أجواء إيجابية تطبع تحضيرات "الأسود"    بعثة منتخب الجزائر تصل إلى البيضاء    زلزال الحوز .. دينامية متواصلة لإعادة الإعمار في جميع الأقاليم المتضررة    زلزال الحوز .. دينامية متواصلة لإعادة الإعمار في جميع الأقاليم المتضررة    "منظمة حقوقية تشيد بأجواء جنازة أحمد الزفزافي وتلتمس العفو عن معتقلي "حراك الريف    فيدرالية اليسار بالفقيه بن صالح تتضامن مع أحد أعضاءها وتدين الاستدعاءات المتكررة        أخبار الساحة    برقية تعزية ومواساة من جلالة الملك إلى الرئيس البرتغالي على إثر الحادث المأساوي لخروج القطار المائل السياحي عن مساره    هيئات مهنية ونقابية تصعد ضد مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة    جديد الشاعرة المغربية سعاد الرايس: «لوحات الإبحار» اهتمامات إنسانية وعشق للكتابة بقلق وجودي    أعمال أدبية وفنية مغربية تستفيد من منح الصندوق العربي للثقافة والفنون    أنا وأنا وما بينهما .. رسائل بين عبدالله المتقي ومحمد بوحوش    أمير المؤمنين يصدر أمره إلى المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة توضح للناس أحكام الشرع في موضوع الزكاة    الفانوس " يضيء ليالي مهرجان المسرح التجريبي والضنحاني يوقع النسخة العربية والإنجليزية للمسرحية    إسبانيا.. توقيف 13 رجلا وامرأتان سرقوا هواتف بقيمة 62 مليون لتهريبها إلى المغرب    روسيا تعلن جاهزية أول لقاح ضد السرطان    مايكروسوفت تحذّر من بطء محتمل لخدمة الأنترنيت جراء انقطاع كابلات بحرية في البحر الأحمر    فيلم مريم التوزاني يمثل المغرب بأوسكار 2026    مسؤول أممي يحرج الأنظمة العربية: دعمها للاجئين الفلسطينيين يتراجع 90% ودعوة عاجلة للتحرك    طقس الأحد: أجواء حارة نسبيا بعدد من الجهات    برقية تهنئة من جلالة الملك إلى الرئيس البرازيلي بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب ثالث أكبر منتج للأفوكادو في إفريقيا بإيرادات صادرات بلغت 179 مليون دولار    زخات رعدية متوقعة في عدة أقاليم    تونس.. تأجيل انطلاق أسطول "الصمود العالمي" الذي ينقل مساعدات إلى قطاع غزة    إطلاق خط بحري جديد بين المغرب وأوروبا الغربية بإشراف دي بي وورلد    المكتب المسير لمولودية وجدة يعبر عن رغبته في إعادة سندباد الشرق لأمجاده    الأمم المتحدة: هلال يختتم بنجاح المفاوضات بشأن الإعلان السياسي للقمة الاجتماعية الثانية المرتقبة في الدوحة    سلا.. تفكيك شبكة لترويج المخدرات وحجز أكثر من 1200 قرص مهلوس وكوكايين    "غروب".. مسرحية تفتش في وجع الإنسان وتضيء انكساراته بلوحات شعرية    غزو القضاء يتواصل بإطلاق 24 قمرا اصطناعيا جديدا    رصد فلكي غير مسبوق لمذنب يقترب من المجموعة الشمسية        المغرب يستقبل شحنات جديدة من الأعلاف الروسية    زيادة ملحوظة في حركة المسافرين عبر مطار الحسيمة الشريف الإدريسي    تواصل أشغال الربط السككي بميناء الناظور غرب المتوسط ب111 مليون درهم    الفتح الرباطي يدخل الموسم الجديد بطموح المنافسة على الألقاب    المغرب يسجل واحداً من أعلى معدلات السمنة في إفريقيا.. والنساء الأكثر تضرراً    إقليم فكيك يتصدر مقاييس الأمطار    تل أبيب: وقف الحرب مرهون بشروط    الجمارك تحجز باخرتين بالأبقار البرازيلية وتطالب بملياري سنتيم ضريبة    هزائم تدفع رئيس وزراء اليابان للتنحي    المراهق الإيطالي الراحل كارلو أكويتس يصبح أول قديس لجيل الألفية    دراسة: عصير الشمندر يُخفّض ضغط الدم لدى كبار السن    دراسة : السلوك الاجتماعي للمصابين بطيف التوحد يتأثر بالبيئة    أسعار المحروقات تتراجع دوليا وتباع بضعف قيمتها محليا    المغرب.. جدل متصاعد حول التمويل العمومي للأحزاب مع اقتراب انتخابات 2026    العصبة الاحترافية تفرج عن برنامج الجولتين الأولى والثانية من البطولة الوطنية    البراهمة: "استمرار اعتقال نشطاء الريف ينص جرحا مفتوحا في مسار العدالة والحقوق بالمغرب"    منير الحدادي يفاجئ الجميع بتوقيعه لفريق إيراني    فيليز سارسفيلد يحرز لقب كأس السوبر الأرجنتيني بفوزه على سنترال كوردوبا    المهرجان السينمائي الدولي للبندقية.. فيلم "Calle Malaga" لمريم التوزاني يفوز بجائزة الجمهور    مختبر المغرب و البلدان المتوسطية و مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي يوقعان اتفاقية شراكة    نقد مقال الريسوني    الصحة العالمية تقرر رفع حالة الطوارئ بخصوص جدري القردة    الملك محمد السادس يأمر بإصدار فتوى توضح أحكام الشرع في الزكاة    المجلس العلمي الأعلى يعلن إعداد فتوى شاملة حول الزكاة بتعليمات من الملك محمد السادس    مبادرة ملكية لتبسيط فقه الزكاة وإطلاق بوابة رقمية للإجابة على تساؤلات المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وأخيرا، ترابُك أريحا!
في ظلال المسجد الأقصى
نشر في المساء يوم 09 - 07 - 2014

لن أبكي على أريحا، لن أتباكى، عندي من الحزن ما يفتت الصخر لو ذرفته دمعا ولن. للفلسطيني وحده الحق في البكاء، وهو لا يفعل، كبرياءً، ولأن ما عاناه يعزّ به عن البكاء.
ما لا يمنعه من تعبير الأسى، كل ما يكتبه الفلسطيني، شعرا ونثرا هو ملحمة الأسى، والغناء موّال نديب، وهذا حقه مطلقا، لا أحد ينوب عنه، قد اغتُصبت أرضُه وتاريخُه وصباه. ونحن العرب كأننا جميعا شعراء المعلقات، نستهل قولنا بالبكاء على الأطلال لننتقل إلى يوم أن عقرنا للعذارى مطايانا، ومنه بأنّا نورد الرايات بيضا ونصدرهن حمرا قد روينا، فلا ألوم رشاد أبو شاور إذ يبدأ وصوله إلى أريحا بالتفجع: «آه! هذه المدينة حبيبة طفولتي، أحزاني وجوعي وعريي هذه الأريحا» ولا أستغرب من مريد البرغوثي أن لا يبكي، اللهم يكابر: «ها أنا أسير نحو أرض القصيدة: زائرا؟ عائدا ؟ لاجئا؟ مواطنا؟ ضيفا؟ لا أدري!(...) قدماي على الضفة الغربية للنهر، أصبح الجسر ورائي (...) لم أقبّل التراب. لم أكن حزينا. وأيضا لم أبك». مثله أنا، ربما جميعنا، نتحرك في بقعة محدودة من الضوء ونحن نسحب حقائبنا لننقلها إلى باص سيقطع بنا مسافة جديدة قبل أن نصبح هناك عند مضيفينا، علمنا أنهم متأهبون لاستقبالنا.
الليل غطاء يحجب المشاعر، ويزيد التعب إنهاكا لينقلب المأساوي عاديا، إن لم تعش المحن لن تفهم هذا، وستبقى رومانسيا أو ساذجا إلى الأبد. أبى الفنانان المصريان إلا أن يعيداننا إلى الأرض الخشنة، فلا نسبّح لرب الملكوت بالوصول إلى أرض الأنبياء. طلب سائق الباص ما يعادل أربع دولارات لنقل كل حقيبة، بينما الركوب في الباص لقطع الشوط الأخير في منطقة المراقبة الإسرائيلية بالمجان. مبلغ زهيد، إلا رجل الفنانين أبى واستكبر، وعكنن، إش معنى، والتفت إلى مرافقنا، ونتو بتعزمونا ليه! ومتدفعوش عننا ليه! وشيء من هذا اللجاج. كان بسيطا أن ننوب عن هذا السمج في الدفع ونخلص للأهم، إلا أن رغبة خبيثة لدينا في التمتع بهذا المقت أبقتنا متفرجين، والسائق يرفض نقل حقيبته هو ورفيقته، ونمنع العماني من بسط أريحيته في الدفع على الجميع، واستغربت كيف يوجد فنان من هذا القبيل، لا شك دخيل. لا بد تسقط أرضا وأدنى مع هؤلاء، مثلهم لا يخلو منهم سفر، هم حنظلُه لا ملحه، لكم كنا في غنى عن شطارته السخيفة وأقدامنا على وشك أن تطأ التراب.
توقف الباص من جديد في نقطة مراقبة، من خلال نافذة مغبشة ظهرت لي من وراء كوة محاطة بالأسلاك كاعب شقراء أخذت من السائق أوراقا وهمهمت بسؤال، واتصلت بهاتف قبل أن تسمح له بمواصلة السير رافعة حاجزا كان يسد الطريق، نحن لا نعرف متى تنتهي المراقبة الإسرائيلية، وتبدأ السلطة الفلسطينية حقا. العلامات واللوائح الخشبية المنصوبة في الخارج مكتوبة جلها بالعبرية، قليل منها بالعربية، هناك حركة دائبة ومتقطعة في آن، في محطة المعبر الإسرائيلي الأولى تحسبها من الخارج مثل أي محطة نقل طرقية، بينما داخلها مشحون، ومستودع أسرار، ومفترق طرق بكاء وحنين وشقاء وفرح، بين غادٍ ورائح، مقيم ونازح، حامل هوية ليثبت أنه إداريا فقط من هنا، وإلا فقد ضاعت كل الهويات مذ ضاعت فلسطين، لم يشفع حملها للشابين الفلسطينيين اللذين كانا يتساجلان من انتظار ترخيص الضابط الإسرائيلي كي يعبرا إلى الضفة الأخرى، تَشككَ من بنيتهما أنهما إرهابيان، كل عربي اليوم، في الجو والأرض، هو إرهابي أو احتماله إلى أن يثبت العكس.
الليل ساجٍ، ولا نجمة فوق سماء أريحا ونحن في أبريل. إن أردتَ دخول بلاد فاطرُقها نهارا لا ليلا، سترى وجهها، وتتقرّى ملامحها، وتحسَّ مباشرة أنك فيها، ورغم الليل أحسست أني أشمّ التراب حين نزلت، أخيرا نزلنا في ترابها، هي ذي الأرض المحتلة، إذن، أنا هنا، أصدق ولا أصدق، لا مناص من التصديق، قبلي عاش مُريد البرغوثي التجربة نفسها، وهو أجدر بها مني، لما عاد بعد ثلاثين عاما من المنع، كفّت عن أن تبقى تجريدا، وتجلت له جسدا أمام وملء الحواس، يراها بأم العين : «هي الآن ليست تلك الحبيبة في شعر المقاومة ولا ذلك البند في برامج الأحزاب، ليست جدلا ولا مجازا لغويا، ها هي تمتد أمامي ملموسة كعقرب، كعصفور، كبئر، كحقل طباشير، كآثار الأحذية». (19). بصعوبة تبينا خطونا بعد النزول من الباص، كان الضوء حيث توقفنا شحيحا، سنعرف أن شُحّ الكهرباء والماء بعض من تقتير إسرائيل على الفلسطينيين، إنما اهتدينا سريعا ب: يا مرحبا، يا مرحب، تناغم الترحيب من أفواه رجال واقفين بمدخل ساحة، هم ممثلو السلطة وشباب المثقفين وممثلو المعرض، ينتظرون وصولنا منذ لا أدري، وجوههم متعبة ومنشرحة بابتسامات فسيحة، فوانيس بددت كل ظلام، تزاحموا، يا للعيب، شيبا وشبابا لحمل حقائبنا، يفسحون لنا الخطوة نحو قاعة في جوف المكان، هذه قاعة الاستراحة عند مدخل أريحا، المخصصة لنزول الضيوف والوافدين المعنيين، قبل أن يواصلوا سبيلهم كلٌّ إلى دربه.
وُزعت علينا القهوة العربية، لا بد من الضيافة، هي والماء البارد، التعب أنهكنا، وبعض الجوع لاشك، ليست المسافة بعيدة بين عمان، وحيث نحن، في هذا المكان، تتعلم، قد تزداد يقينا أن المسافة لا تحسب بالكلمترات، بل بالزمن. عرفت هذا في مناسبات سابقة، حين احتجزت أسبوعا كاملا مع مجموعة مسافرين في النقطة الحدودية المسماة «جوج بغال» بين الجزائر والمغرب، في مطلع شهر يوليوز 1972، بسبب ظهور مرض الكوليرا واضطرارنا للمكوث عشرة أيام للانتقال إلى وجدة المغربية على مرمى حجر من وجودنا مرميين كما تركنا «الأشقاء»الجزائريون في الخلاء، لا طعام، لا ماء، ونلتحف السماء. وتعرف الفرق بين المسافة والزمن في الطريق من مِنى إلى عرفة لأداء مناسك الحج، لا تزيد عن عشر كلمترات ومن هول الزحام وتدفق الباصات والسيارات تحتاج إلى ساعات.
نريد الذهاب أسرع ما نستطيع إلى وجهتنا، هي رام الله، ما أقربها وأبعدها في هذا الليل الطويل، أريد أن أخاطبه كما خاطبه امرؤ القيس من قبلي، ألا انجلي، بصبح وما الإصباح منك بأمثل، فيكون نهارٌ وأرى المدينة تحت شمسه الوضاحة، نسري إليها في سيارة رباعية الدفع، قد حملنا حقائبنا كم مرة حملناها؟! أذكر كنا نسيناها في محطة المراقبة الحدودية الأردنية، أمضينا فيها وحدها قرابة ساعة، يتبدد الزمن في أعيننا هباء بغباء، وحين عادت إلينا الجوازات قفزنا رأسا إلى الباص، لولا أن ذكّرنا السائق بالدفع فافتقدناها، معها وعيُنا طار من شدة حاجتنا، شوقنا للوصول إلى رام الله، لم ندخل أريحا الليل حجاب السهل الباقي قبل الوصول، بعده سلاسل الجبال والوهاد، وكلما صعدنا كنا نسلك الدروب الصعبة إلى الله، وأن تذهب إلى فلسطين، أن تطأ أرضها، فأنت ترحل حقا وثانية إلى بلاد الله.
أحمد المديني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.