هو حدث إعلامي وسياسي ووطني بكل المقاييس.. فأن يسمح، لأول مرة، بإنجاز وتقديم أول برنامج وثائقي بالصوت والصورة، عن الشهيد المهدي بنبركة، بالقناة الأولى المغربية، فهذا أمر فارق.. ذلك أن الملايين من المغاربة، الذين ظل الشهيد يسكن جغرافيات الشرف والأسطورة في مخيالهم العام، والذين لم يشاهدوه قط، وهو يتحرك ويدب فوق أديم الأرض مثل كل العباد، سوف يشاهدون الرجل الأسطورة يتحرك ويمشي بين دروب النضال، ويصادق كبار العالم، من محمد الخامس إلى ماو تسي تونغ، ومن جمال عبد الناصر إلى تشي غيفارا. و أيضا من شيخ الإسلام بلعربي العلوي إلى عبد الرحيم بوعبيد، مرورا بعلال الفاسي وعبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري وأحمد بلافريج، وصف طويل من شرفاء هذا الوطن الذين منحونا جيلا من الوطنية والفداء.. هؤلاء الملايين من المغاربة من أجيال متعددة، الذين لا يزالون ينتظرون الكشف عن مصير الرجل، عن مكان دفنه، حتى يترحموا عليه كل 29 أكتوبر من كل عام، وأن يضعوا باقات ورد على شاهدة قبره.. الرجل الذي لا تزال روحه معلقة في سماء الجلادين والقتلة، تنتظر أن تنزل إلى أديم الأرض وترتاح ويترحم عليها مثل كل الراحلين، سوف يُسمع له صوت لأول مرة بتلفزة الرباط، بذلك التسارع في الكلمات الذي يميزه، والذي كنا قد اكتشفناه في العديد من ملتقيات الشبيبة الإتحادية، خاصة أثناء تأطيره لدورات التكوين الشبابية الخاصة بإنجاز طريق الوحدة. ولعل الجديد، هو أن برنامج « الشاهد » الذي يعده الزميلان محمد الضو السراج وشكيب بنعمر، سوف يقدم لنا وثائق صوتية ووثائق مصورة، سوف تعرض لأول مرة منذ اختطاف الزعيم المغربي والعالم - ثالثي، بباريس يوم 29 أكتوبر 1965. الإختطاف الذي نسقت فيه، ونفذته أربع أجهزة مخابرات ( المغربية، الفرنسية، الأمريكية والإسرائيلية )، لأن الرجل كان مؤسسة قائمة، كانت تستنفر لها ملايين الدولارات والمئات من الموظفين، من أجل ترصد تحركاته وكلماته ومشاريعه السياسية. وعلى مدى حلقتين كل ثلاثاء، سوف يقف عموم المغاربة، لأول مرة، عند باب أسطورة مغربية نبيلة، وسوف يستشعرون ذات الإعتزاز: أن ذلك ابن من أبناء تربة البلاد، الذي كانت تعتبره تقارير المخابرات الإستعمارية الفرنسية « العدو رقم 1 لفرنسا بالمغرب ». وسوف نكتشف في لحظة تتبع تاريخية، معنى التماهي مع ما يرمز إليه الرجل من وطنية مغربية، وما يرمز إليه من طاقة خلاقة في البناء، وما يمثله من نموذج لجيل مغربي ناهض خلال القرن العشرين. ذلك أن في شخص المهدي بنبركة، تتجمع معاني تاريخية وسوسيولوجية وحضارية مغربية عدة، فهو ابن لمرحلة من أخصب مراحل التحول في الشخصية المغربية. ذلك التحول التاريخي، الذي لا يتحقق في مسارات الزمن بالنسبة للشعوب، إلا في مناسبات قليلة ونادرة. لقد أنجبت البلاد المهدي بنبركة، لأنه جاء في اللحظة السليمة التي كانت تطورات المغاربة تحتاج لفلتة مثله. إن في اتقاد عينيه، وفي انطلاقته البكر، وفي صلابة وعيه الإستراتيجي، وفي ذكاء تاكتيكه الميداني الذي يعززه إصرار الفعل الذي لا يلين ولا يتراجع.. إن في ذلك كله، ترجمة لنوعية المغربي الذي أنجبه ذلك التحول التاريخي الذي دخله المغاربة خلال القرن العشرين.. التحول الذي جعل أمة بكاملها تنهض من أجل ربح الزمن الضائع.. وبهذا المعنى فإن المهدي كان تكثيفا هائلا لذلك النهوض العام، ولذلك الطموح العام للمغاربة. هذا هو المهدي بنبركة، الذي سوف يطل على المغاربة، ويتلقونه بفرح، لأنه عنوان عن خسارة ليست خسارة الرجل فقط ( وقيمته ورمزيته لا مجال للجدل حولها )، بل هي عنوان خسارة طموح مغربي عام، كان يعد بالكثير. ولعل الواحد منا، حين يتأمل نماذج الفساد التي تحتل المشهد العام للمغاربة اليوم، وهي نماذج الفساد التي تحتل البحر والسهل والجبل ( كما يقول فقيهنا الشعبي في مثله المأثور)، يكاد يتساءل في مرارة سوداء: هل كان المهدي بنبركة وجيله حقا مغاربة ذات يوم؟!.. بمعنى آخر، هل نستحقهما نحن مغاربة اليوم؟!.. هل حقا كان لنا رجال هائلون مثل أولئك الرجال العظام؟!.. نعم، الوطنية المغربية، لا تكمل إلا بالمهدي بنبركة وأمثاله.. أولئك الخالدون.. أما الزبد الذي يملأ ساحات المعنى في أجيالنا الحديثة، فلن يكون أمام التاريخ الممتد للإنسية المغربية، سوى تفصيل صغير لأخطاء الطريق ولأعطابها، التي تمسحها الأعمال الخالدة والنافذة لرجال مثل الشهيد المهدي بنبركة..