« هناك من الرجال من يُعجبوننا عندما نُبحر معهم في صفحات التاريخ الدموي العميق، ونرى النفس البشرية على حقيقتها عندما تتحوْل إلى وحش لا يشبع من سفك الدماء، ولا يغمض جفنه قبل التمثيل بالآخرين...، نؤْسَر بحكاياهم لحظات وصولهم إلى السلطة أو التربّص بخصومهم قبل أن تقشّعر أجسادنا لحظات، نبدأ معها بتلاوة تفاصيل عملياتهم وكيفيات تنفيذها، حيث الدم والقتل أرقى أساليبهم، لكننا نتردّد عن الإعجاب بهم عندما نعي جبروتهم وسفكهم الدماء بمُسميات العدالة أو الضمير الحي، دون رحمة وشفقة ودون الشعور بالرأفة أو الخجل ودون الإحساس بإمكانية وصولهم إلى المصير المؤلم الذي يُساق إليه الآخرون، وهناك إعجاب آخر بحواء ذات الأنامل الناعمة والإبتسامة المُشرقة والقدود الميّاسة التي تتحوْل سريعا من خانة الآدمية إلى خانة الوحشية والدموية، وتتحوْل فيها من مخلوق وديع لطيف إلى ثعبان شرير يلدغ كل من يقترب منه، وقد استقرت فوق قبر معد لدفن أحدهم...إنهم رجال ونساء عبروا بوابة الشر وأصبحوا أشهر السفاحين في التاريخ».. في شهر أبريل من العام 1919 فاجأت الصحف الفرنسية ذات صباح جمهورها بمانشيتات تحمل: الرجل ذو المائة عام...ذو اللحية الزرقاء يعود إلى الحياة....سفاح يقتل عشر نساء....، كانت تلك المانشيتات قد هيمنت على اجتماعات المنصبة للقادة الفرنسيين في ذلك اليوم، لتحتل معها حقيقة الرجل في جميع مخافر الشرطة الفرنسية والذي يحمل أسماء مُتعددة «دوبون ديجاردان»، «برونيه بيير»، «دوران دومون»، «موريز فريجيه».... الخ، رغم أن اسمه الحقيقي هو «هنري ديزيرو لاندرو» المولود في باريس 1869 وأخذ يحمل في طباعه الداخلية تهماً تصل عقوبتها إلى الإعدام، تتصل في مجملها بالاحتيال واللصوصية وسوء الائتمان والقتل العمد الذي تم الكشف عنه في مجريات التحقيق معه في الجرائم الأولى بعد أن أدين بقتله عشر نساء.... كانت القصة قد بدأت برسالة تلقاها رئيس بلدية «غايته» في أيار 1918 من سيدة تدعى «لاكوست» تقول فيها إنها قلقة على شقيقتها «بويسون سلستين» التي لم تتلق منذ عام كامل أي نبأ عنها، منذ أن أوصلتها صحبة خطيبها السيد «فريميه» إلى إحدى الفيلات هناك...، وقد كتبت لها مرات عديدة دون أن تتلقى منها أي إجابات قائلة: لقد خطر لي بأن العنوان الذي أكتب إليه قد يكون خاطئا، فهل تتكرم وترشدني إلى العنوان الصحيح»، واصفة له الفيلا التي تسكنها شقيقتها بعد أن كانت قد أوصلتها إليها بنفسها منذ أكثر من عام....، وبعد أيام تلقى رئيس البلدية رسالة أخرى مُشابهة من السيد فريجيه تفيد باختفاء ابنته مع شخص يحمل اسم (دوبون) في وصف مشابه للفيلا التي جاءت في الرسالة الأولى، وتوالت الرسائل المُشابهة فسارعت السلطات إلى بدء التحقيق المباشر لمعرفة السرّ وراء اختفاء النساء مع شخص يحمل المواصفات نفسها في ظلّ أسماء وأماكن مختلفة. لم تنجح إجراءات البحث والتقصي التي بدأت تقوم بها السلطات الفرنسية في الوصول إلى النتائج المتوقعة حتى سارعت إلى إقفال الملف وتسجيل عمليات الاختفاء المتعدّدة للنساء ضد مجهول، حتى جاءت المصادفة الجميلة بعد اتصال إحدى السيدات الذي يفيد بأنها لاحظت رجلاً يحمل أوصاف المشتبه به( بعد نشره بالصحف) يدعى السيد (فريجيت) وقد هم للتوْ بمغادرة أحد مخازن بيع الأواني الخزفية فسارعت الشرطة إلى تعقبه والوصول إلى مكان إقامته الجديد بشارع روشتسوار رقم 76 الذي يسكن فيه تحت مسمى وظيفته الجديدة (مهندس كهربائي) وكونه متزوج ويملك سيارة صغيرة، وباتت التحقيقات جارية بعد أن بدأت تزداد حوله الشكوك نتيجة إفادات خادمته بعدم مكوثه في البيت وذهابه دائما في رحلات متعدّدة وإلى مدن مختلفة. عاد المفوض إلى مخفر الشرطة وقد بدأت الشكوك تراوده حول حقيقة هذا الشخص، وبدأ البحث المعمّق في سجلات الشرطة التي تبين له من خلالها وجود عدة مذكرات توقيف باسم «هنري ديزيرو لاندرو» المعروف ب»غيلليه» والملاحق بحوادث سرقة واحتيال، وتأكد بأن «غيليله» هو نفسه لاندرو ونفسه فرغييت ودوبون، وأنها كلها أسماء لرجل واحد، انتظر المفوض عودته إلى منزله بفارغ الصبر، بعد أن كان قد أصدر أوامره لرجاله بالتربص به وإعلامه لحظة وصوله إلى المنزل الذي جاء إليه بعد سبعة أيام وتمت محاصرته وإلقاء القبض عليه رفقة امرأة شقراء في السادسة والعشرين من عمرها وهي شبه عارية تماما، وقد بدأت تصرخ قائلة: لماذا توقفونه إنه رجل شريف ووديع وقد كان لطيفا معي وكنّا سنتزوج قريبا.... في حضرة الشرطة بدأ «غيلليه» بالاعتراف بدءا باسمه الحقيقي وهو «هنري لاندرو» وببعض حوادث الاحتيال والتنكر واللصوصية التي ارتكبها، لينتهي به المطاف باعترافه بكامل جرائمه ضد النساء المفقودات اللواتي بلغ عددهن ثلاثين امرأة، رغم تهربه وإنكاره في البداية علاقته باختفائهن، تلك الجرائم التي اعترف بالقيام بها ابتداء من العام 1909 بعد خروجه من السجن، واعدا إياهن بالزواج بعد تجريدهن من أموالهن والتخلص من جثثهن، وهي اعترافات بدأ يسترسل بها هنري بعد عثور المفوض على مفكرة صغيرة في جيبه مسجل عليها بالحبر الأحمر كل ما ينفقه على طعامه وتنقلاته وحياته اليومية، لكن هناك صفحة واحدة لم يسجل فيها المتهم الأكل والشرب الذي تناوله، بل سجل فيها أجور الغطاء وبعض أسماء النساء المفقودات. سرعان ما أعطى مفوض الشرطة أوامره بتفتيش منزل المتهم، لكن المفاجأة كانت قوية جدا حين عثر ما بين الحطام على رسائل موجهة إليه من عدد كبير من النساء، وإعلانات طلب الزواج وتذاكر هوية وبطاقات إعانة وثياب نسائية داخلية وشعر مستعار وأسنان اصطناعية، وتبين من خلالها أن من بين حاجيات هذا الحطام السيدتان المختفيتان «سلستين بويسون» و»آنا كولومب» بعد أن وجدت في مستودع الذكريات أوراقهما ورسائلهما مرتبه ومبوبة، وتبين أنهما لاقتا مصيرهما بسبب إعلان صغير نشره المتهم في جريدة «الجريدة» باب طلبات الزواج وكتب فيه: «رجل في الخامسة والأربعين من عمره وحيد بلا أسرة، مدخوله 4 آلاف فرنك يرغب في الزواج من سيدة ناضجة»، فأجابته المرأتان على الإعلان إضافة إلى آنا كولومب، جان كوشيه، آنيت باسكال، لويز جوزيفين، ماري انجليلك غيليان، بيرت اناميسون ومدام تيريز لابوردلين، والفرنسية ذات الأصول الأرجنتينية آندره بابولاي الشامبو ذات التاسعة عشر ربيعا، والغريب أنه كان بعد قتلهن يقطعهن بالمنشار الحاد ويحرق جثثهن في الفرن الكبير داخل منزله السرّي. تم تقديم لاندرو إلى المحاكمة في 7 تشرين الثاني نوفمبر 1921 والتي تهافت على حضورها عشرات النساء الفرنسيات وسيدات المجتمع اللواتي جئن بكل أناقتهن لمشاهدة لاندرو الذي بدا أنيقا مهيبا بقامته الطويلة ولحيته المسترسلة يهمسّن فيما بينهنّ: «إنه رجل مميز جذاب فيه مهابة وجلال، بينما كان الجمهور يضحك حينما قال لاندرو للنائب العام الذي كان يطالب برأسه: إنك تتحدّث عن رأسي دائما يا حضرة النائب العام، ويؤسفني أنني لا أمتلك عدة رؤوس لأقدمها لك، مُنكرا في نفس الوقت بوقار وثبات قتله للنساء الثلاثين المختفيات قائلا: «إنني لا أنكر أنني كنت على معرفة بالنساء المختفيات.... فقد عاشرتهن جميعا، كل واحدة منهن شهرا أو شهرين..، وكنت سرعان ما أنفصل عن أي واحدة للبحث عن أخرى بعد تلك المدة لأسباب خاصة كنت أجدها فيهن، لكن ذلك لا يعني أنني أنا السبب وراء اختفائهن أو موتهن....، إنهنّ نساء راشدات وأجهل ما حصل لهن ..» وهكذا بقي لاندرو مُنكرا لعلاقته بهنّ حتى اعترف بجرائمه في الثلاثين من تشرين الثاني نوفمبر، ليحكم عليه بالموت لارتكابه عمدا إحدى عشر جريمة قتل ضد خطيباته العشر وابن إحداهن، وليدخل إلى زنزانته فجر اليوم التالي شرطيان وكاهنان ومساعد النائب العام ويتلون عليه الحكم القاضي بإعدامه. معادي أسعد صوالحة