القراءة الاستنباطية والتحقيب التاريخي لموقف الجزائر العدائي والمتصلب من قضية استكمال المغرب لوحدته الترابية لازالت تتداخل فيهما عدة أبعاد سوسيولوجية اقتصادية وسياسية. ولعل استقراء التاريخ والتأمل في الموقف الجزائري النمطي الممنهج يسعف في طرح مجموعة من الاستشكالات العميقة والأسباب الكامنة وراء هاته الأطروحة المتصلبة التي تقف سدا منيعا في وجه كل تقارب أو اندماج أو تكتل يستجيب لطموحات وتطلعات الشعوب المغاربية؛ فرغم التحولات العميقة التي عرفتها دول شمال إفريقيا والاندحار المدوي لمجموعة من الأنظمة الشمولية (ليبيا – تونس – مصر)، فإن التقدير المتأني والحكيم لهاته التقلبات لم يتم استيعابه بشكل عقلاني من طرف حكام الجزائر وتوظيفه بشكل إيجابي لإنهاء الصراع المفتعل حول القضية الوطنية. تأسيسا على ذلك وبناء على لغة الأرقام واستحضارا لمنطق الربح والخسارة، يمكن طرح أهم الأسباب الكامنة وراء مناهضة الجزائر لحقوق المغرب التاريخية والمشروعة في قضية الصحراء: - كيف يمكن تجاوز الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبت في السابق؟ - كيف يمكن توظيف الحراك الشعبي والمتغيرات الإقليمية لصالح القضية الوطنية؟ - ما هي العوامل المساعدة على تسويق مشروع الحكم الذاتي الموسع لدى المنتظم الدولي بشكل أمثل؟ إن استقراء التاريخ بشكل موضوعي وإعادة قراءة وقائعه يؤديان إلى الاصطدام بحقائق صادمة، إذ يجعلان المتأمل يخلص إلى أن المغرب هو من يتحمل المسؤولية كاملة عن تشكل جبهة البوليساريو، ذلك أن الأخيرة ما هي في حقيقة الأمر إلا زمرة من الطلبة المغاربة الذين تعرضوا لقمع وحشي وتعذيب جسدي ومصادرة للحريات، مما حدا بالمخابرات العسكرية الجزائرية إلى احتضانهم، ليكونوا بمثابة هدية سياسية ثمينة مقدمة من النظام المغربي إلى النظام الجزائري الذي هيأ تربة خصبة ووفر دعما سياسيا كبيرا في أفق خلق جمهورية وهمية ودويلة لقيطة تفتقر إلى أبسط معايير مكونات الدولة وفق تنصيصات القانون الدولي، وأهمها مبادئ السيادة والشعب والإقليم والسلطة والسياسة الفعلية؛ فالفضاء الجغرافي أرض جزائرية، والسكان أغلبهم مستقدم من الدول المجاورة، كمالي والنيجر وموريطانيا، أما القرار السيادي وإدارة المفاوضات واتخاذ المواقف فهي تتم دائما تحت الرقابة الفعلية لدولة الجزائر وفق خطط مدروسة وخطوك حمراء لا يمكن تجاوزها. تأسيسا على ذلك، لازالت الآثار النفسية لهزيمة حرب الرمال جاثمة على صدور القيادة العسكرية الجزائرية إلى يومنا هذا، وظل الرئيس الجزائري الراحل الهواري بومدين يردد على الدوام وفي جميع الملتقيات غير الرسمية أنه استطاع وضع حصاة مزعجة في الحذاء المغربي بفضل الأموال الليبية المتدفقة على الجبهة، لذا فإن العداء الجزائري يستمد إطاره المرجعي من ضرورة إلهاء المغرب بالقضايا الهامشية وتصدير الأزمة المعتملة داخل الجزائر إليه لامتصاص الاحتقان الشعبي والتنفيس عن الأزمة الاقتصادية الخانقة رغم أن الجزائر دولة بترولية، وأيضا لتحريف أنظار الشعب الجزائري عن إهدار المال العام وتبذيره في السباق نحو التسلح وتجديد العتاد العسكري الذي طاله الصدأ؛ كما أن المسيرة الخضراء، التي بفضلها استرجع المغرب أقاليمه الجنوبية بشكل سلمي ودون خسائر، كانت عسيرة على الهضم لدى حكام الجزائر ودفعت بهم إلى طرد قرابة 45 ألف مهاجر مغربي عشية عيد الأضحى ومصادرة جميع ممتلكاتهم في انتهاك سافر لمبادئ حسن الجوار والمصير المشترك والأعراف والمواثيق الدولية. إشكالية التعاطي مع هذه القضية التي عمرت طويلا تعود بالأساس إلى حقبة الحرب الباردة وإلى عدم استيعاب تغير منطق الأشياء، فالصحراء ليست قضية نظام حاكم وإنما هي قضية الشعب المغربي بأكمله، وهذا هو الجزء الفارغ في المعادلة السياسية، بينما هي ليست كذلك لدى الجهة المقابلة لأنها هناك قضية تهم النظام لوحده دون الشعب الجزائري الذي أحرق مكاتب البوليساريو مرات متعددة، لذلك فالضغائن والأحقاد السياسية سيصل مداها إلى أقصى الحدود حينما سيقرر الجهاز العسكري اغتيال الرئيس الراحل بوضياف لأنه أقر علانية بعدم وجود ما يسمى بالبوليساريو. من ثم، فإن سياسة الكيل بمكيالين وتناقض مواقف الجزائر التي تدعي أنْ لا يد لها في القضية هي التي ستقترح بشكل رسمي على المنتظم الدولي مسألة التقسيم، إضافة إلى أنها ستوظف عائدات البترول والغاز الطبيعي كرشوة سياسية لشراء مواقف بعض الدول الإفريقية التي نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر دولة جنوب إفريقيا. ولتزكية هاته الأطروحة بالحجج الدامغة، يمكن أن نستحضر الموقف الجزائري الغريب من قضية جزيرة ليلى الذي اعتبر المغرب بلدا محتلا لأرض إسبانية. إذن، فبعد التشخيص الدقيق لتراكمات الماضي وبعد فشل المفاوضات الثنائية، يمكن اقتراح مجموعة من البدائل الواقعية والعملية: - المفاوضات الثنائية مجرد مضيعة للوقت ولا يمكن أن تجدي نفعا لأن جبهة البوليساريو مجرد كيان ذيلي تبعي لإملاءات النظام السياسي في الجزائر والذي هو من ينبغي الدخول معه في مفاوضات مباشرة؛ - الارتهان إلى قرارات المنتظم الدولي والارتكاز على الدول الصديقة في مجلس الأمن نظرية مفلسة، لأن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن لا تؤمن إلا بلغة المصالح، ومواقفُها قابلة للتغيير رأسا على عقب وفي أية لحظة وفقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية؛ - الانفصال واقع بدأ يفرض نفسه بقوة في الآونة الأخيرة، وللحد من تبعاته وتجلياته ينبغي الابتعاد عن منطق اقتصاد الريع لشراء ولاء الأعيان وإشراك النخب الصحراوية الجديدة بشكل متوازن في تدبير الملف؛ - الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها إسبانيا فرصة تاريخية نادرة يجب أن توظف لمصلحة المغرب، فالشراكات والتعاقدات الاقتصادية هي الكفيلة بتذويب الخلافات السياسية وتنقية الأجواء وتليين المواقف؛ - أطروحة «المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها» تحتاج إلى الأجرأة والتفعيل والتسويق لها في المنتديات الدولية؛ - الترويج لبعض المغالطات من قبيل استغلال واستنزاف خيرات الصحراء أمرٌ يتطلب الرد عليه بشكل علمي وبلغة الأرقام، لأن ورش تنمية الأقاليم الجنوبية وتعزيز بنيتها التحتية صرفت عليه أموال طائلة من مالية الدولة ومن جيوب دافعي الضرائب، علاوة على أن المستعمر الإسباني لم يترك في المنطقة إلا بعض الثكنات العسكرية المعدودة على رؤوس الأصابع؛ - الجهوية الموسعة ومشروع الحكم الذاتي شكل من أشكال تقرير المصير، يتوجب الاستمرار في مأسسته ولو من جانب واحد، ترسيخا لدولة الحق والقانون ومحاصرة للمد الانفصالي المدعوم من جهات خارجية لاستنبات دويلة مجهرية في شمال إفريقيا وزرع جسم غريب في أوصال جغرافية المغرب العربي تكريسا لسياسة تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ وبلقنة الدول للتحكم في مصير الشعوب.