لن أبكي على أريحا، لن أتباكى، عندي من الحزن ما يفتت الصخر لو ذرفته دمعا ولن. للفلسطيني وحده الحق في البكاء، وهو لا يفعل، كبرياءً، ولأن ما عاناه يعزّ به عن البكاء. ما لا يمنعه من تعبير الأسى، كل ما يكتبه الفلسطيني، شعرا ونثرا هو ملحمة الأسى، والغناء موّال نديب، وهذا حقه مطلقا، لا أحد ينوب عنه، قد اغتُصبت أرضُه وتاريخُه وصباه. ونحن العرب كأننا جميعا شعراء المعلقات، نستهل قولنا بالبكاء على الأطلال لننتقل إلى يوم أن عقرنا للعذارى مطايانا، ومنه بأنّا نورد الرايات بيضا ونصدرهن حمرا قد روينا، فلا ألوم رشاد أبو شاور إذ يبدأ وصوله إلى أريحا بالتفجع: «آه! هذه المدينة حبيبة طفولتي، أحزاني وجوعي وعريي هذه الأريحا» ولا أستغرب من مريد البرغوثي أن لا يبكي، اللهم يكابر: «ها أنا أسير نحو أرض القصيدة: زائرا؟ عائدا ؟ لاجئا؟ مواطنا؟ ضيفا؟ لا أدري!(...) قدماي على الضفة الغربية للنهر، أصبح الجسر ورائي (...) لم أقبّل التراب. لم أكن حزينا. وأيضا لم أبك». مثله أنا، ربما جميعنا، نتحرك في بقعة محدودة من الضوء ونحن نسحب حقائبنا لننقلها إلى باص سيقطع بنا مسافة جديدة قبل أن نصبح هناك عند مضيفينا، علمنا أنهم متأهبون لاستقبالنا. الليل غطاء يحجب المشاعر، ويزيد التعب إنهاكا لينقلب المأساوي عاديا، إن لم تعش المحن لن تفهم هذا، وستبقى رومانسيا أو ساذجا إلى الأبد. أبى الفنانان المصريان إلا أن يعيداننا إلى الأرض الخشنة، فلا نسبّح لرب الملكوت بالوصول إلى أرض الأنبياء. طلب سائق الباص ما يعادل أربع دولارات لنقل كل حقيبة، بينما الركوب في الباص لقطع الشوط الأخير في منطقة المراقبة الإسرائيلية بالمجان. مبلغ زهيد، إلا رجل الفنانين أبى واستكبر، وعكنن، إش معنى، والتفت إلى مرافقنا، ونتو بتعزمونا ليه! ومتدفعوش عننا ليه! وشيء من هذا اللجاج. كان بسيطا أن ننوب عن هذا السمج في الدفع ونخلص للأهم، إلا أن رغبة خبيثة لدينا في التمتع بهذا المقت أبقتنا متفرجين، والسائق يرفض نقل حقيبته هو ورفيقته، ونمنع العماني من بسط أريحيته في الدفع على الجميع، واستغربت كيف يوجد فنان من هذا القبيل، لا شك دخيل. لا بد تسقط أرضا وأدنى مع هؤلاء، مثلهم لا يخلو منهم سفر، هم حنظلُه لا ملحه، لكم كنا في غنى عن شطارته السخيفة وأقدامنا على وشك أن تطأ التراب. توقف الباص من جديد في نقطة مراقبة، من خلال نافذة مغبشة ظهرت لي من وراء كوة محاطة بالأسلاك كاعب شقراء أخذت من السائق أوراقا وهمهمت بسؤال، واتصلت بهاتف قبل أن تسمح له بمواصلة السير رافعة حاجزا كان يسد الطريق، نحن لا نعرف متى تنتهي المراقبة الإسرائيلية، وتبدأ السلطة الفلسطينية حقا. العلامات واللوائح الخشبية المنصوبة في الخارج مكتوبة جلها بالعبرية، قليل منها بالعربية، هناك حركة دائبة ومتقطعة في آن، في محطة المعبر الإسرائيلي الأولى تحسبها من الخارج مثل أي محطة نقل طرقية، بينما داخلها مشحون، ومستودع أسرار، ومفترق طرق بكاء وحنين وشقاء وفرح، بين غادٍ ورائح، مقيم ونازح، حامل هوية ليثبت أنه إداريا فقط من هنا، وإلا فقد ضاعت كل الهويات مذ ضاعت فلسطين، لم يشفع حملها للشابين الفلسطينيين اللذين كانا يتساجلان من انتظار ترخيص الضابط الإسرائيلي كي يعبرا إلى الضفة الأخرى، تَشككَ من بنيتهما أنهما إرهابيان، كل عربي اليوم، في الجو والأرض، هو إرهابي أو احتماله إلى أن يثبت العكس. الليل ساجٍ، ولا نجمة فوق سماء أريحا ونحن في أبريل. إن أردتَ دخول بلاد فاطرُقها نهارا لا ليلا، سترى وجهها، وتتقرّى ملامحها، وتحسَّ مباشرة أنك فيها، ورغم الليل أحسست أني أشمّ التراب حين نزلت، أخيرا نزلنا في ترابها، هي ذي الأرض المحتلة، إذن، أنا هنا، أصدق ولا أصدق، لا مناص من التصديق، قبلي عاش مُريد البرغوثي التجربة نفسها، وهو أجدر بها مني، لما عاد بعد ثلاثين عاما من المنع، كفّت عن أن تبقى تجريدا، وتجلت له جسدا أمام وملء الحواس، يراها بأم العين : «هي الآن ليست تلك الحبيبة في شعر المقاومة ولا ذلك البند في برامج الأحزاب، ليست جدلا ولا مجازا لغويا، ها هي تمتد أمامي ملموسة كعقرب، كعصفور، كبئر، كحقل طباشير، كآثار الأحذية». (19). بصعوبة تبينا خطونا بعد النزول من الباص، كان الضوء حيث توقفنا شحيحا، سنعرف أن شُحّ الكهرباء والماء بعض من تقتير إسرائيل على الفلسطينيين، إنما اهتدينا سريعا ب: يا مرحبا، يا مرحب، تناغم الترحيب من أفواه رجال واقفين بمدخل ساحة، هم ممثلو السلطة وشباب المثقفين وممثلو المعرض، ينتظرون وصولنا منذ لا أدري، وجوههم متعبة ومنشرحة بابتسامات فسيحة، فوانيس بددت كل ظلام، تزاحموا، يا للعيب، شيبا وشبابا لحمل حقائبنا، يفسحون لنا الخطوة نحو قاعة في جوف المكان، هذه قاعة الاستراحة عند مدخل أريحا، المخصصة لنزول الضيوف والوافدين المعنيين، قبل أن يواصلوا سبيلهم كلٌّ إلى دربه. وُزعت علينا القهوة العربية، لا بد من الضيافة، هي والماء البارد، التعب أنهكنا، وبعض الجوع لاشك، ليست المسافة بعيدة بين عمان، وحيث نحن، في هذا المكان، تتعلم، قد تزداد يقينا أن المسافة لا تحسب بالكلمترات، بل بالزمن. عرفت هذا في مناسبات سابقة، حين احتجزت أسبوعا كاملا مع مجموعة مسافرين في النقطة الحدودية المسماة «جوج بغال» بين الجزائر والمغرب، في مطلع شهر يوليوز 1972، بسبب ظهور مرض الكوليرا واضطرارنا للمكوث عشرة أيام للانتقال إلى وجدة المغربية على مرمى حجر من وجودنا مرميين كما تركنا «الأشقاء»الجزائريون في الخلاء، لا طعام، لا ماء، ونلتحف السماء. وتعرف الفرق بين المسافة والزمن في الطريق من مِنى إلى عرفة لأداء مناسك الحج، لا تزيد عن عشر كلمترات ومن هول الزحام وتدفق الباصات والسيارات تحتاج إلى ساعات. نريد الذهاب أسرع ما نستطيع إلى وجهتنا، هي رام الله، ما أقربها وأبعدها في هذا الليل الطويل، أريد أن أخاطبه كما خاطبه امرؤ القيس من قبلي، ألا انجلي، بصبح وما الإصباح منك بأمثل، فيكون نهارٌ وأرى المدينة تحت شمسه الوضاحة، نسري إليها في سيارة رباعية الدفع، قد حملنا حقائبنا كم مرة حملناها؟! أذكر كنا نسيناها في محطة المراقبة الحدودية الأردنية، أمضينا فيها وحدها قرابة ساعة، يتبدد الزمن في أعيننا هباء بغباء، وحين عادت إلينا الجوازات قفزنا رأسا إلى الباص، لولا أن ذكّرنا السائق بالدفع فافتقدناها، معها وعيُنا طار من شدة حاجتنا، شوقنا للوصول إلى رام الله، لم ندخل أريحا الليل حجاب السهل الباقي قبل الوصول، بعده سلاسل الجبال والوهاد، وكلما صعدنا كنا نسلك الدروب الصعبة إلى الله، وأن تذهب إلى فلسطين، أن تطأ أرضها، فأنت ترحل حقا وثانية إلى بلاد الله. أحمد المديني