المغرب يتدخل بهدوء، ينتصر بلا طلقة وينجح أمام الملأ في الساحل الإفريقي في بيان رسمي بثّه التلفزيون المالي، بعد عملية نوعية تعكس الحرفية العالية للأجهزة الأمنية الخارجية المغربية، أعلنت الحكومة المالية (مساء الاثنين 4 غشت 2025)، أن تعاون الحكومة المالية ونظيرتها المغربية قد أسفر عن تحرير أربعة سائقي شاحنات مغاربة كانوا محتجزين لدى فرع تنظيم «داعش» في منطقة الساحل، بعد اختطافهم منذ 18 يناير قرب الحدود مع النيجر. وقد ذكر نفس البيان، أن السائقين كانوا محتجزين لدى جماعة تنتمي إلى «ولاية الساحل» التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، وقد جرت عملية الإفراج مساء الأحد 3 غشت بنجاح، بفضل تنسيق استخباراتي مشترك بين الوكالة الوطنية لأمن الدولة المالية ، والمديرية العامة للدراسات والمستندات المغربية. في نفس السياق، أبرز البيان أن التعاون بين الجانبين انطلق منذ الساعات الأولى للاختطاف بعزم واحترافية (دون الكشف عن تفاصيل العملية لأسباب أمنية)، إلا أن مصادر مطلعة أكدت أن العملية اتّسمت بدقة رفيعة في تتبع حركة الخاطفين، وتحديد مواقعهم في منطقة وعرة تنشط فيها الجماعات المتطرفة، مستفيدة من هشاشة الحدود وتداخل الجماعات المسلحة، وعلى غرار ما أوضحته تقارير إعلامية مغربية من أن عناصر الأمن الخارجي المغربي، واكبت منذ البداية جهود تحديد الجهة الخاطفة، واعتمدت على قاعدة معلوماتها السابقة حول نشاط الجماعات التابعة لداعش في المثلث الحدودي بين النيجرومالي وبوركينا فاسو. وقد عبّرت الرباط – عبر قنواتها الدبلوماسية – عن شكرها للسلطات المالية على التعاون الوثيق، مؤكدة التزامها بمبدأ التضامن الإفريقي، وبأن أمن مواطنيها خارج الحدود «يمثّل أولوية سيادية»، بحسب مصدر رسمي مغربي تحدث لإعلام محلي. وتعد هذه العملية، نموذجا جديدا لقدرة المغرب على تنفيذ عمليات استخباراتية معقدة خارج أراضيه، ما يعكس عمق شبكة علاقاته الأمنية، وفعالية أجهزته في التعامل مع تهديدات غير تقليدية في مناطق نزاع. عمل في الظل …ونجاح في الضوء لم يكن تحرير السائقين المغاربة مجرد رد فعل على حادثة معزولة، بل جاء ضمن مقاربة استخباراتية متكاملة، تتبناها والمديرية العامة للدراسات والمستندات المغربية منذ سنوات. فالمغرب – كما تشير عدة تقارير استخباراتية أوروبية – يمتلك واحدة من أكثر أجهزة المخابرات فعالية في إفريقيا، بل إن مصادر ألمانية كانت قد أشارت سنة 2023 إلى أن الرباط ساعدت برلين في الإفراج عن رهينة ألماني كان محتجزًا في مالي، عبر وساطات معقدة اعتمدت على قنوات أمنية غير معلنة. باتت لادجيد التي تعرف بعملها الصامت والدقيق، تحظى بثقة متزايدة من عدة عواصم إفريقية وأوروبية، خاصة في ملفات مكافحة الإرهاب، وتتبع تحركات المقاتلين العابرين للحدود، وكشف شبكات التمويل اللوجستي للجماعات المتطرفة. ويعتبر محللون، أن هذه العملية الأخيرة تظهر بوضوح نضج التنسيق الاستخباراتي المغربي-الإفريقي، حيث لم تكن مجرد عملية إنقاذ رهائن، بل مثالا على كيف تبنى العمليات الاستخباراتية على قواعد بيانات، واستباق، وتحليل معمق للسياق الجغرافي والسياسي المحلي. سجل طويل من الحضور الفعّال في إفريقيا للإشارة، ليست هذه المرة الأولى التي تتدخل فيها الأجهزة المغربية في ملف رهائن أو عمليات إرهابية خارج حدودها. ففي عام 2023، شارك المغرب في جهود تحرير مواطن روماني من قبضة جماعة مسلحة في بوركينا فاسو، بينما ساعد في عمليات تنسيق لإطلاق سراح رهائن فرنسيين كانوا محتجزين في منطقة الساحل. وأكدت مصادر فرنسية رسمية وقتها أن المغرب لعب دورا «إنسانيا واستخباراتيا حاسما» في هذه العملية. إلى جانب ذلك، أعلن المغرب سنة 2024 عن إحباط مخطط إرهابي في دولة إفريقية مجاورة، كانت فيه خلية تتبع لتنظيم «داعش» تستعد لتنفيذ هجمات انتحارية في ثلاث عواصم. وقد تم تفكيك هذه الخلية بالتنسيق مع مخابرات مغربية، ما كشف عمق التمدد الأمني المغربي عبر التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف، حيث تدل هذه العمليات على أن لادجيد لا تقتصر مهامها على جمع المعلومات وتحليلها، بل تشمل العمل الميداني، وتنسيق التدخلات المعقّدة في مناطق النزاع. المغرب وأمن القارة: من الشراكة إلى المبادرة بجانب التدخلات الميدانية، يلعب المغرب دورًا مركزيًا في تقوية بنية الأمن الإفريقي. إذ تشارك الرباط ب1700 عنصر من القوات المسلحة الملكية ضمن بعثات حفظ السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية، وتدرب سنويا حوالي 1200 ضابط أفريقي في مجالات تشمل المخابرات، الطب العسكري، القفز المظلي، والتدخلات الخاصة. علاوة على ذلك، ترأس المغرب مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي في مارس 2024، ما عزز من موقعه التفاوضي والسياسي في الملفات الأمنية القارية. وتستفيد عدة دول إفريقية من الشراكة مع الرباط، سواء عبر برامج التكوين الأمني أو من خلال تقنيات الاستخبارات وتحليل البيانات، أو عبر الدعم السياسي في المحافل الدولية لتعزيز الأمن الإقليمي. وبالنظر إلى مبادرات مثل «الممر الأطلسي»، الذي أطلقه المغرب لتمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي ، يتضح أن الرباط ترى في أمن إفريقيا امتدادا طبيعيا لأمنها الوطني، وأنها تسعى إلى بناء منظومة أمن جماعي أكثر استقرارا وواقعية. الأجهزة المغربية.. أداة دبلوماسية وأمنية تكشف عملية تحرير السائقين في مالي (ونظيراتها السابقة) عن مبدأ أصبح يشكّل حجر زاوية في السياسة الأمنية المغربية: أن العمل الاستخباراتي ليس فقط أداة دفاعية، بل وسيلة للتموقع الإقليمي والدبلوماسي. فبينما تعمل دول عديدة في إفريقيا تحت ضغط أو تدخل خارجي، يبرز المغرب كلاعب مستقل يعتمد على أدواته، وشبكاته، وخبراته المتراكمة. لقد نجح المغرب في بناء صورة استخباراتية موثوقة، ليس فقط من خلال نجاح العمليات، بل عبر بناء علاقات ثقة مع دول تواجه تحديات بنيوية في أجهزتها الأمنية. وهذا ما جعل خبراء ألمان وأوروبيين يشيدون ب"القدرة المغربية على تقديم نموذج استخباراتي واقعي، قادر على التعامل مع الإرهاب دون ضجيج، ولكن بنتائج فعالة". وهكذا، فإن تحرير السائقين المغاربة من قبضة "داعش" لا يمثّل إنقاذًا لأرواح فقط، بل هو شهادة ميدانية على قدرة الدولة المغربية على حماية أبنائها ومصالحها في عمق إفريقيا، وعلى مساهمتها المستمرة في مشروع استقرار قاري طالما عرقلته الفوضى وضعف التنسيق.