كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    تتويج إسباني وبرتغالية في الدوري الأوروبي للناشئين في ركوب الموج بتغازوت    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    التجمع الوطني للأحرار بسوس ماسة يتفاعل مع القرار التاريخي لمجلس الأمن حول الصحراء المغربية    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    بعد حكيمي.. إصابة أكرد تربك الركراكي وتضعف جدار الأسود قبل المونديال الإفريقي    مغاربة فرنسا يحتفلون بذكرى المسيرة    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بمناسبة جائزة غونكور للرواية في فرنسا.. : « ثلاث نساء قويات ».. والأقوى ماري اندياي!

في فاتح نونبرالمنصرم،أعلنت،حسب التقليد المتبع منذ سنة 1903، نتيجة مداولات لجنة جائزة غونكور للرواية في فرنسا. وهي أهم جائزة في هذا الصنف تمنح لرواية مكتوبة بالفرنسية. وكانت قد تأسست بناء على الوصية التي تركها إدمون غونكور، رجل الأدب والرواية الشهير في فرنسا،وأرسيت مؤسستها بدءا من عام 1902. لهذه الجائزة طقوس مكرسة وتقاليد مرعية، سواء في مسطرة التصويت، ومواقيت المداولات، ومناسبة الإعلان، أو في اختيار أعضاء لجنة تحكيم تكون من بين روائيين مشهود لهم بلا منازع، ذوي صيت عال،من بينهم حاليا الروائي ذو الأصل المغربي الطاهر بن جلون،الذي كانت روايته «ليلة القدر» sacrée La nuit قد فازت بنفس الجائزة سنة 1987. جدير بالذكر أن القيمة المالية لهذا التتويج الروائي متواضعة،لكنها تضع الفائز مندئذ في مصافّ كبار الكتاب، فضلا عن أنها توفر، في الغالب، بعد ذلك، مستوى مبيعات مريح، يفيد الكاتب بكل تأكيد، ويعلي من قدر دار النشر، ما يفسر التنافس الحاد بين دور النشر في هذا المضمار.
حالف الحظ هذا العام، وبعد جو مشحون كالعادة بتسريبات وإشاعات متضاربة عن العمل
المؤهل فهناك أربع دورات من التصويت داخل اللجنة، وقبلها عملية تصفية تدريجية تتم تباعا يحتفظ خلالها المحكمون بما يرونه الأنسب لقيمة روايتهم،وكذلك الشأن تقريبا في لجان جوائز أخرى،وإن ظلت غونكور الأصعب، والمحك، ومجلب الشهرة الأول، في الداخل، وإلى اللغات الأجنبية، ينتقل إليها العمل بالترجمة بعد مفاوضات عاجلة ومقننة ؛ نقول حالف الحظ الروائية ماري اندياي،Marie Ndaye المولودة سنة1967، لأب سينغالي وأم ّ فرنسية هي التي سهرت على تعليمها حيث أقامت في فرنسا، وتابعت دراستها إلى ولوج الجامعة، ثم ما لبثت أن تخلت عن المسار الدراسي لتصدر، وهي في سن الثامنة عشرة، روايتها الأولى سن 1985، ومن ثم ستتفرغ للكتابة، مصدرة في الأعوام الموالية، دائما عن دار»مينوي» الطليعية، التي نشرت لروائيين شامخين، مثل ألان روب غرييه، ومارغريت دوراس،وغيرهم دُرَراً فريدة،وحصلت على جائزتها الأولى سنة2001،للأدب النسائي (فيمنا)، لتصبح اسما خصوصيا مذكورا ومرموقا في حلقة الروائيين بفرنسا، واللواتي، تسعفهن ازدواجيتهن العرقية والثقافية،خلاسيتهن،ودفاعهن،أيضا،عن حق المرأة في الوجود والتعبير، بطريقة أدبية صرف، وعمق في الرؤية ومهارة في التناول. بعبارة أخرى،فإن ندياي،وهي صاحبة اثني عشر مؤلفا،بين رواية وقصص قصيرة،ونص مسرحي، استطاعت أن ترسم خطها في الطريق العام، تلمّس النقاد والمعلقون باكرا عندها سمات كتابة تجمع بين الواقعي والفانتازي، في أعمال إذا كانت تمتح من اليومي، والواقعي الصلد، فإنها تحفر فيه أخاديد عميقة تجلب الخطاب والمواجع الدفينة، وتعطي للبوح والفجيعة الإنسانية مكانة فسيحة،خاصة وهي تتراوح في جغرافية متعددة،مكانيا،وبشريا،حيث مكامن التمزق، وإمكانية، بل حتمية تجاور وتقاطع لغات ومشاعر ومصالح وثقافات، وهو ما يشكل غنى لا نظير له، تسنده مقدرة كاتبة أفحمت مجايليها،ونالت اعتراف سدنة المعبد اللغوي الفرنسي،ما هو بهين، كل هذا من غير أن تدمغ بتلك البصمة المسماة ب»الفرنكفونية» كتسمية وصفة ملتبسة.
رواية اندياي»ثلاث نساء قويات»(Trois femmes puissantes)،الصادرة عن دار غاليمار في بحر هذا العام، وباعت أزيد من مائة وأربعين ألف نسخة قبل هذا التتويج، يمكن أن تعتبر ذروة ما سعت صاحبتها إلى تشخيصه، والعناية بمشاغله في صور تمثيلات كبرى وبؤرية لمصائر أفراد في مفترق ثقافات، وتنازعهم بين هموم ذاتية، شبه عصابية، وأخرى حشروا فيها وباتت تتحكم في حياة هي لهم ومسلوبة منهم في آن، ولذلك تتحول الرواية على يدي هذه الكاتبة العصيّة حقا على التصنيف رغم حذلقة النقاد إلى مساحة نصية منفتحة على الاحتمالات، وعرضة للاهتزاز، ككل شخصياتها، ونزوعاتهم، أيّ بلوغ ليقين هو نقض له،نحو استئناف،وهكذا. وإذا كان هذا شأن الرواية المعاصرة التي قطعت مع الوثوقية والواقعية المرآوية،الخادعة شكلا، الممتثلة معنى،فإنه مع اندياي ضربٌ أبعد، فهي إذ تبدو وهي تتحرك في فلك المسار الإشكالي للرواية الغربية وعوالمها،تخترقها برمح رؤية خارجية عنها،عامدة بوعي حاد، لديها، هي وشخوصها، إلى تفكيك الروابط المعطاة سلفا، وزرع بذرة الشك في كل ما تراه العين، أو هو صنو الحقيقة، تلك المزعومة، التي نعلم أن الأدب الحداثي رفضها من قديم، ليعلن حقيقته الخاصة، وهي ما تفعله الكاتبة الفرانكو سينغالية، المهمومة حقا بهويتها،وفي سبيل هذا البحث يغدو تغوير الذات نهجا لا مناص منه.
تبحث اندياي في روايتها الجديدة عن السيرة الحياتية والباطنية في مسار اجتماعي وثقافي ووجداني ذي خصوصيات محددة. بذا فإنها تسعى لاستثمار وتوليف هوية مركبة، متعددة الأبعاد، حتى والمرأة تبدو محورها، فهي ليست بالضرورة عمادها دائما، ولأن القوة لا ينبغي أن تفهم بالضرورة بمعنى الغلبة،فأن تستطيع المرأة الوجود فقط في خضمّ العصف،
وإرباك حسابات الرجال والذكورة المهيمنة، هذا في حد ذاته قوة، وهزم لانتصاب مغتصب.
كل شيء عند اندياي ينهض على البناء،بدءا من تنظيم أطراف الحكي،وصولا إلى آخر تفصيل في محتواه. هي في هذا العمل تسوق ثلاث حكايات،لثلاث نساء وعوالم،لا توجد بينها إلا وشيجة واهية،لو سُمّيت،وعلى سبيل الإشارة فقط،حيث تسوق حكاية امرأة إلى أخرى، افتراضا،وعلى سبيل التسويغ،بينما يوكل التركيب إلى الرؤية الكلية،جماع التمثيلات الحياتية والإنسانية، والأنساق الدلالية، وإن شئنا العالم الروائي برموزه وقيَمه، وإلى فلسفته المبثوتة.
في القصة الأولى تحتل نورا المركز، بوصفها امرأة،أولا، والقوة الدافعة للحكي، الموجهة لخطه،رغم أن هناك ساردا يقف خلفها،عبر لعبة مزدوجة تظهر فيها هي نفسها ساردة وحكيها فعلها مسرود. تتوصل نورا بدعوة مستعجلة من أبيها المقيم خارج فرنسا، بعد أن طلق أمها،وتركها هي وأختها،واختطف الإبن الوحيد ليعيش إلى جواره في قرية سياحية أنشأها، وبها حقق ثروة، ثم تدهورت وضعيته المالية. لكنه خلال هذا الانتقال اقترن بامرأة ثانية، شابة، أنجب منها طفلين. سيتيتم الطفلان بسبب إقدام سوني الإبن، حسب رواية الأب، على قتل الزوجة، مدعيا أنها أغوت به طويلا فأشركته في مضجع والده، هذا بينما الحقيقة مختلفة تماما، فهذا الأخير هو منفذ القتل، وسيضحي بابنه مكانه، ثم ينادي على ابنته، ذات الثقافة القانونية لتنصب نفسها محامية عسى أن تنقذ الأخ المرمي في السجن بدا أبيه الطليق.
من وجه ثان، تعيش نورا وضعية حب ملتبسة مع رفيق تعايشه هو وابنته، وهي من يتكفل بمصاريفهما، وتحس أنها في دوامة ونهش لا يتوقف جرّاء علاقة،لا هي تودّ استمرارها، ولا الكفَّ عنها. بين الأب والأخت،والأخ المتورط عسفا، وبين الرفيق وابنته،كورطة عيش ثانية،تظهر نورا قوية،بتفرد شخصيتها،وبالعبء الملقى عليها،وخصوصا بالنظرات والتحليل الذي تجريه للشخصيتين الأساسين في حياتها، أبيها، ورفيقها الغرامي، وهما يمثلان هشاشة الرجال، ونوعا من تفسخ الحياة، رغم عناد الادعاء، ورغبة الصمود في وجه فناء محتوم، هي شاهدة عليه، وتصمد ، أيضا، في وجه الادعاء تحقيقا للذات،تارة، وأخرى صونا للكرامة.
في الحكاية الثانية، نلتقي امرأة ثانية(فانتا)، ودائما من طراز استثنائي، وضعاً، وهمّاً، وسرداً. فهي من أصل سينغالي، مدرسة أدب بالثانوي، وتعلقت بفرنسي، مما جعلها تتبعه لدى عودته إلى بلده. ثم هاهو، وقد تقاعد، يصبح مستخدما في مؤسسة خاصة، ولأسباب كثيرة، معقدة، خمد الحب الذي جمع بينهما، وصارت هي، حسب ملفوظ ملتبس من الزوج، خليلة رب المؤسسة، قد انصرفت تماما عنه، وما عاد يجمعها به سوى العادة، وألفة ما كان. أما هو، فعلى العكس تماما، من شدة خشيته على ضياعها منه، من وسواس وقوعها في فراش غريمه، ينخرط في هول غيرة وتخمين شديدي التوتر، وتوليد احتمالات شتى، تفيض كلها بموجات عداء عارمة ضده، من محيطه العائلي، ومحيط عمله، وزوجته، ومن نفسه الأمّارة بالسوء، أو بحرقة غيرة تتأكله صباح مساء، فينهشه القلق نهشا، يتجلى في سرده الموتور، هو السارد لوضع نكاد نقع في حبال إيهام الكاتبة أنه له، فيما هو وضع المرأة الاستنائية زوجته، هي ذاتها التي أقدمت برضاها، أولا،على اجتثات نفسها من محيطها تبعا لهوى/ أهواء، ثم، أخيرا، نراها معلقة في مصير أشبه بالعدم/ حيث لا هي تنتمي إلى أمسها، ولا حاضرها. رودي الزوج بدوره يستمر مستغرقا في دوامة حيرة تضربه مطرقة أمه التي ترسل في أذنيه طنين عنصرية مقيتة ضد السود، هو الأبيض، وتقيم في عالمه حدود الانفصال بين ثقافتين، في نص روائي ينهض،من بين أسس أخرى،على ناظم المتاخمة وقاعدة التعدد اللغوي الثقافي والحضاري، وفداحات الخسارة التي تضرب الأفراد، لتصيبهم في مقتل، ضمن وضع إنساني مأساوي. إن امتلاك الرؤية ، ثم تصريفها وتشكيلها وفق منظور وهيكلة فنيتين ومحكمتين، لهو ما يصنع الروائي.
في الحكاية الأخيرة، الأقصر، قياسا بالأوليين، والثانية الأطول بينهما، على الخصوص، نلتقي المرأة الثالثة، وهي بدورها أجنبية عن المحيط الفرنسي، أي منحدرة من عرق الكاتبة الإفريقي. كما أن قصتها، ضمنها شرطها الوجودي، يسمح للمؤلفة بالمنافحة عن أطروحتها المركزية الكامنة في فضح وشجب كل ما يمرغ الكرامة الإنسانية، من خلال وضع المرأة، وفي هذه القصة بالذات، عبر الشروط اللامتكافئة لعيش المجتمعات والأفراد، بما يدفع بعضهم إلى إيثار الموت على البقاء في حياة هي موت بالتقسيط، بعبارة الروائي الفرنسي الجبار سلين.
ها هي ذي خادي دمبا، وقد ترمّلت في أسرة بالسينغال، بعد أن مات بعلها فجأة، من غير أن تفلح في الإنجاب منه. لقد أسلم الروح وهو شاب بعد، بالضبط، وهي تقترب منه في الفراش، تحس أنها قادرة على أن تخصب ليلتها. وتتسلمه أسرة زوجها كتركة فاسدة، تصبح عالة عليهم، تعامل كسلعة بائرة وفم يقتات بلا طائل، في أسرة من عدة أفواه. هي، إذن،امرأة فضلة، زائدة عن اللزوم، لذا تخرس لسانها، وتعامل بكل الطرق دون أن تحتج، وحين تقرر أسرة أرملها التخلي عنها فليس لها لسان لتقول لا، ولا إرادة لتصدّ عدوا طردها من المكان الوحيد الذي لها في الحياة، بعد أن سلمتها جدتها زوجة لهذه الأسرة الوضيعة. من هذا الاجتثات الأول تنتقل خادي، إلى سلسلة متتابعة من الامتهان والمتاجرة في الإنسان المقهور. إنه إنسان إفريقيا الذي يفعل المستحيل ليرحل إلى الغرب،إلى الشمال كي ينقذ نفسه وذويه من موت التقسيط. لقد سُلمت خادي إلى سائق سينقلها إلى محشر فيه يتم تدبير كيفية العبور بالقوارب إلى ساحل شمال البلاد، ومنه عبور الصحارى، امتدادا إلى الطرق التي تؤدي إلى أوروبا، وهكذا. تسلمها وهي تشترط عليها مقابل تزويدها بقدر من المال أن تبعث بمجرد حصولها على عمل،شأن كل مهاجر. بدورها تعمد ماري اندياي إلى توليف حبكتها الخاصة لهذه «القصة» التي تداول على كتابتها عديدون، سيرة غرقى قوارب الموت، الذين يحرقون ماضيهم لقاء حياة موعودة غالبا ما تنتهي بمأساة. قصة باتت مستنسخة حد الضجر. إنما اليد الصناع تحييها، وإمكانية استنباتها في حقل جديد بمخصبات فنية ومحكيات منقحة، وخاصة إخراجها من»الكلشيه» بإعادة الصقل وصبها في القالب الفردي، في شخصية روائية مفردة، بقدر ما هي منتمية إلى قطيع المعذبين في الأرض، بقدر ما تجسد في ما تعرضت إليه وهي تعبر الصحراء من انتهاكات بشعة طالت جسدها، فعهّرتها،وعوّقتها، وأطفأت في قلبها جمرة حب ظنت أنه سيهبها الولد المرجو. وخلال هذا العبور نكتشف من عينيها أهوال ما يعيشه أبناء الجنوب،لكن، أيضا، الهول الذي بلا نظير، كما عاشته خادي، التي بالرغم من كل ما سامته من خسف ومذلة، وتكبدته من آلام، جسدية ونفسية، حد الهذيان، كانت تحس، بطريقة ما، أنها تملك مصيرها بين يديها، أو عليها، منذ أن طردت من بيت الأمس. أن كل الرجال الذين تعاقبوا عليها في الصحراء بلا إرادتها تحتاجهم لتوفر المال للصعود إلى الشمال،وإمكانية العبور، وحتى الرفيق الذي سرق مذخراتها يكاد لا يلام، وهي لا تيأس، إلى اللحظة الأخيرة، في عيشها المذهل بمخيم منتظري العبور في الغابة، ووصولا إلى اللحظة التي تشبه الأبدية عندما تكون يداها عالقتين بالسلم المعلق على سياج الأسلاك وهو يمزق لحمها، وهي تهوي لتسقط على رأسها تاركة حلم النجاة، لكن كأنما لترحل في حلم أسطوري، تسمع فيه نبرات اسمها في مطلق وجود مستقل:خادي دانبا ! خادي دامبا !
تلك هنّ «النساء القويات» اللواتي وضعتهن اندياي فوق نصب تبجيل الكرامة الإنسانية من خلال مصيرهن الخصوصي، أي غير النمطي. بذا، فهذه رواية تفلت من خفة تقليعة ما يسمى ب»الأدب النسائي» لأن كاتبتها ذات رؤية وجودية عميقة، تنطلق من تحت ُصعداً نحو الأسمى، وغورا في الأعمق. ولأنها تملك فن معلمي الرواية، وهذا الأهم. لغة كلاسيكية مسكوكة. تعبير يتناوب فيه السرد والوصف والتشخيص والإيحاء،النقل والسبر،الواقع والمحتمل، الحقيقة والمجاز. بناء منظم،هرمي، يشد بعضه أزر بعض، يتساند فيه الحدث مع فعل الشخصية،مع سرد يحكي وهو ينسق ويطور، وحوار يصنع التطور، ويزيد كشفا،لا حديثا ملتاثا. هاك شخصيات ضرورية،مفردة، ومتكاملة ومتصادية،تتحرك في فضاء منسجم معها، يمثل جزءا من هويتها أو اجتثاتها،أو بحثها. ومن المؤكد، نريد الاختصار والختام،أن اندياي تملك أسلوبها، وهو أسلوب مركب، شديد التعقيد في نسجه أحيانا، وموروفولوجيته، لكنه رصين ومُصفّى، ودون امتلاك هذا الأسلوب لا تكون روائيا حتى ولو كتبت حمل بعير، وهذا ما تتوجه،أيضا،خصوصا،أكاديمية جائزة غونكور، التي تجدد هذه السنة الثقة في قيمتها الأدبية،وتعطي الدليل على انفتاح فاعل على العددية الثقافية وخصوبة التخييل الجميل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.