الاستبداد أو الديكتاتورية ليست فقط نظاما سياسيا ينتهي بمجرد أن يسقط المستبد والديكتاتور، بل هي منظومة فكرية تبقى حية لزمن قد يمتد طويلا. وخطر هذا الاستبداد هو الأعظم، لأنه غير مرئي ويعتمل في عقول الشعوب في صمت، كما تعتمل الأمراض الخبيثة في الأجساد. حينما يسقط الديكتاتور، تبقى في مكانه «الديدان»، التي تظل في موقع جثة متحللة، وحينما تصلها خيوط الشمس، فإنها تبحث في الظل عن مكان تتم فيه سياسة صاحبها. هكذا فإن سقوط الديكتاتور في العالم العربي لا يعني نهاية حتمية لكل شيء، بل يحتاج الأمر إلى معارك طويلة وضارية مع هذه «الديدان» التي توزعت في كل مكان، لابسة أقنعة المرحلة الجديدة ورافعة شعاراتها.. فليس سهلا تغير الأفكار بين ليلة وضحاها. لم تكن الأنظمة الاستبدادية لتتقوى، لولا تلك «الديدان» التي كان موزعة في كل مكان، وكانت تقوم بكل شيء من أجل أن تبقى حية. هذه الكائنات السخيفة لم تكن موجودة في أماكن أمنية حساسة فقط وإنما كانت موجودة في الصحافة وفي الإبداع وفي الفن والسينما والمسرح وغير ذلك من فنون التعبير.. لقد كانت تقوم بكل ما يطلب منها في سبيل أن يرضى عنها «مولاها» ويطعمها.. كانت تروج لأفكار وشعارات الخلود وبأن الزعيم هو الحياة وبأن سقوطه هو نهاية الجميع ومن تم فلا داعي إلى الخروج على طاعته، لقد ساهمت في ترويج السخافة والتخلف والجهل. فكيف يمكن أن ينتهي كل شيء بضربة مقص؟!.. الآن لم تمت تلك الديدان، بل غيرت فقط جلودها، كما تفعل الثعابين.. سبقت الركب وأخذت ترفع عقيرتها احتفالا ب»الربيع العربي»، ولهذا دبج كثير منها الخطابات الطويلة والثقيلة، وكثير منها كتب الافتتاحيات في جرائده، والكثير منها عاد ما كتبه في الماضي ليقول إنه كان سباقا إلى استشراف «الربيع العربي»... إن المرحلة والمراحل القادمة ليست بالسهلة، كما أنه لا يمكن أن نقول بحسم المعركة، ما دامت الديكتاتورية ما تزال تعشش في العقول.. ومازال هناك من يمارسون سلوكاتها ويسقونها في صمت لابسا لباس الراهب والتقي.. فالربيع العربي لا يمكن أن يكون قبعة يستجدي بها المرء دارهم يضعها في جيبه. هكذا ستكون الشعوب، ولا شك، في حاجة إلى «ربيع أقلام عربية»، يسقط تلك الأقلام المريضة.. ودمتم سالمين.