يوسف الحلوي وضع نور الدين زنكي سيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز نصب عينيه واتخذه قدوة له في سائر شؤونه. وقد عني الشيخ معين الدين الإربلي بتدوين سيرة عمر وقدمها إلى نور الدين كي يستفيد منها في الإدارة والقضاء، ويتخذ منها دافعا يحمسه لبناء مشروع النهضة الذي كان يحلم به. كانت بلاد المشرق في زمنه نهبا للصراعات والتطاحنات السياسية بين أمراء المسلمين، كما كانت هدفا لاستنزاف القوى الصليبية التي كثفت هجماتها على المشرق واستغلت خيراته، وكان تفرق المسلمين عائقا أمام مواجهة الأطماع الصليبية، وفوق ذلك كان للفاطميين دور خطير في منع قيام أي جبهة موحدة ضد الصليبيين، خاصة بعدما بسطوا نفوذهم على مصر واشرأبوا بأعناقهم إلى غيرها من بلدان المشرق ورفعوا شعارا براقا يجذب الطبقات المسحوقة في سائر بلاد الإسلام: «إن المهدي قادم ليملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا». وهكذا سيحدد نور الدين أولوياته في الصراع، وسيضع أهدافا مسطرة بعناية ودقة لإنقاذ الأمة جمعاء، وكانت أبرز أهدافه أن ينشئ جبهة إسلامية موحدة لمواجهة المد الصليبي. وقبل تأسيس هذه الجبهة كان لا بد من بسط العدل وتقديم نموذج مشرق للناس يلتفون حوله ويدافعون عنه، فأسس مجالس للشورى ضمت خيرة فقهاء وعلماء عصره، وحفظ كرامة مواطنيه وأغدق على فقيرهم وكفل يتيمهم واستعان على خدمتهم بالزهد والورع فعلا شأنه بين الناس وقد مدحه أحد الشعراء قائلا : يا أيها الملك المنادي جوده/في سائر الآفاق هل من معسر/ ذلت لدولتك الرقاب ولم تزل/إن تغز تغنم أو تقاتل تظفر وقد روى عنه المؤرخون العجب إذ كان صواما زاهدا لا يلتفت لشيء من مباهج الدنيا حتى أنه كان يغزل الصوف خفية ويبيعه ولا يفطر إلا مما يقع في يده من ثمن عمل يده، ومن كانت هذه سيرته انقادت له الأمة عن بكرة أبيها. وهكذا فحين منع الخمارات ودور اللهو بالشام أطاعه الناس لأنهم أحبوه وتعلقوا به، فقد توضحت لهم غايته، وعلموا أنه يسعى إلى بناء مجتمع قوي متماسك مدرك لطبيعة الأخطار المحدقة به، ولأن بلاده كانت هدفا لغزو الفكر الشيعي الباطني فقد سعى لمحاربة المد الشيعي بإنشاء المدارس وتحفيز العلماء على أداء مهامهم ونبذ العصبية المذهبية التي أضعفت الأمة. قال ابن كثير: «كان نور الدين يتحرى سنة النبي (ص) في أموره كلها ومن أعظم إنجازات دولته إسقاط الدولة الفاطمية». باشر نور الدين زنكي مجموعة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والدينية، فوضع المكوس والضرائب وتمسك بمبدإ الشورى في إدارة الدولة وفصل السلط وأعاد للقضاء هيبته. ومما يروى عنه أنه دعي لمجلس القضاء أكثر من مرة فامتثل طالبا من القاضي أن يساوي بينه وبين خصومه وألا يحابيه في أحكامه. ولزنكي فضل عظيم في تنظيم الشؤون الإدارية بدولته وفي وضع الدواوين وضبط النفقات، فسمي بسبب جهوده في كل هذه المجالات بسادس الخلفاء الراشدين. وأما دوره في دفع بلاء الصليبيين ومحاربتهم فدور عظيم، فهو أستاذ صلاح الدين الأيوبي وعنده كانت بداية أمره. يقول العماد الأصفهاني: «إن صلاح الدين كان لا يخرج عن أمر نور الدين ويعمل له عمل القوي الأمين ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين». ولو لم تكن لنور الدين من حسنة في مقاومة الحملة الصليبية غير تقديم صلاح الدين وإسناد الأمر إليه لكفته، والحاصل أن حسناته في إنقاذ المشرق من طغيانهم كثيرة ومتعددة، فعلى يديه فتحت الرها ومعها حصون وقلاع وثغور كثيرة كقلعة أفامية وقلعة عزاز وتل باشر ودلوك ومرعش وقلعة عينتاب وبانياس، وله في ميادين القتال صولات وجولات، إذ كان يتقدم الصفوف ويطلب الموت في ساحات النزال. يقول ابن عساكر: «بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة» . أصيب نور الدين عام 569 ه بالذبحة الصدرية ولازم بيته أحد عشر يوما لا يغادره إلى أن فاضت روحه في منتصف شوال من نفس السنة، عن عمر يناهز تسعة وخمسين عاما، فاغتم لوفاته الخاص والعام ورثاه الشعراء بغرر القصائد، وفي مقدمتهم العماد الأصفهاني الذي قال في نعيه: الدين في ظلم لغيبة نوره/ والدهر في غمم لفقد أميره/ فليندب الإسلام حامي أهله/ والشام حافظ ملكه وثغوره/ ما أعظم المقدار في أخطاره/ إذ كان هذا الخطب في مقدوره/ ما أكثر المتأسفين لفقد من/ قرت نواظرهم بفقد نظيره