعبير عن مفارقات تاريخية و سياسية بين ماض عريق، كان ينعم فيه الإنسان العربي بالحب والسلام، وحاضرغريق يتخبّط في العنف والدماء؛ قصد الاحتذاء بهما، وسلك سلوك المحبة، ونهج السلام ، واستتباب الأمن بين صفوف الشعب.
كما يمكننا أن نشير في هذا المستوى إلى تناص «كعكة الميدان» مع قصيدة «الكعكة الحجرية» للشاعر «أمل دنقل» التي تتحدث بدورها عن ميدان التحرير، وتنشد الحرية، وهو ما أكسب هذا النص بلاغة ثائرة، ومنحها طاقة حجاجية مضافة.
على سبيل الختم:
الشعر تعبير عن الذات الشاعرة، بما تحمله من آمال وآلام..،وفي هذا النص الشّعري عبر إدريس الملياني عن الشعب بوصفه ذاتا جماعية، وضمّ صوته إلى صوتها، ودعا القارئ بشكل ضمني، وحرضّه على الانخراط في الرفض والاحتجاج والهتاف، ومقاومة بلاغة السلطة التي تروم تغليط المخاطب، باستعمال حيل لغوية وغير لغوية، وتعرية المتواطئين ضدها.
لقد أظهر هذا العمل البسيط، أن مفاهيم بلاغة الجمهور قادرة- دون تعسف -على تحليل الخطاب الشعري مثل غيره من الخطابات المختلفة، وذلك من خلال تقديم آليات جديدة ومبتكرة، تغني التحليل و البحث، وتفتح آفاقا جديدة للتأويل والقراءة.
الهوامش:
¹- أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (البيان والتبيين)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، الجزء الأول، ص ص115-116 .
²- صلاح حسن حاوي، عبد الوهاب الصديقي( بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات)، الطبعة الأولى، دار شهريار، ص 123.
³- صلاح حسن حاوي، عبد الوهاب الصديقي، (المرجع نفسه)، ص 126.
4- صلاح حسن حاوي، عبد الوهاب الصديقي( بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات)، الطبعة الأولى، دار شهريار، ص 127.
5- سعيد العوادي(البلاغة الثائرة خطاب الربيع العربي عناصر التشكل ووظائف التأثير) الطبعة الأولى 2017، دار شهريار، ص108.
6- عماد عبد اللطيف(بلاغة الحرية معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة) الطبعة الأولى 2013، دار التنوير، ص 34.
7- عماد عبد اللطيف(المرجع نفسه) ص 54.
8- عماد عبد اللطيف(المرجع نفسه) ص 36.
9- عماد عبد اللطيف(بلاغة الحرية معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة) الطبعة الأولى 2013، دار التنوير، ص36.
10- عماد عبد اللطيف( لماذا يصفق المصريون؟) ، دار العين للنشر، ص108.
11-ايلينا سيمينو(الاستعارة في الخطاب)، ترجمة عبد اللطيف عماد وخالد توفيق، المركز القومي للترجمة، ص80.
12- سعيد العوادي(البلاغة الثائرة خطاب الربيع العربي عناصر التشكل ووظائف التأثير) الطبعة الأولى 2017، دار شهريار، ص 410.
13- يوسف رحايمي(جريدة القدس العربي) استعارة الثورة كعكة تتقاسمها الأحزاب)، عدد 11فبراير 2018.
14- صلاح حسن حاوي، عبد الوهاب الصديقي( بلاغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات)، الطبعة الأولى، دار شهريار، ص 177.
15- سعيد العوادي(البلاغة الثائرة خطاب الربيع العربي عناصر التشكل ووظائف التأثير) الطبعة الأولى 2017، دار شهريار، ص 312


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.