«الفقيد الكبير المؤسس الوطني الديمقراطي التقدمي، مولاي المهدي العلوي، إنها لحظة مهيبة ورهيبة ، لكنها عالية الدلالة والرمزية لنقف اليوم في الطابق الخامس للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي وهبه الفقيد مولاي المهدي كل جوهرة حياته ومرجانة تفكيره ووهبه ما ملكه من شباب وحيوية وحكمة وتجذر وصفاء، كان من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، سويا مستقيما يسير . ولم يعرف الصدأ معدنه، وكان علما من الأعلام وكان مدرسة حقيقية وكان قويا بالدفاع عن قضية فلسطين ووطنيا مدافعا عن القضية الوطنية ومدافعا عن الديمقراطية ووفيا في معانقة الحياة»، بهذا التقديم افتتح عبد الحميد جماهري، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اللقاء الاحتفائي بالذكرى الأربعينية لوفاة المناضل الوطني الكبير مولاي المهدي العلوي، بحضور عائلته وأصدقائه والمناضلين والمناضلات والعديد من الوجوه الديبلوماسية و النسائية، حيث تم إلقاء كلمات وشهادات في حق الراحل لكل من إدريس لشكر، الكاتب الأول للحزب، وعائلة الفقيد، وجمال الشوبكي، سفير فلسطين بالمغرب، ومحمد بنمبارك صديق العائلة والمرحوم ….. الكاتب الأول إدريس لشكر:رجل الدولة، ومناضل الحركة الوطنية، ومهندس الظل في دبلوماسية ما بعد الاستقلال اسمحوا لي، في مستهلّ هذه الكلمة، أن أعرب عن بالغ حزني لرحيل الفقيد الكبير، مولاي المهدي العلوي، أحد القامات الوطنية البارزة، وواحد من رجالات الاتحاد الاشتراكي المؤسسين الأفذاذ. لقد شكّل رحيله خسارة فادحة للمغرب، وللحزب وذاكرته النضالية والتاريخية، إذ فقد الوطن رمزًا من رموزه الراسخة في النضال والسياسة والعمل الديبلوماسي، ورُزِئ في رجل ترك بصمات عميقة في المسار الوطني، وسكن الذاكرة الجماعية بما قدمه من تضحيات ومواقف وإنجازات تُخلده في وجدان الوطن، وفي سجل الوطنية والدفاع المستميت عن قضاياه، وعلى رأسها قضية الصحراء والقضية الفلسطينية. مولاي المهدي العلوي، رجل الدولة، ومناضل الحركة الوطنية، ومهندس الظل في دبلوماسية ما بعد الاستقلال. لم يكن مولاي المهدي مجرّد اسم عابر في لائحة الفاعلين السياسيين المغاربة، بل كان أحد صُنّاع الزمن المغربي الحديث، منذ ما قبل الاستقلال. وكان، ممن جمعوا بين الصدق النضالي واللباقة السياسية، وبين الكياسة الدبلوماسية ووفاء للذاكرة الوطنية والالتزام الحزبي، ويحب الأثر العميق بصوت خافت. لم يَسعَ يوماً إلى الأضواء، ولم يكن ممن يطلبون التمجيد أو يتغذّون على النجومية السياسية أو النضالية. عاش بهدوء، وعمل في صمت، وتكلّمت عنه أفعاله ومواقفه وإنجازاته. وها نحن في الذكرى الأربعينية لرحيله، نستحضر رجلا اختار أن يكون جسرا وطيدا ممتدا بين النضال السياسي الحزبي وبين قضايا الوطن ورهاناته والتحديات المطروحة عليه، لإيمانه الراسخ بأن «قوة التغيير الديمقراطي» لن تتأتى إلا بالتوافق بين زعماء الحركة الوطنية والمؤسسة الملكية على قاعدة التحرير والديمقراطية وبناء المستقبل، وبالانتصار الشامل للنقد والحقيقة. انخرط في سن مبكرة في الحركة الوطنية، ضمن صفوف حزب الاستقلال، وكان شاهدا، منذ طفولته، على التحولات الكبرى التي عرفها المغرب قبيل وبعد الاستقلال. نشأ وترعرع وسط نقاشات فكرية وسياسية عميقة جمعت خيرة شباب تلك المرحلة، من بينهم المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، الذين سيصبح أغلبهم، فيما بعد رموزاً لميلاد حزب الاتحاد ، حين أفضت لقاءات ممثلي الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وعناصر من حزب الشورى والاستقلال وممثلي النقابة والمقاومة وجيش التحرير، إلى عقد مؤتمر تأسيسي بتاريخ 6 دجنبر 1959 تمخض عنه تأسيس «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية». كانت علاقة الراحل مولاي المهدي العلوي بالشهيد المهدي بنبركة صداقة متينة، وعلاقة احترام فكري وشخصي، مبنية على الثقة والكفاءة والنزاهة والإنصات، وقائمة على تقدير المشروع الاشتراكي التقدمي الذي كان ينحته القيادي الحزبي بشجاعة نادرة. ولعل هذا ما دفع «بنبركة» إلى اقتراح تعيينه ناطقا رسميا باسم الحكومة، في حكومة «عبد الله إبراهيم» رحمه الله في دجنبر 1959. ومن اللحظات الفارقة التي قضاها مولاي المهدي العلوي رفقة الشهيد بنبركة، نذكر يوم 16 نونبر 1962، حين كانا معا على متن سيارة «فولسفاكن» في طريق العودة من الدار البيضاء إلى الرباط، بعد عودتهما من لقاء تأطيري حول موقف الحزب من الاستفتاء على الدستور، فتعرضا في منطقة وادي الشراط، لمحاولة اغتيال، بعدما صدمتهما سيارة كانت تتعقبهما بقوة كبيرة، ثم لاذت بالفرار. من بين الصفحات المضيئة في سيرة مولاي المهدي العلوي، تلك المتعلقة بتجربته في الاعتقال السياسي في ستينيات القرن الماضي، إذ بعدما حقق حزب الاتحاد نتائج باهرة في انتخابات 1963، تحركت سلطات وزارة الداخلية لقمع المناضلين الاتحاديين وترهيبهم، وكان المناخ العام، آنذاك، مشحونًا بالتوتر بين الدولة والمعارضة. وأمام تأجج الآلة القمعية، قرر «عبد الرحيم بوعبيد»، الدعوة إلى اجتماع اللجنة الإدارية يوم 16 يوليوز 1963 بمقر الحزب بزنقة «ماجلان» بالدار البيضاء، لطرح المشكل ومناقشة أوضاع الحزب مع مسؤولي الفروع الذين كانوا يشتكون من كل أصناف التنكيل والمضايقات، في اجتماع مشهود ترأس أشغاله الفقيد الكبير «عبد الرحمن اليوسفي». غير أن رجال البوليس كسروا الأبواب واقتحموا المقر واقتادوا الجميع كوميسارية «المعاريف» بالدار البيضاء، وكان الفقيد مولاي المهدي من بين المعتقلين في سياق ما يعرف ب»مؤامرة 1963 الوهمية». اقتيد المهدي العلوي رفقة أكثر من 90 مناضلا إلى دار المقري، وكانت الأسئلة كلها تدور حول السلاح والمهدي بنبركة والمؤامرة. ورغم ما عاشه هناك من أهوال، في سياق تضييق الخناق على الأصوات المعارضة، فلم ينظر مولاي المهدي العلوي إلى الحادثة من زاوية الثأر، بل ظلّ يستحضرها كدليل على هشاشة اللحظة السياسية آنذاك، وضرورة التحصن بالمؤسسات والاستناد إلى الحوار بين المؤسسة الملكية والحزب ومأسسة الإصلاح والدفاع عن الديمقراطية. لم يكن التزام مولاي المهدي العلوي حبيس الحدود الوطنية، بل امتد نشاطه منذ وقت مبكر إلى القضايا القومية الكبرى وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، فكان من الوجوه المغربية البارزة في اتحاد المحامين العرب، الذي كان في الستينيات والسبعينيات أحد أهم الإطارات النضالية والنقابية العربية. حيث كان دائم الحضور في أنشطة اتحاد المحامين العرب، دفاعا عن قيم الحرية والمساواة والعدالة والإنصاف، الذي كان قد أصبح عضوا ملاحظا بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف. وهناك التقى العديد من الشخصيات السياسية والمحامين والحقوقيين العرب من مصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وكان يعمل بنشاط كبير مما أدى إلى خلق قوة تأثير بعنوان مغربي في كل المحطات التي مرَّ منها هذا التنظيم، سواء تحت الرئاسة المصرية أو في ظل الرئاسة العراقية بعد توسيع الاتحاد، ليضم، علاوة على المحامين، هيئات القضاة وأساتذة الحقوق في الجامعات، وإلى بلورة خطاب قانوني وحدوي يؤمن بأن العدالة ليست فقط مبدأً قانونيًا، بل قضية تحررية. شارك العلوي في ندوات ومؤتمرات اتحاد المحامين العرب ثم اتحاد الحقوقيين العرب، وكان دائم الحضور في اللجان القانونية الخاصة بفلسطين، ودافع عن حق الشعوب العربية في تقرير مصيرها ومناهضة الاستعمار، سواء في الجزائر أو فلسطين أو جنوب اليمن. وقد أتاحت له هذه التجربة أن يطوّر لغة حقوقية وقومية في آن معًا، وأن يوسع شبكته المعرفية والسياسية في العالم العربي، وهي العلاقات التي أفاد منها لاحقًا في مساره الدبلوماسي، وخصوصًا في بناء جسور بين المغرب والأنظمة العربية ذات التوجه القومي. لقد كان فقيدنا مولاي المهدي العلوي من الأصوات الوطنية الصلبة التي دافعت بحزم ووضوح عن قضية الصحراء المغربية، منذ بدايات النزاع الإقليمي وحتى مراحل التعقيد الدولية. وفي مناسبات عدة، سواء من داخل البرلمان، أو عبر منصبه الدبلوماسي كممثل دائم للمغرب في الأممالمتحدة، كرّس جهوده لتثبيت حق المغرب في صحرائه، مسلطًا الضوء على الأبعاد التاريخية والقانونية للملف، ومؤكدًا على وحدة التراب المغربي، إيمانا منه بأن قضية الصحراء قضية شعب متشبث بوحدته الترابية، وأن القضية تدخل ضمن نطاق البيعة والعقد السياسي الذي يربطه. فالمغاربة عبروا في أكثر من مناسبة عن إدراكهم لقواعد اللعبة في المنطقة المغاربية، واستوعبوا جيدا حملات التضليل التي يمارسها الخصوم معتبرين أن أي مس بوحدتهم الترابية هو مس بكيانهم الوطني وهويتهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم. ففي جلسات الأممالمتحدة، وأمام سفراء الدول الكبرى، كان مولاي المهدي العلوي من موقعه، كممثل دائم للمغرب، من المتحدثين الحريصين على شرح التعقيدات والتحديات التي تواجه المغرب، وعلى الدعوة إلى الحل السياسي الذي يحترم سيادة المغرب وحق شعبه في وحدته الترابية. كما ساهم، بشكل مباشر وغير مباشر، في تنسيق مواقف الدول الصديقة والداعمة للقضية المغربية، مستفيدًا من علاقاته الواسعة مع الدبلوماسيين العرب والأفارقة. ولم تقتصر مساهمة الراحل المهدي العلوي على الجانب الرسمي فقط، بل كان ناشطًا في الفضاءات الفكرية والثقافية، حيث دعم المبادرات الهادفة إلى تعزيز الوعي الوطني بقضية الصحراء، وتكريس فكرة السيادة الوطنية في الوجدان الجماعي. وظل من المدافعين عن ضرورة الجمع بين القوة الدبلوماسية واليقظة الوطنية، مؤمنًا بأن القضية ليست فقط قضية أرض، بل قضية هوية وسيادة وكرامة. وهذا ما كرسه بعد تعيينه سفيرا للمغرب في هولندا ثم بعد ذلك في الأردن. لقد ظل الراحل، رغم انسحابه من الفعل التنظيمي اليومي، على صلة وثيقة بالحزب ورجالاته وقيادييه، كما ظلّ في موقع «الذاكرة الحية» التي نعود إليها عند اللحظات المفصلية. ذلك أننا قمنا بزيارته في مناسبات مختلفة، وعبرنا عن احترامنا الكبير له، وتقديرنا لمساره النضالي والمهني، ليس لأنه من رواد الاتحاد المؤسسين فقط، بل لأنه أكد في غير ما مناسبة أنه حلقة وصل بين جيل الشرعية التاريخية ومراحل التطور المؤسساتي الذي عاشه حزبنا. لقد ظل مولاي المهدي العلوي، طيلة حياته، بمنأى عن الحسابات الضيقة، منتصرا للعمل العقلاني، ومدافعا على الحوار الديمقراطي والمؤسساتي، كما أنه لم يتردد في تقديم المشورات والنصائح الهادئة لإخوانه، من موقعه تجربته وإنصاته لما يمور في الحقل السياسي من تحولات، لا سيما خلال المحطات الانتخابية أو اللحظات التي تطلبت وقوفًا أخلاقيًا أو خطابًا وطنيًا جامعًا. لقد ظل الفقيد إلى آخر حياته الزاهرة وفيًا لروح الاتحاد، وقد بادلته القيادة الحزبية هذا الوفاء، فنعاه الحزب رسميًا باعتباره من «رجالات الرؤية والتوازن»، وركنًا من أركان الذاكرة الاتحادية الرفيعة. وها نحن في الذكرى الأربعينية لرحيله، نقف بإجلال أمام رجل لم يدّع البطولة، لكنه عاشها. مولاي المهدي العلوي، الاسم الذي عرف كيف يمر بيننا بنضالية عالية، وكيف يحرس المبادئ، وكيف ينتصر للتوافق دون صخب، وكيف يخدم الوطن ويختاره على كلّ ما سواه، وكيف يقنع بهدوء. نم قرير العين فقيدنا الكبير مولاي المهدي العلوي، أيها الوطني الغيور، والرجل الشهم، والديبلوماسي النبيل، فقد عاهدت ووفيت.
يوسف العلوي: وفاء الحزب لذكرى مناضليه الأوفياء يُجسد السمو الأخلاقي والسياسي للاتحاد الاشتراكي بصفتي نجل الفقيد مولاي المهدي العلوي، ألقي كلمتي اليوم بمشاعر عميقة تختلط فيها الحزن بالامتنان، وذلك بمناسبة مرور أربعين يومًا على وفاته. وأود، من هذا المكان الذي يزخر بالتاريخ والذاكرة، أن أتوجه بتحية احترام وتقدير لكل من شرفنا بحضوره في هذه الذكرى التأبينية: 1. الأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، 2. سعادة سفير دولة فلسطين بالمملكة المغربية، 3. الأستاذ مصطفى الكثيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، 4. أعضاء المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، 5. مناضلات ومناضلو الحزب، 6. وأنتم جميعاً، أفراد العائلة، والأصدقاء، والرفاق، وكل من شاركنا هذا الموعد. ويسعدني، باسمي واسم عائلتي، أن أعبر عن عميق امتناننا للأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، على مبادرته النبيلة وتنظيمه لهذه اللحظة التأبينية المهيبة هنا، في مقر القوات الشعبية. إن هذا الموقف النبيل له دلالة رمزية عظيمة. فهو يعكس ليس فقط وفاء الحزب لذكرى مناضليه الأوفياء، بل يُجسد أيضًا السمو الأخلاقي والسياسي للاتحاد الاشتراكي، والقمم التي لا يزال يرفعها وفاءً لأولئك الذين جسدوا قيمه ومبادئه. ولا يفوتني، في هذا السياق، أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى السيد محمد بنبارك، الذي كان إلى جانب الفقيد نائبًا له في عمّان، ثم مستشاره الأمين في كتابة مذكراته. لقد جمعت بينهما علاقة وفاء وصداقة نادرة، نعتز بها ونثمّنها بصدق وامتنان. وفي هذا السياق المليء بالمعاني، وباسم عائلتي وباسمي الشخصي، أود أن أتوجه بخالص الشكر وعظيم الامتنان إلى صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، على العناية الملكية السامية التي ما فتئ جلالته يحيط بها الفقيد طيلة حياته، وعلى رسالته الملكية المفعمة بالمواساة والتعاطف، والتي كانت لها أبلغ الأثر في التخفيف من وقع المصاب الجلل علينا جميعاً. ووفاءً لهذا التقدير الملكي الكريم، اسمحوا لي أن أتلو عليكم نص رسالة التعزية التي تفضل بها جلالة الملك، أعزه الله مصطفى الكثيري :ظلَّ حريصا ومُواكبا ومتابعاً لكل الأحداث والقضايا السياسية الوطنية والدولية الحمد لله المنفرد بالدوام والبقاء والصلاة والسلام على من أرشدنا إلى ما ينبغي أن نكون عليه عند نزول القضاء وعلى آله وصحبه الصابرين المحتسبين. يقول الله عز وجل في محكم كتابه المبين: « من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا « صدق الله العظيم. تشاء إرادة الله سبحانه وتعالى أن يغادرنا إلى دار الخلد ونعيم البقاء رمز من رموز العمل الوطني والسياسي ورجال الدولة والعمل الدبلوماسي، من أبناء مدينة سلا مولاي المهدي العلوي، الذي نؤبنه اليوم في هذا المحفل المهيب وقلوبنا مكلومة من هذا المصاب الجلل الذي لا راد لقضاء الله فيه؛ وليس لنا من عزاء في الفقيد العزيز سوى قول الله سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: «إنك ميت وإنهم ميتون « صدق الله العظيم. ليس من اليسير أن ينطلق اللسان من عقاله وأن تترتب الكلمات وتستوي الجمل وتتراص الفقرات لتشكل نصا يؤبن إحدى الهامات الشامخة والقامات الباسقة لهذا الوطن، كما أنه من العسير أن ترسم صورة لذلك الرجل الآقي الأصل والسلاوي الهوية والمنشأ والتربية، الوطني السريرة والطوية، السياسي الذي لم تجرفه مشاغل السياسة ومخاضاتها عن مجال النضال الوطني، إنه فقيدنا المرحوم الأستاذ مولاي المهدي العلوي الرجل الوطني والسياسي المخضرم والديبلوماسي المحنك والمناضل الصامد.من دوار «الكبابة» ببلدة «آقا» التابعة لإقليم طاطا بالجنوب الشرقي المغربي، تعود أصول مؤبننا اليوم في أربعينيته، وفي تلك التربة الطيبة تمتد جذوره، وفي تلك الجغرافية الشبه صحراوية نمت وكبرت شجرة العائلة. بهذا المكان النائي، يوجد البيت الكبير «كما سماه في مذكراته». وفي تلك البلدة، يقول مؤبننا مولاي المهدي «الناس هُناك بسطاء يعيشون على الكفاف، ودودون ومتضامنون، يعرف بعضهم بعضا ويتواصلون باستمرار عبر طقوس تحفظها الأجيال». هو بِكر أسرته، رأى النور يوم 10 دجنبر من عام 1929 في الدار رقم 8 بزنقة حركات في حي السور بمدينة سلا العامرة وهي الحاضرة التي كانت ملهمته بتاريخها وبوطنييها، بعلمائها ومثقفيها، كما يبوح بذلك. بدأت ملامح التميز تظهر على شخصية مولاي المهدي العلوي منذ سن مبكرة، ففي رحلة له برفقة سي زنيبر لاستقبال والده العائد من الديار المقدسة، وهو لازال في عمر السبع سنوات، اكتشف أن المغرب مقسم إلى ثلاثة مناطق نفوذ؛ فرنسية وإسبانية ودولية.وفي سن الثامنة أو التاسعة من عمره، حظي بشرف السلام على السلطان سيدي محمد بن يوسف بمناسبة إحدى الأعياد الدينية.التحق بصفوف مدرسة «أبناء الأعيان»، في الموسم الدراسي 1936-1937، وبعد حوادث طريفة له مع المدرسين بهذه المدرسة والمدرسة الصناعية، سيلتحق بمدارس جسوس التي وجد فيها أجواء مفعمة بالقيم الوطنية وبالمثل العليا ومكارم الأخلاق والسلوك المدني القويم. عاش أجواء تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، عبر المشاركة في الانتفاضات والمظاهرات رفقة صديقه «سيدي أحمد الشرقاوي» وعدد من شباب مدينة سلا عقب الاعتقالات التي طالت زعماء الحركة الوطنية بالمدينة.وعقب نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف وعائلته الملكية إلى كورسيكا ثم كورسيكا ثم إلى مدغشقر، قاد مؤبننا رفقة الشباب السلاوي مظاهرات عارمة ضد قرار سلطات الإقامة العامة للحماية الفرنسية، وفي دار الباشا «الصبيحي» استمر في تعبئة الشباب بقراءة اللطيف وترديد الشعارات، ليبادر في عز الحماسة و الاندفاع إلى اعتلاء شرفة البناية ليخاطب جموع الحاضرين، داعيا إياهم لأداء القسم التالي: « نقسم بالله العظيم، أن لا نعترف بابن عرفة وأن ملكنا الشرعي هو محمد بن يوسف».بعد نيله شهادة الباكالوريا، انتقل إلى باريس خريف عام 1953 لاستكمال مساره الدراسي، هذه الهجرة المُبكرة ل»مولاي المهدي العلوي» بغرَض الدراسة ولمآرب أخرى؛ ساهمت بشكل كبير في تنمية مَدارِكِه العلمية والمعرفية وتطوير وعيِهِ السياسي والنضالي، وتقوية إيمانِه العميق بعدالة قضيتِنا الوطنية؛ بفضل ما حَباهُ الله تعالى من عزيمةٍ وطموحٍ، ثُمَّ مِن خلال نوعية وقيمة وَوَزن الأشخاص الذين درسَ معهم أو الذين التقى بهم أو تعامل معهم وناضل إلى جانبهم. حيثُ تَرجَمَ هذا الْوَعْيَ إلى فعلٍ ملموسٍ؛ بانخراطِه المُبكر في صفوف الحركة الوطنية، ومُساهمتِه لاحقا في تأسيس الحركة الاتحادية، ومشاركته في مهام نضالية كثيرة قبل الاستقلال وبعده، وهو الذي تحمل وقاسى في سبيل ذلك ما قاساهُ من ألوان المُضايقات والتَّنكيل والسّجن والمنفى والاغتراب، بل ومُحاولة إسكاتِهِ إلى الأبد. وفي كل مرة تشتدُّ عزيمتُه ويتقوى عوده وإيمانُه بصواب اختياراته وقناعاته وعدالةِ قضيته.ظلَّ مؤبننا «مولاي المهدي العلوي» حريصا ومُواكبا ومتابعاً لكل الأحداث والقضايا السياسية الوطنية والدولية. ما مَنحَهُ وعيا شاملا وتحليلا دقيقا ورؤية بعيدةً وحاذقةوحصيفة لمُجريات الأمور؛ هذه المُؤهِّلات جعلته، يتقلد عن جدارة واستحقاق، مَهامَّ ومناصبَ عُليا وسامية؛ حيث أُسندت له مَهامُّ دبلوماسية، تواصلية وتفاوضية داخل المغرب وخارجَه، مِمَّا أتاحَ له إمكانية التعرُّف على شخصيات وزعماء وطنيين من أمثال؛ «علال الفاسي»، «محمد بلحسن الوزاني»، «عبد الخالق طريس»، «عبد الرحيم بوعبيد»، «محمد منصور»، «عبد اللطيف بنجلون»، «عبد الرحمن اليوسفي»، «عمر بنجلون» وغيرهم كثر…، إضافة إلى نخبة من الأدباء والسياسيين بفرنسا، أمثال؛ «فرونسوامورياك»، «روبير بارا»، «جون لاكوتير»، «كلود إيستيي»، «جون روس» وآخرون، وكان يستثمر هذه العلاقات والصداقات للدفاع عن قضايا وطنه وفي مقدمتها عودة السلطان الشرعي إلى وطنه؛ وفي هذا الصدد نشير إلى نجاحه في إقناع شخصيات فرنسية بالانخراط في التعبئة لعودة سلطان المغرب إلى عرشه، من بينهم نذكر بالأخص «فرانسوا مورياك» الذي أرسل بطاقة للسلطان محمد الخامس جاء فيها: « إلى صاحب الجلالة محمد بن يوسف مدغشقر سيدي.. ستعودون إلى عاصمة بلدكم» توقيع «فرانسوا مورياك»، و»روبير بارا»، و»أوريان دو شابوني»، و»المهدي العلوي» و»المهدي زنطار» و»عبد الحق مزور» و»محمد بن جلون». وقد جعلت هذه العلاقات والصداقات من مؤبننا سياسيا وحقوقيا ودبلوماسيا مُحنَّكا، ورجل دولة بامتياز، لا يُفوِّتُ فُرصة ولا مُناسبة في المَحافل الدولية؛ إلا وَيهبّ فيها مُنافِحاً ومُدافعا عن القضية الوطنية الأولى، قضية الوحدة الترابية للمملكة.لقد نذر فقيدنا، مولاي المهدي العلوي، نفسه ووقته لخدمة الوطن منذ حلول جلالة المغفور له السلطان الشرعي سيدي محمد بن يوسف بفرنسا وهو في طريق عودته الميمونة إلى أرض الوطن عام 1955. وفي مطلع الاستقلال، كان مؤبننا عنصرا نشطا في المعترك السياسي الوطني وكان من بين صانعيه والمؤثرين في مساراته وأحداثه، ويمكن الاطلاع على تفاصيل ذلك في مذكراته التي كان للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير شرف إصدارها ضمن منشوراتنا لسنة 2021 ، وهي بعنوان: « مولاي المهدي العلوي: أحداث ومواقف» التي نعدها عِلْماً يُنْتَفَعُ به وتندرج ضمن الصدقات الجارية لمؤبننا، كما أنها فتحت البابَ على مصراعيه أمام المُحققين من المُؤرِّخين والدارسين والباحثين في شعبة التاريخ والعلوم السياسية، للبحث والتَّنقيب والتَّحليل في الكثير من الأحداث، خصوصا ما تعلَّق منها ب»ميلاد الاتحاد» و»الدستور» ومرحلة حالة الاستثناء» و»أحداث الدار البيضاء» و»ثورة الطلاب سنة 1968» و»قضية المهدي بن بركة»، و»المحاولات الانقلابية» و»قضية الصحراء المغربية والوحدة الترابية»…، وذلك إغناءً للمكتبة السياسية والتاريخية والنضالية للمملكة المغربية، وستساهم بلا شك في إطفاء حرقة الأسئلة التي رافقت ولا تزال تاريخ المغرب المعاصر والراهن، منذ الفترة الاستعمارية ومخاض ما بعد الاستقلال. وخلال مسار حياته الحافل بالبذل والعطاء، عرفت طينته ومعدنه، وقد أتيحت لي الفرصة وأنا أضطلع بمهام بكل من الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة الأردنية الهاشمية، أن ألتقي بالرجل، حيث وجدت فيه الإنسان الودود والبشوش والناعم الذي يحسن الاستقبال والترحاب ويتحلى بكرم الوفادة والضيافة، وهو يومها يشغل منصب المندوب الدائم للمغرب بالأممالمتحدة بواشنطن، وعندما كان سفيرا لصاحب الجلالة بالمملكة الأردنية الهاشمية. وكان طبيعيا أن تتوطد العلاقات بيني وبينه إبان مرحلة حكومة التناوب في اللقاءات التواصلية التي دأبنا عليها وفاء وبرورا بالمشترك النضالي بيننا لسنين مضت طبعت علاقاتنا بالتقدير المتبادل والاحترام الدائم والإخلاص للمعتقدات وللقناعات وللمسارات على درب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية التي جمعتنا لسنين وعقود. وتشاء الأقدار أن يجمعنا موسم أداء مناسك الحج للديار المقدسة في سنة 1995 حيث سعدنا معا بالقيام بهذه الفريضة الدينية. واستمرت علاقاتنا واتصالاتنا يطبعها التواصل وإحياء صلة الرحم بيننا وبين عائلتينا التي عرفت العلاقات بينهما أوجها وسموها، وهي مناسبة للتعبير عن الاعتزاز والمودة لرفيقة حياته السيدة رجاء أطال الله عمرها وأبنائه الكرام البررة. ومسك الختام، لا أملك إلا أن أتوجه لفقيدنا العزيز المبرور بدعواتي بالرحمة والمغفرة والرضوان، وأخاطب روحه بالقول: سلام عليك أيها الراحل في الخالدين وسلام عليك في الوطنيين والمناضلين وسلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا إلى جوار المنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. واللهم اسكن فقيدنا جنات الخلد وفردوس النعيم وأحسن وفادته وأكرم نزله والهم ذويه الصبر والسلوان. «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي» . صدق الله العظيم. وإنا لله وإنا إليه راجعون .
جمال الشوبكي: المغرب وفلسطين شركاء في مدينة القدس قال جمال الشوبكي، سفير فلسطينبالرباط، في كلمة له في الذكرى الأربعينية لرحيل المناضل مولاي المهدي العلوي، وهو متأثر بوفاة هذا الرجل: «أنقل مشاعر الصدق والحزن والمواساة إلى أسرة الفقيد الصغيرة والكبيرة في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأصدقائه باسم الشعب الفلسطيني وباسم القيادة الفلسطينية، التي تكن للفقيد الغالي كل التقدير والاحترام، لأن قيادة منظمة التحرير وقيادة الثورة الفلسطينية وعلى رأسهم الشهيد ياسر عرفات عاشوا ، منذ اللحظات الأولى لتشكيل حركة فتح في القاهرة، في تواصل مع الفقيد مولاي المهدي العلوي، وكان من القيادة الوطنية للمناضلين المغاربة المبعدين إلى القاهرة مثل علال الفاسي ومناضلين آخرين، الذين رعوا القيادة الفلسطينية لما كانوا شبابا يافعين. مضيفا أن الراحل شارك، بعد ذلك، في المجالس الوطنية الفلسطينية، وكان يبعث ويشارك باسم المغرب في هذه المجالس، وكما هو فقيد المغرب فهو فقيد فلسطين. وكما هو ناضل من أجل القضية الوطنية المغربية قضية الاستقلال والحرية، فهو نضال لم يقتصر على المغرب فقد ناضل، أيضا، من أجل القضية الفلسطينية وشارك في كل المراحل. في عمله الديبلوماسي في عمان كان يرعى العلاقة الفلسطينية، بكل الجهد، بعلاقاته مع ياسر عرفات، أبو عمار، ومع القيادة الأردنية، وكان يسعى دائما لخلق أجواء إيجابية ويمهد الطريق للثورة الفلسطينية لتشق طريقها سواء لما كان في العالم العربي أو أوروبا، كان مع المحامين العرب يناضل من أجل هذه القضية. ولما كان مندوب المغرب الدائم في الأممالمتحدة، تقدم للحصول على قرار لإدانة الاعتداءات على المسجد الأقصى وتهويد مدينة القدس، وهنا أشير إلى أنني أقول دائما إن المغرب وفلسطين شركاء في مدينة القدس، ليس بالمعنى اللفظي بل بالمعنى المادي لأن المغاربة موجودون في مدينة القدس وشاركوا عبر التاريخ سواء تحرير القدس على يد صلاح الدين، تقدم بهذا القرار ، وهذا القرار أزعج الإسرائيليين الذين اتصلوا بالإدارة الأمريكية، بالرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، الذين اتصلوا بالمغفور له الحسن الثاني لثني المغرب عن تقديم مسودة طلب قرار الذي يدين فيه إسرائيل، وكأن التاريخ يعيد نفسه وتحدث المغفور له الحسن الثاني مع المهدي العلوي وسأله عن الأوضاع وإمكانية تقديم المشروع من عدمه، فقال له قمنا بمرافعة وعمل جاد لدرجة أننا نضمن 14 صوتا من أصل 15 ، فقال له إذن تقدم بالمشروع، وهذا ما حصل في الواقع بتصويت 14 صوت بتبني هذا المشروع إلا أن أمريكا رفعت الفيتو وأوقفت هذا المشروع . وهذا لا يقلل من الجهد الدبلوماسي المغربي الذي قاده هذا المناضل والسياسي والديبلوماسي في أسمى وأرقى موقع دولي. محمد بنمبارك :كانت قضية الصحراء المغربية في صلب اهتمامه وانشغالاته أيها الحضور الكريم الذي أَبَى إِلَّا أن يشاركنا في هذا المحفل المهيب لإحياء الذكرى الأربعينية لرحيل الفقيد العزيز مولاي المهدي العلوي، وهو حضور يأتي تأكيدا لمكانة الفقيد في قلوب هذا الجمع الطيب وكل من لم يسعفه الحضور، تقديرا لمسيرته النضالية، وتعزيزا لقيم الوفاء والروابط الإنسانية التي تجمعنا به، فحياة هذا الرجل كانت زاخرة بالبذل والعطاء والتفاني في خدمة الوطن والقضايا الإنسانية التي آمن بها ودافع ورافع عنها بكل صدق وأمانة ووفاء. فقد وجدت فيه الرجل الطيب الخلوق والشهم وصاحب الشخصية المبهرة، كرس حياته السياسية مدفوعا بمشاعره الوطنية، كان يتوفر على خزان ثري من تجارب الحياة، بما مكنه من الاختيار الصائب والعقلاني في مسيرته. يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه، بسم الله الرحمان الرحيم» من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا» صدق الله العظيم. لا بد لي في البداية أن أتوجه بخالص الشكر إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكاتبه الأول الأستاذ إدريس لشكر على التفضل باحتضان أربعينية الفقيد، في هذا البيت العتيد للاتحادين الذي كان مولاي المهدي العلوي من الرعيل الأول المساهمين في تأسيسه. أود الإشارة في عجالة إلى الظروف والأقدار التي مكنتي من التعرف عن قرب بمولاي المهدي، فقد كانت لي سابق معرفة به، لكن من بعيد كأحد الرجالات الكبار لهذا الوطن، الذين نتابع عادة أخبارهم ونشاطاتهم وكفاحهم، والذين ساهموا في صياغة التضاريس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لبلادنا. ربطتني بالراحل علاقة فريدة ومتميزة، حسب مشيئة القدر،تعود لأوائل شهر غشت 2001 بالعاصمة الأردنية عَمان، لما كان سفيرا لصاحب الجلالة هناك،كانت علاقة عمل ونشاط دبلوماسي مكثف، بصفتي نائبا للسفير، تحولت إلى صداقة وإخاء وتواصل عائلي متين، ظلت مستمرة لم يبددها الزمن ولا الافتراق المهني ولا البعد الجغرافي، بل استمرت العلاقة بيننا مفعمة بالمودة والإخلاص والإخاء والمحبة والتنوع والتجدد والارتباط، مما كان يمدها بكل مقومات الحياة والاستمرارية الحافلة بمشاغل متعددة منها ذي العلاقة بالمهنة وأخرى مرتبطةبالاهتمام بقضايا الوطن بين الماضي والحاضر. تعززت العلاقة بإنجاز الحلم الذي ظل يراود الفقيد لسنوات طوال بكتابة مذكراته، بتعاون مشترك بيني وبين الأديب والمثقف الأخ سعيد منتسب، في كتاب صدر سنة 2021 اختار له عنوان « مولاي المهدي العلوي أحداث ومواقف»، والذي تفضل الدكتور مصطفى الكثيري المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير مشكورا بالإشراف على طباعته، وبتنزيله بكلمة تقديم مقتدرة. تتعدد زوايا تناول شخصية الفقيد مولاي المهدي، فهو السلاوي، الوطني، المقاوم المجاهد، المناضل، المنفي، السياسي، الاشتراكي، الديمقراطي، التقدمي، القومي، القيادي، المحامي، الناشط الحقوقي، البرلماني، الدبلوماسي المخضرم، رجل الدولة المدافع عن القضية الفلسطينيةوالقدس، الوفي، المبدئي، الملتزم المدافع عن قضايا الوطن وعن المبادئ الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، المنشغل بالقضايا المرتبطة بوطنه وبسيرورة المجتمع المغربي، مؤمنا بالأفكار التي يرى أنها تلائم شروط وخصوصية المغرب بنظرة عميقة تحاول الالمام بعناصر الماضي وكيفية تفاعلها من أجل رسم خطاطة للمستقبل، لذلك كنت ألمس أن لديه ميزة فكر استراتيجي استباقي، مبني على فهم عميق منفتح لقضايا الشأن العمومي بشقيه الداخلي والخارجي، كما أن لديه تصورات عميقة حول النسق السياسي المغربي في مختلف تجلياته. مشارب وانشغالات مولاي المهدي العلوي، متنوعة، يلتقي فيها النشاط الحزبي والتجربة النضالية في الميدان السياسي بالعمل من داخل الدولة كدبلوماسي سامي، كمندوب دائم للمملكة المغربية بالأممالمتحدة بنيويورك، ثم كسفير لصاحب الجلالة أولا بمملكة هولندة وثانيا بالمملكة الأردنية الهاشمية، وفي محطة رابعة بصفة، مستشار دبلوماسي بوكالة بيت مال القدس الشريف الذراع المالية للجنة القدس التي يرأسها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، لذلك سأركز في كلمتي على بعض ملامح النشاط الدبلوماسي للراحل، الذي خلف بحق تاريخا مشرفا ومشرقا في مسيرته الدبلوماسية، فما احوجنا إلى رجالات من هذه الطينة المخلصة الوازنة لجهازنا الدبلوماسي. الدبلوماسية هي فن وإبداع ومهارة التحاور وتدبير الخلافات ومنع الاصطدام والسعي لتمتين العلاقات، فحضورها كعامل فاعل يعني السلام والتعاون وتبادل المصالح والحوار والتفاهم والتسوية بين الأمم والشعوب، والابتعاد عن دَوِّي المدافع وصداها، هكذا كانت نظرة مولاي المهدي لهذه المهنة، كان صبورا لا ينساق الى حالة اليأس، مؤمن بأن لكل قضية حل. وأن على الدبلوماسي أن يتحلى بالهدوء ويتقن أحاديثه ويرصد مواقف وهفوات خصمه دون تسرع، كان يقول لي مازحا ونحن بصدد تدبير أحد الملفات الشائكة «الانتظار أحسن مستشار» حتى لا نقع في المحظور. يرشدني هذا التقديم ويحثني على إطلاق سراح بعد ما لدي من أفكار ووقائع مرتبطة ببعض اللحظات البارزة في التاريخ الدبلوماسي الحافل للفقيد السفير مولاي المهدي، الذي تقاسمت معه بعض الأحداث والمواقف ونحن في قلب منطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي ابتليت بالحروب والأزمات والتقلبات في صراع عدائي متواصل متناسل دون هوادة، لم يتسن لأنظمتها وشعوبها بل وحتى قادتها وزعمائها، العيش الآمن المطمئن،والتوافق السياسي ومراعاة المصالح والحقوق والعلاقات المتوازنة فيما بينها، عبر إرساء ثقافة العيش المشترك الآمن والاستقرار والسلام العادل والشامل. اكتسب مولاي المهدي خبرته الدبلوماسية من نشاطه الحزبي وتحركاته كحقوقي وكمناضل حين جال العديد من العواصم العربية والأجنبية مدافعا عن قضية أو رجل أو مبدأ، كان مجاهدا لا يكل، يتمتع بفن الحوار واللياقة والحنكة في الفكر والتخاطب وحسن التدبير واحترام رأي الآخر ، قد يختلف معك في الآليات والأدوار أما الأهداف فواضحة لديه. لا شعبوية ولا مزايدات ولا بطولات وهمية في النقاش السياسي لا سيماعندما يتعلق الأمر بتدبير شؤون ومصالح الوطن. تلكم هي المعاني الأساسية العظيمة التي لمستها في شخصية الفقيد والتي ستظل راسخة في ذهني. كانت قضية الصحراء المغربية في صلب اهتمامه وانشغالاته، فكان التحرك الدبلوماسي لمولاي المهدي يتمحور حول هذا الملف، الذي كان يرى أنه استنزف المغرب لما يقرب من نصف قرن، فكان متابعا دقيقا لكل المراحل التي اجتازها ملف الصحراء في المحافل الدولية أو على الصعيد الإفريقي والعربي والمغاربي، كانت لديه مبكرا تصورات وأفكار واضحة وشجاعة حول الأداء الدبلوماسي المغربي لملف الصحراء. كان مؤمنا بأن الصحراء قضية كل المغاربة ولا تدخل ضمن المجال المحفوظ، وكل من باستطاعته المساهمة في الدفاع وتعزيز الموقف المغربي، مؤمنا بدور وفاعلية الدبلوماسية الموازية. كان يحث على ضرورة مراجعة الأداء الدبلوماسي عبر اختلاق أدوات وأساليب عمل جديدة تربط ما هو سياسي وتاريخي بالاقتصادي والمالي والاستثماري كأدوات دعم وإسناد، متأملا في انتقال الدبلوماسية المغربية من موقع دفاعي إلى هجومي وأن تتحول الى حصد نتائج عبر اقتحام المعاقل التي تتخندق بها الجزائر، في مختلق بقاع القارة الإفريقية وأيضا من داخل منظمة الوحدة الافريقية ودول عدم الانحياز، وقلاع أمريكا اللاتينية حيث حكومات اليسار والمد الشيوعي والدول الراكبة لأطروحة وشعارات تحرير الشعوب وتقرير المصير دون فهم دقيق لحقيقة ملف الصحراء المغربية. وهو ما لمسناه من جهود وما حققته الدبلوماسية المغربية من إنجازات مبهرة في السنوات الأخيرة أربكت الخصوم وحطمت قلاعهم. وعلى ما اذكر كنا بعمان سنة 2002 لما حل الاتحاد الافريقي في 9 يوليوز من نفس السنة محل منظمة الوحدة الإفريقية بعد تجديد ميثاقها وهيكلتها، وقد قال لي بالمناسبة بأن الوقت قد حان لعودة المغرب إلى بيته الافريقي، بعد أن أصبحت سياسة الكرسي الفارغ غير مجدية، وأن على المغرب استرجاع مقعده الهام كدولة إفريقية مؤسسة، لسد الطريق على خصوم وحدتنا الترابية ووضع حد للعبث الجزائري بالمنظمة الافريقية. وضروة تأمين حضور وحركية فاعلة داخل هذا المنظمة. ولما كنا بصدد إعداد مذكراته خلال سنة 2019 ذكرته برأيه قبل 20 عاما وفيما يمكن إدراج هذه السردية ضمن كتابه، فاعتذر وقال لي ليس هناك من داعي لهذا الرأي بعدما اختار جلالة الملك محمد السادس الطريق الصحيح وعاد المغرب بقوة ودينامية وفعالية إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، عودة أثمرت نتائجها منذ السنوات الأولى داخل الحضن الإفريقي. ورآى أن الأمر اليوم مجردتحصيل حاصل ليس إلا. كانت شخصية مولاي المهدي السفير، عجيبة وفريدة منفتحة، حيث كان يشتغل بأسلوبي ومنهاج عمل يعتمد فيه تارة على أسلوب الدبلوماسية الموازية وأخرى الدبلوماسية الرسمية في انسجام فريد واتساق منتظم، لم يتخل عن عباءته النضالية والحزبية المرنة، وهذا ما كان يبحث عنه جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، لما قرر تعيينه بنيويورك كممثل دائم للمغرب بالأممالمتحدة 28 فبراير 1985، في مهمة لإصلاح الأعطاب التي اعترت أداءنا الدبلوماسي من قلب المنتظم الدولي، فقدذهب إلى نيويورك لمواجهة خصوم المغرب بأسلحته الدبلوماسية وخبرته النضالية والحزبية التي راكمها ومعرفته الدقيقة بتفاصيل قضية الصحراء بمبادئ وطنية وأدوات عمل متطورة، ومساهمة من الحزب في الدفاع عن قضية الوحدة الترابية. وعلينا ان نتذكر أن مولاي المهدي كمندوب، اشتغل بحنكة وذكاء وإدراك دقيق واطلاع واسع على مخططات ومؤامرات الخصوم ونسج أيضا على علاقات واسعة مع نظرائه من كافة الدول، مركزا اهتمامه على شخص السيد بيريز دي كويلار الأمين العام للأمم المتحدة، وبفضل هذه الجهود تمكن في ظرف وجيز من هَزْم دبلوماسية للجزائر وحلفائها وكأننا أمام هزيمة عسكرية، بعدما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 31 أكتوبر 1986، القرار رقم 40/50، الذي يطالب بإجراء مفاوضات مباشرة بين أطراف النزاع. في مهمة أخرى بالعاصمة عمان كانت لديه رغبة ملحة بالتحرك في مختلف الاتجاهات سياسية وتنظيمية من أجل تثبيت وإشعاع مكانة المغرب في هذه المنطقة البالغة الأهمية في العالم، كانت إحداها تتمثل في رغبته بناء مقر سفارة على شاكلة مركب دبلوماسي مغربي، يكون بمثابة وزارة خارجية مصغرة تعنى وتتابع عن كتب شؤون وقضايا منطقة الشرق الاوسط، لكن مع الاسف لم يكتب له النجاح لهذا المشروع لعدم حصول استجابة من قبل السلطات المختصة بالرباط، وقد شعر مولاي المهدي آنذاك بحسرة كبيرة لتبخر هذا حلمه. ومن قلب العاصمة عمان اشتغل على قضية الصحراء المغربية مع وزراء الخارجية الأردنيين وبالمعهد الدبلوماسي الخاص بالدبلوماسيين الشباب وأيضا بوسائل الإعلام المرئية والصحافة، بعدما لاحظ أن الانفتاح عليهم وتنوير رأيهم حول الملف الصحراوي يعد مكسبا هاما للمغرب. كما كان لديه اهتمام شخصي بالقضية الفلسطينية كحس وطني وقومي، فأحيانا كنت أجد فيه السفير وتارة أخرى أجده المناضل والحقوقي، وهي سياسة مكنته من عقد لقاءات مع مختلف القادة الفلسطينيين، من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس، إلى بقية زعماء الفصائل بمنظمة التحرير الفلسطينية، وفلسطينيين أعضاء بالكنيست الإسرائيلي من القائمة العربية. كان منفتحا على آرائهم ومواقفهم، في إطار التشاور وتبادل الرأي والتعبير عن التضامن المغربي الصادق مع القضية الفلسطينية ملكا وحكومة وشعبا. في الأخير ماذا نتذكر من مولاي المهدي السفير، إلا صفاته وخصاله وكفاءته الدبلوماسية التي ساعدته على خوض معارك لمواجهة خصوم وحدتنا الترابية في مختلف المحافل، وفي الدفاع عن مصالح المغرب، وفي الدفاع عن حقوق الانسان والقضايا التي آمن بها على المستوى الدولي في مختلف المنتديات المنابر الحقوقية العربية والدولية. قبل أن أختم كلمتي أرى أن واجبي أن أتوقف عند عائلة مولاي المهدي وعند رفيقة دربه، السيدة رجاء العدناني. كانت عائلة الفقيد مثالية يسودها الاحتراموالخلقالحسن والانسجام في العلاقات والتفاهم في تدبير شؤونها ، لم تكن هذه الميزة وليدة سلطة أبوية قمعية بل نتاج ثقافة الود والانفتاحوالتربية السليمة والحرية وكل المبادئ التي آمن بها مولاي المهدي في حياته السياسية جعلها حاضرة في بيته في علاقاته مع زوجته وأبنائه، وهي الذخيرةوالثروة التي خلفها لعائلته لما رحل إلى جوار ربه. كان المثل الشهير يقول « كل عظيم وراءه امرأة» ولكن اليوم عليَّ القول بأن «كل عظيم إلى جانبه امرأة» فالسيدة رجاء كانت فعلا إلى رفيقة درب إلى جانبه طيلة مسار حياته العائلية والسياسية والمهنية، أجدها كدبلوماسية فاعلة ذات تأثير متميز، قدمت صورة المغرب في أبهى تجلياته الثقافية والحضارية والتراثية، مجسدة نموذجا مثاليا راقيا للمرأة المغربية،واكبت معنا رجاء مراحل إعداد هذا الكتاب، ففي العديد من المناسبات، كانت لا تتردد في أن تقتحم اجتماعاتنا للتدخل والتذكير بوقائع وأحداث هنا وهناك داخل المغرب وخارجه، والإدلاء بآرائها وانطباعاتها، فذاكرتها الخصبة كان لها حضور مهم أيضا في هذا الكتاب كشهادة تكميلية اتسمت بالقدرة على إعادة شريط بعض الأحداث بكل حيثياتها وجزئياته. فكانت بذلك قطبا فاعلا في هذا المشروع، إلى جانب أبنائه مولاي يوسف والدبلوماسي مولاي إبراهيم ومولاي الحبيب الذين كانت لديهم إسهامات في هذا المشروع. إن العودة إلى تجارب وتاريخ هذه الشخصيات الوطنية البارزة التي رحلت إلى دار البقاء، واستحضار كفاحاتها ونضالاتها واسهاماتها الفكرية والسياسية والحقوقية والثقافية في تطوير الكيان المجتمعي، واستلهام وأخذ العبرة مما خلفته من ثراء ونجاحات وتراكمات يفرض نفسه علينا، وذلك تجسيد لثقافة الاعتراف ووفاء وعرفانا لهؤلاء الرجال الأفذاذ الذين قدموا تضحيات جليلة للوطن ولا غير الوطن، لذلك ستبقى صورة مولاي المهدي وذِكْراه حية خالدة، وتلك أمانة عظمى لن نتخلى عنها. وقبل أن أنهي كلمتي أرى أنه من باب الإنصاف والعرفان لهذه القامة الوطنية أن يقام له نصب تذكاري بمدينة سلا أو إطلاق اسمه على أحد شوارع العاصمة الرباط، تخليدا لذكرى مولاي المهدي العلوي وحفظا لذاكرة الوطن وللوطنيين الشرفاء الأجلاء. لن يموت فينا مولاي المهدي، سيظل حيا في القلب والذاكرة، كان رجل الوفاء وسنظل أوفياء له بعد فراقه الأبدي.