يهم المنتخب المغربي.. التعادل السلبى يحسم مباراة زامبيا جزر القمر    قرار رسمي بحظر جمع وتسويق الصدفيات بسواحل تطوان وشفشاون    إدانات باعتراف إسرائيل بأرض الصومال    غوغل تعتزم تغيير سياستها الصارمة بشأن عناوين البريد الإلكتروني جي ميل    تعزيز تخليق العمليات الانتخابية أبرز رهانات انتخابات 2026    كان 2025 : تعادل أنغولا وزيمبابوي بهدف لمثله    إل إسبانيول : المغرب يفرض نفسه كقوة كروية صاعدة في كان 2025    المضاربة في تذاكر مباريات الكان2025 تقود شخصا للاعتقال بأكادير    اشتوكة ايت باها .. تعليق الدراسة يوم غد السبت بسبب سوء الأحوال الجوية    تارودانت .. توزيع 11 سيارة إسعاف على عدد من الجماعات    الانخفاض ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    تذكير.. المراجعة السنوية للوائح الانتخابية العامة لسنة 2026.. الأجل المحدد قانونا لتقديم طلبات التسجيل ونقل التسجيل ينتهي يوم 31 دجنبر 2025    "كان المغرب".. التشكيلة الرسمية للمنتخب المغربي لمواجهة مالي    إخلاء عشرات المنازل في بلدة هولندية بعد العثور على متفجرات داخل منزل    نشرة إنذارية.. زخات رعدية قوية وتساقطات ثلجية وطقس بارد من الجمعة إلى الأحد بعدد من المناطق    جبهة دعم فلسطين تطالب شركة "ميرسك" بوقف استخدام موانئ المغرب في نقل مواد عسكرية لإسرائيل    ارتفاع حصيلة قتلى المسجد في سوريا        الأمطار تعزز مخزون السدود ومنشآت صغرى تصل إلى الامتلاء الكامل    السعدي يترأس مجلس إدارة دار الصانع    المحامون يطالبون بجمع عام استثنائي لمناقشة مشروع قانون المهنة    1.2% فقط من الأطفال ذوي الإعاقة يلتحقون بالتعليم الأولي.. والقطاع يعاني من ضعف النظافة وهزالة الأجور    التهمة تعاطي الكوكايين.. إطلاق سراح رئيس فنربخشة    البيت الروسي يحتفي بسيروف: ألوان تحكي وحياة تروى    زخات قوية وتساقطات ثلجية بعدد من مناطق المملكة    الحسيمة.. انقطاع مياه الري بسبب سد واد غيس يفاقم معاناة الفلاحين ومربي الماشية    أمن طنجة يوقف أربعة أشخاص يشتبه في تورطهم في قضية تتعلق بحيازة وترويج المخدرات والمؤثرات العقلية    المغرب يواجه مالي وعينه على بطاقة العبور المبكر    بلمو يحيي أمسية شعرية ببهو مسرح محمد الخامس بالرباط يوم الاثنين    قطاع الصحة على صفيح ساخن وتنسيق نقابي يعلن وقفات أسبوعية وإضرابا وطنيا شاملا        لا أخْلِط في الكُرة بين الشَّعْب والعُشْب !    تريليون يوان..حصاد الابتكار الصناعي في الصين    محكمة صفرو تدين مغني الراب "بوز فلو" بالحبس موقوف التنفيذ وغرامة مالية    التواصل ليس تناقل للمعلومات بل بناء للمعنى    «كتابة المحو» عند محمد بنيس ميتافيزيقيا النص وتجربة المحو: من السؤال إلى الشظيّة    الشاعر «محمد عنيبة الحمري»: ظل وقبس    روسيا تبدأ أولى التجارب السريرية للقاح واعد ضد السرطان    تبوريشة مغربية أصيلة    أمريكا تستهدف "داعش" في نيجيريا    السلطة القضائية تنضم إلى البوابة الوطنية للحق في الحصول على المعلومات    على هامش كأس إفريقيا.. معرض ثقافي إفريقي وأجواء احتفالية تجذب الجماهير في تغازوت    إلى ساكنة الحوز في هذا الصقيع القاسي .. إلى ذلك الربع المنسي المكلوم من مغربنا    الحق في المعلومة حق في القدسية!    «خاوة خاوة» تطبع أول مباراة للجزائر بالمغرب منذ القطيعة الدبلوماسية    روسيا تنمع استيراد جزء من الطماطم المغربية بعد رصد فيروسين نباتيين    كان 2025 .. المغرب يرسخ دولة الاستقرار ويفكك السرديات الجزائرية المضللة    أسعار الفضة تتجاوز 75 دولاراً للمرة الأولى    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    طقس ممطر وبارد في توقعات اليوم الجمعة بالمغرب    لاعبو المغرب يؤكدون الجاهزية للفوز    جمعية تكافل للاطفال مرضى الصرع والإعاقة تقدم البرنامج التحسيسي الخاص بمرض الصرع    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    كيف يمكنني تسلية طفلي في الإجازة بدون أعباء مالية إضافية؟    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    دراسة: ضوء النهار الطبيعي يساعد في ضبط مستويات الغلوكوز في الدم لدى مرضى السكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دفاتر الطفولة : محمد بوجبيري: وُجودٌ كادَ أَلّا يَكون
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 12 - 2020

تَفتحُ جَريدَة «الاتّحَاد الاِشترَاكي» عينَ القارِئ المَغربيِّ علَى فترَةٍ أسَاسية منْ عالَم الطُّفولة، يَسترجعُ فيهَا أَصحابُها لَحظاتِ عُبورهم الاسْتثنائِي مِن "عَالم الطَّبيعَة" إلَى "عَالم الثقَافَة"، عَبر اللِّقاء الأَوّل بعَالمِ الكُتّاب أوِ المَدرسَة وَمُروراً بمُختلَف الحكَاياتِ المُصاحبَةِ: الدَّهشَة الأُولَى فِي الفَصل؛ الاِنطبَاع الَّذي يُخلِّفه المُعلِّم أوِ «الفَقيه»؛ تَهجِّي الحُروفِ الأُولَى؛ شَغَب الطُّفولَةِ وَشقاوَتهَا وَأشكَال العِقَاب غَيرِ المُبرَّر أَو المُبرَّرِ بمَا لَا يُعقَل؛ انْتظَار الأمَّهاتِ أمَامَ بابِ المَدرسَة؛ زَمَن الرِّيشَة والدَّواة وَالقصَص الَّتي تسْتَتبِعُ لَطخَات الحِبْرِ في الأصَابعِ وعَلى الدَّفاترِ وَالمَلابسِ؛ مُقرَّرات الرَّاحلِ بُوكمَاخ الشَّهيرَة، وَغَيرِهَا منَ التَّفاصيل الَّتي كانتِ الْبدَاياتِ الأُولَى التِي قَادَتْهم إلَى مَا هُم عَليهِ اليَوم وَالَّتي بكلِّ تَأكيدٍ، سَتتحكَّم، قليلاً أوْ كَثيراً، في مَا سَيكُونُونَه غَداً.
كانَ الْمجيءُ إِلى الْعالَمِ عَسيرًا، بَلْ كادَ أَلّا يَكون، لِأَنَّ الْوِلادَةَ في الْبَيْتِ اسْتَحالَتْ عَلى السَّيِّدَةِ الْوِالِدَة الّتي ظَلَّتْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ، وَقَبْضَتا يَدَيْها مَشْدودَتانِ بِقُوَّةٍ إِلى حَبْلٍ مُسْدَلٍ مِنَ السَّقْف، تَصْرُخُ بِدونِ جَدْوى. وَلَمّا تَيَقَّنَتِ الْمُوَلِّدَةُ لالَّة إِطُّو، ذاتُ التَّجْرِبَةِ الطَّويلَةِ في التَّوْليد، مِن اسْتِعْصاءِ الْوِلادَة وافَقَتْ عَلى أَنْ تُنْقَلَ أُمِّي عَلى وَجْهِ السُّرْعَةِ إِلى المسْتَشْفى الْمُتَواجِدِ بِبَيْنَ الْويدانْ الْخاصِّ أَصْلًا بالْفَرَنْسِيّينَ الْمُشْرِفينَ عَلى بِناءِ السَّدِّ، وَأُسَرِهِمْ، بِالْإِضافَةِ إِلى الْعامِلينَ في هذا الْمَشْروعِ الضَّخْمِ مِنَ الْمَغارِبَةِ الَّذين يَتَعَرَّضونَ لِحَوادِثِ الشُّغْلِ.
حَكَت جَدَّتي، الَّتي صاحَبتْ أُمّي لِمَسافَةٍ تُقَدَّرُ بِثَمانيةِ كيلومِتْراتٍ في سَيارةِ الْإسْعافِ (جيبْ) الَّتي كانَ يَقودُها سائِقٌ فَرَنْسِيٌّ بِسُرْعَةٍ فائِقَةٍ، أَنَّ وِلادَتي، الَّتي أَشْرَفَ عَلَيْها طَبيبٌ فَرَنْسي، تَمَّتْ بِفَضْلِ الْجِراحَةِ، وَبِمُساعَدَةِ مُوَلِّدَةٍ مِنْ ذاتِ الْجِنْسِيَّة. هذِهِ الْأَخيرَةُ أَمْسَكَتْني، بَعْدَ خُروجي إِلى الْوُجودِ، مِنْ قَدَمي، ثُمَّ قامَتْ بِغَطْسي في آنِيّةٍ مَليئَةٍ بْالْماءِ الْباردِ لِبرْهَةٍ خاطِفَةٍ، بَعْدَها تَمَكَّنْتُ مِنْ أَنْ أَصْرُخَ صَرْخَتي الْأولى، أَمّا أُمّي فَبَعْدَ أَنْ تأكَّدَتْ مِنْ أَنَّني حَيٌّ، اسْتَسْلَمَتْ لِنَوْمٍ عَميق، لأَنها لَمْ يُغْمَضْ لَها جَفْنٌ ثلاثَ لَيالٍ. كانَ ذلِكَ في مَطلَع الخَمْسينِيّاتِ مِنَ القَرْنِ الماضي (1953)، وَوِلادَتي تُقْرَنُ في الْوَسَطِ الْعائِلي بِانْتِهاء الْأَشْغالِ في السَّد.
وَأَنا طِفْلُ في غيابِ الضَّروريِّ، كَما الْآن، مِنْ أَيِّ تَلْقيح يُذْكَرُ، كُنْتُ، كَمَواليدِ ذلِكَ الزَّمانِ في الْمَغْرِبِ الْمهَمَّشِ الْعَميقِ، مُعَرَّضًا لِمُخْتَلَفِ الْأَمْراضِ، وَالْعلاجُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ التَّداوي بالْأَعْشابِ وَالْكَيِّ، وَالتَّضَرُّعِ لِلْأَوْلياء، وَمَنْ تُساعِدُهُ مَناعَتُهُ يَعيش، وَمَنْ تَخُنْهُ يَموت. حَدَثَ ذلِكَ لي مَعَ أَخي صالَح. كِلانا لَمْ يَتَجاوَزْ سَبْعَ سَنواتٍ عِنْدَما أَلَمَّ بِنا مَرَضٌ عَويصٌ لَمْ يَنْفَعْ مَعَهُ الطِّبُّ الْمُتَداوَلُ مِنْ أَعْشابٍ، وَلا ما قَرَأَهُ الْأَبُ الفَقيهُ مِنْ آياتِ الذِّكْرِ الْحَكيمِ عَلى رَأْسَيْنا. لَمْ يَنْفَع الْكَيُّ الَّذي ضاعَفَ آلامَنا. لَمْ تَنْفَعْ زِيارَةُ الْأَوْلِيّاء. كُنّا نَتَقَيّأُ بِاسْتِمْرار، وَبَعْدَ أَيّامٍ نَهَضْتُ مِنْ ذاتِ الْفِراشِ الَّذي كُنْتُ فيهِ مَعَ أَخي، أَمّا هُوَ فَقَدْ غادَرَ إِلى دارِ الْبَقاءِ. بَكَتْ أُمّي كَثيرًا، وَاعْتَقَدَتْ أَنَّ الْعَيْنَ هِيَ الَّتي أَوْدَتْ بِحَياتِهِ، لِفَرْطِ وَسامَتِه، وَلَمْ يُخَفِّفْ مِنْ تَعاسَتِها وَأَحْزانِها غَيْرُ اعْتِقادِها أَنَّ طِفْلَها الْمُتَوَفّى سَيَكونَ طائِرًا مِنْ طُيورِ الْجَنَّة، كَما أَكَّدَ لَها الْآتونَ مِنْ الْمُتَنِ الصًّفْراء.
اِلْتَحَقْتُ، كَأَبْناء تِلْكَ الْحِقْبَةِ، بِالْكُتّاب في مَسْجِدِ الْبَلْدَة. كان أَبي في تِلْكَ الْفَتْرَةِ هُوَ الْفَقيهُ الَّذي يَؤُمُّ النّاسَ في الصَّلوات، وَيُعَلِّمُ الْأَطْفال أَبَجَدِيَّةَ الْكِتابةِ وَالْقِراءَة، وَحِفْظَ وَاسْتِظْهارَ آياتِ الذِّكْرِ الْحَكيم. كانَ يوقِظُني في الصَّباحِ الْباكِرِ، وَهُوَ يَقْصِدُ الْمَسْجِدَ لِلصَّلاةِ بِالنّاسِ صَلاةَ الْفَجْر. لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ هَيِّنا عَلى طِفْلٍ في حاجَةٍ لِلنَّوْمِ، خاصَّةً عِنْدَما يَكونُ الْفصْلُ شِتاءً، بِحَيْثُ يَكونُ تَوْقيتُ صلاةِ الْفَجْرِ في عِزِّ الظُّلْمَةِ وَالزَّمْهريرِ وَالْأَمْطار.
كُنْتُ أَلْتَصِقُ بِتَلابيبِ أَبي، وَنَحْنُ نَقْصِدُ الْمَسْجِدَ الذَّي يَبْعُدُ عَنّا مَسافَةً دونَ الْكيلومترِ الْواحِد، في مَسْلَكٍ ضَيِّقٍ لا يَسْمَحُ بالتَّجاوُرِ مَشْيًا، كانَ الْخَوْفُ مِنَ الْأَشْباحِ الَّتي اسْتَوْطَنَتْ مُخَيِّلَتي بَعْدَ أَنْ تَسَرَّبَتْ مِنْ حِكاياتِ الْجَدّات، وَكانَ هذا الْخَوْفُ يَزْدادُ كُلَّما اقْتَرَبْنا مِنِ المَقْبَرَةِ الَّتي تُحيطُ بِالْجامِعِ مِنْ كُلِّ الْجِهات. كُنْتُ أرْتَجِفُ رُعْبًا، لِأًنًّني أَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَوْتى يَشْخَصونَ بِعُيونِهِمْ في جَسَدي الْغَضِّ الصَّغير، وَالْمانِعُ مِنْ إِلْحاقِ الْأَذى بي هُوَ أَنَّ أَبي حامِلٌ في صَدْرِهِ كَلامَ اللهِ الْحافِظ مِنْ كُلِّ مَكْروه.
يَأْتي أَطْفالٌ آخَرونَ مَعَ آبائِهِم، مِنْهُمْ مَنْ يَتَثاءَبُ مُغالِبًا النُّعاسَ الْمكَدَّسَ بِشَكْلٍ مَلْحوظٍ عَلى الْجُفونِ، وَالبَعْضُ الْأخرُ أَكْثَرُ شَقاءً لِأَنَّ مَساكِنَهُمْ بَعيدَةٌ عَنِ الْمَسْجِد. مِنْ لَحَظاتِ الْخَوْفِ الشَّديدِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فَزَعًا حَقيقِيًّا، هُوَ عِنْدَما يُكَلِّفُنا الفَقيهُ في الغَبَشِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّباحِ بِالْإِتْيانِ بِبَعْضِ اليابِسِ مِنَ الْحَشائِشِ، أَيْ مِنْ فَوْقِ القُبورِ المتَواجِدَةِ في عَتَبَةِ المسْجِد. يَضَعُها بِإِتْقانٍ تَحْتَ كَوْمَةٍ مِنْ قِطَعِ الْخَشَبِ، ثُمَّ يُشْعِلُ النّارَ في الْمَوْقِدِ الَّذي تَتَواجَدُ فَوْقَهُ آنِيَّةٌ نُحاسِيّةٌ كَبيرَةٌ مَمْلوءَةٌ بِالماءِ السّاخِنِ الضّروريِّ لِلْمصَلِّينَ مِنْ أَجْلِ الوُضوء، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتاجُ إِلى الْوُضوءِ الْأَكْبَرِ، فَيَتِمُّ الاغْتِسالُ في بُيوتاتٍ صَغيرَةٍ مُسَخَّرَةٍ لِهذا الْأَمْر.
يَكْتُبُ الْفَقيهُ لْكُلِّ تِلْميذٍ (أَمَحْضارْ)، حَسَبَ مُسْتَواه، لَوْحَه، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَظْهِرَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ قَبْلَ شُروقِ الشَّمْسِ: مَوْعِدُ الذَّهابِ إِلى الْمنازِلِ لِتَناوُلِ وَجْبَةِ الفُطور، وَالْعَوْدَةُ مَرَّةً أُخْرى إِلى الكُتّابِ مِنْ أَجْلِ حِفْظِ لَوْحٍ آخر، وَمَنْ لَمْ يَفْلَحْ يُحْرَمُ مِنَ الْفُطورِ كَعِقابٍ لَهُ، بِحَيْثُ لا يُسْمَحُ لَهُ بِالذَّهابِ إِلى بَيْتِهِ.
هذِهِ الْأَلْواحُ نَقومُ بِطَلْيِها بِالصَّلْصالِ المتَواجِدِ في الْبِئْرِ المُجاوِرَةِ للمَسْجِد، ثُمَّ تُتْرَكُ بَعْضَ الْوَقْتِ لِتَجِفَّ، بَعْدَها يَكْتُبُ الْفَقيه بِقَلَمِ الْقَصَبِ والسَّمْخِ بَعْضًا مِنَ الْآياتِ، وَهُوَ يَعْرِفُ مُسْتَوى كُلِّ طِفْل، وَأَثناءَ الْحِفْظِ الْجَماعي يُراقِبُ الفَقيهُ كُلَّ الْأَطْفال، وَمَنْ شَرُدَ عَنْ لَوْحِهِ نَبَّهَهُ ِ شَفَهِيًّا، وَإِنْ تَمادى في سَهْوِهِ نَزَلَ على رَأْسِهِ الْحَليقِ بِضَرْبَةِ خاطِفَةٍ، وَسيلَتُهُ في ذلكَ عَصًا دَقيقَةٌ لَيِّنَةٌ طَويلَةٌ بِإِمْكانِها أَنْ تَصِلَ أَيَّ رَأْسٍ بَيْنَ الْجَماعَةِ بِدونَ خَطَإٍ يُذْكَرُ، لِأَنَّ الفَقيهَ راكَمَ تَجْرِبَةً في جَلْدِ الرُّؤوس.
في غِيّابِ الْمدْرَسَةِ في بَلْدَتِنا كانَ الْمَلاذُ الْوَحيدُ لِلتَّعَلُّمِ هُوَ الْكُتّاب. أَقْرَبُ مَدْرَسَةٍ توجَدُ عَلى نَحْوِ سَبْعَةِ كيلومِتْراتٍ بِقَرْيَةِ واوِيزَغْتْ، ولا أَحَدَ مِنَ الْآباءِ أَقْدَمَ عَلى إِلْحاقِ طِفْلِهِ بِهَذِهِ الْمَدْرَسَةِ لِطولِ الْمَسافَةِ وَصِغَرِ السِّن، وَيَزْدادُ الأَمْرُ خُطورَةً في مَوْسِمِ الشِّتاءِ وَالرُّعودِ والسُّيولِ الْجارِفَةِ وَقَسْوَةِ الْأَنْواء.
في مَطْلَعِ السَّتّينِيّات شُيِّدَتْ مَدْرَسةٌ ابْتِدائِيَّةٌ، وَهي مُلْحَقَةٌ بِمَجْموعَةِ مَدارِسِ بَيْنَ الْويدانْ. تَتَكَوَّنُ مِنْ فَصْلَيْنِ مُرَبَّعَيْنِ كَبيرَيْن، وَعَلى جانِبِ كُلٍّ مِنْهُما غُرْفَةٌ مُسْتَطيلَةٌ، واحِدَةٌ يَقْطُنُ فيها مُعَلِّمٌ أَوْ مُعَلِّمان، وَالثّانِيَّةُ فَضاءٌ مَفْتوحٌ يَأْوي التَّلاميذَ في انْتِظارِ الالْتِحاقِ بِالفَصْلِ خاصَّةً في فَصْلِ الشِّتاء، أَمّا أَيّام اشْتِدادِ الْحَرارَةِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَظِلّونَ بِالشَّجَرَةٍ الْوارِفَةِ الظِّلالِ الْمتَواجِدَةِ في عَيْنِ الْمَكان.
التَحَقْتُ كَباقي أَطْفالِ بَلْدَةِ أَيْتْ حَلْوانْ وَبَلْدَةِ أَيْتْ عْلي أُمْحَنْدْ بِالمَدْرَسَةِ، وَمِنّا مَنْ تَجاوَزَ سِنَّ التَّمَدْرُسِ بِسَنَواتٍ عِدَّةٍ. كانَ كُلُّ شَيْءٍ جَديدًا، بِحَيْثُ انْخَرَطْنا في حَياةٍ مَدْرَسِيَّةٍ مُدْهِشَةٍ غَيَّرَتْ كَثيرًا مِنْ عاداتِنا وَسُلوكِيَّاتِنا، بَدْءًا بِالْانضِباطِ في الصَّفِّ، وَتَحِيَّةِ الْعَلَمِ، وَنَظافَةِ الْبَدَنِ وَالْملْبَسِ، وَتَعَلُّمِ الُّلغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ الُّلغَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، بِالْإِضافَةِ إِلى فَضاءِ التَّمَدْرُسِ الْمُزَيَّنِ بِصُوَرٍ زاهِيَةِ الْأَلْوانِ لِمَناظِرِ الطَّبيعَةِ وَمُخْتَلَفِ الْحَيَواناتِ والطُّيور، وَأَعْلى السَّبّورةِ صورَةٌ لِمُحَمَّدِ الْخامِسِ وَأُخْرى لِابْنِهِ الْحَسَنِ الثّاني. عَلى الْمُسْتَوى الْبَصَري دائِمًا أَثارَ تْ انْتِباهَنا، في زاوِيَّةٍ قريبًا مِنْ مَكْتَبِ مُعَلِّمِنا، وَرَقَةٌ كَبيرَةٌ مِنَ الْوَرَقِ الْمُقَوّى مُرَبَّعَةٌ، مَليئَةٌ عَنْ آخِرِها بِمُرَبَّعاتٍ وَمُسْتَطيلاتٍ مَكْتوبَةٌ فيها بِخَطٍّ صَغيرٍ أَشْياءُ لَمْ نَتَبَيَّنْها، لِأَنَّ لا أَحَدَ مِنّا يَجْرُؤُ عَلى الاقْتِرابِ مِنْها، لِأَنَّها بِمَثابَةِ لُغْزٍ لا نَعْرِفُ سِرَّ تَواجُدِها، وَحِرْصِ الْمُعَلِّمِ عَلَيْها، هِيَ وَأَوْراقٌ أَصْغَرُ مِنْ ذاتِ الْوَرَقِ الْمُقَوّى، بِحَيْثُ غَلَّفَها بِبْلاسْتيكٍ شَفّافٍ حَتّى لا تَتَّسِخَ أَوْ يَعْلوها الْغُبارُ. عَلِمْنا في ما بَعْدُ، عِنْدَما غادَرْنا تِلْكَ الْمَرْحَلَة، أَنَّ تِلْكَ الْأَوْراقَ تَتَعَلَّقُ بِالسَّبّورَةِ المرْجِعِيَّةِ، وَتَشْمَلُ التَّوْزيعَ السَّنَوِيَّ لِلدُّروسِ، وَالتَّوْزيعَ الشَّهْرِيَّ ثمَّ الْجَدْوَلَ الدِّراسيَّ، وَأَخيرًا لائِحَة الْمَحْفوظاتِ وَالْأَناشيد.
كُنّا كَمَن انْتَقَلَ مِنْ عالَمِ الْبَداوَةِ الْخالِصِ إِلى عالَمٍ يَخْتَلِفُ كُلِّيًّا عَمّا كُنّا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، أَصْبَحَتْ لَدَيْنا وِزْرَةٌ وَمِحْفَظَةٌ فيها الدَّفاتِرُ الزّاهِيَّةُ بِأَغْلِفَتِها الْمخْتَلِفَةِ الْأَلْوانِ والطَّباشيرُ وَالْأَقْلامُ الْمُلَوَّنَةُ وَالّلوحُ الْأَسْوَدُ الصَّغيرُ (الَّذي نَحْرِصُ أَلّا يَنْكَسِرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كَأَلْواحِ الْقَصْديرِ وَالْبْلاسْتيكِ الَّتي جاءَتْ في ما بَعْدُ)، بِالْإِضافَةِ إِلى كِتابِ اِقْرَأْ لِأَحْمَد بوكَماخْ، الَّذي أَدْهَشَنا أَيَّما إِدْهاشٍ، لِأَنَّهُ يَبْدو لَنا، وَنَحْنُ أَبْعَد ما يَكونُ عَنْ عَوالِمِهِ، كَما لَوْ أَنَّهُ جاءَ مِنْ زَمَنٍ آخَرَ غَيْرِ زَمَنِنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.