كرة القدم المغربية .. من شغف الملاعب إلى قوة ناعمة واقتصاد مزدهر    طنجة.. توقيف أزيد من 20 مرشحًا للهجرة غير النظامية بمحطة القطار    أمن طنجة يوقف ثلاثة قاصرين بعد تداول فيديو يوثق تراشقًا بالحجارة قرب مدرسة    إصابة 11 شخصا جراء غارات إسرائيلية عنيفة على جنوب لبنان    المغرب يستعد لإطلاق رحلات جوية مباشرة بين الدار البيضاء وسانت بطرسبورغ    ادحلي تستقبل الوزير المستشار بالسفارة الصينية لبحث سبل تعزيز التعاون البرلماني بين المغرب والصين    بني كرفط.. الدرك الملكي يحجز طناً و400 كيلوغرام من "الكيف" الخام بإقليم العرائش    نادي نهضة بركان يحط الرحال بالقاهرة    السعدي يحفّز الحوار الاجتماعي القطاعي    بورصة البيضاء ترتفع بنسبة 1,31 بالمائة    الصحف الشيلية تحتفي بإنجاز المغرب    مونديال الشيلي لأقل من 20 سنة.. "الأشبال" يدخلون التاريخ كأول منتخب عربي يتأهل إلى النهائي منذ 44 سنة    كأس العالم 2026.. بيع أكثر من مليون تذكرة خلال مرحلة البيع المسبق لحاملي بطاقات "فيزا"    أمن طنجة يوقف مبحوثًا عنه في حالة تلبس بسرقة دراجة نارية باستعمال العنف والسلاح الأبيض    الدريوش تعطي انطلاقة أشغال الورشة الدولية حول: "الأسماك السطحية الصغيرة في ظل الإكراهات المناخية والصيد المفرط.."    مربّو الدجاج بالمغرب يتهمون لوبيات القطاع بالاحتكار ويحمّلون الحكومة مسؤولية فشل الإصلاح    "هيومن رايتس ووتش" تطالب السلطات بالاستجابة لمطالب شباب "جيل زد" والتحقيق في الوفيات والانتهاكات    المندوبية السامية للتخطيط: تحسن سنوي في ثقة الأسر المغربية    محمد وهبي: سنواجه الأرجنتين بنفس الحماس لانتزاع كأس العالم    المؤتمر الاستثنائي الاتحادي العام 1975 مؤتمر متوهج عبر امتداد الزمن    في صلب النقاش المفتوح بخصوص الورقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. شعار المؤتمر …. الاختيار الموفق    جيل زد في المغرب: بين الكرامة وخطر الهجرة    جيل 2022 فتح الباب .. جيل 2025 يعبر بثقة من مونديال قطر إلى كأس العالم U20... المغرب يصنع مدرسة جديدة للأمل    قطاع التعليم بين حركية الإصلاحات وثبات الأزمة    تهم اقليم الحسيمة ومناطق اخرى .. نشرة انذارية تحذر من امطار رعدية قوية    محمد سلطانة يتألق في إخراج مسرحية والو دي رخاوي    عاصمة البوغاز على موعد مع الدورة أل 25 من المهرجان الوطني للفيلم    أبناء الرماد    قطاع غزة يتسلم جثامين من إسرائيل    لوكورنو ينجو من تصويت بحجب الثقة    "جنان الجامع" يحترق في تارودانت    توقعات بإنتاج 310 آلاف طن من التفاح بجهة درعة-تافيلالت خلال 2025    "الزمن المنفلت: محاولة القبض على الجمال في عالم متحوّل"    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    مجموعة "سافران" الفرنسية تثمن بيئة الاستثمار في المغرب وتوسع أنشطتها بالنواصر    رفع التصنيف السيادي للمغرب محطة مفصلية للاقتصاد الوطني    نتانياهو: "المعركة لم تنته" في غزة والمنطقة    إجراءات ‬جديدة ‬لتسهيل ‬دخول ‬المغاربة ‬إلى ‬مصر ‬دون ‬تأشيرة    الرباط تحتفي بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وتجدد المطالب بإسقاط التطبيع    فرحة عارمة بمدن المملكة بعد تأهل المنتخب الوطني لنهائي مونديال الشيلي    الأمم المتحدة.. المغرب يجدد تأكيد دعمه "الثابت والدائم" لسيادة الإمارات العربية المتحدة على جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى    طقس حار نسبيا بأقاليم الجنوب مع سحب غير مستقرة وأمطار متفرقة اليوم الخميس    "إيزي جيت" تراهن على المغرب بإفتتاح أول قاعدة لها في إفريقيا بمطار مراكش عام 2026    هلال: الصحراء المغربية قطب للتنمية .. وركيزة للأمن والاستقرار في إفريقيا    كنز منسي للأدب المغربي.. المريني تكشف ديوانا مجهولا للمؤرخ الناصري    ريتشارد ديوك بوكان.. رجل ترامب في الرباط بين مكافأة الولاء وتحديات الدبلوماسية    قصص عالمية في مهرجان الدوحة    الدين بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين ..    هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان ؟    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عادل القرشولي
أتى وقت شعرت فيه أنني لا أستطيع تغيير العالم من خلال قصائدي
نشر في المساء يوم 19 - 08 - 2009

عادل القرشولي يعد واحدا من الشعراء والمترجمين الذين بنوا جسورا مابين الثقافات، قدم للجمهور الألماني كثيرا من الكتاب العرب كعبد الرحمن منيف والطيب صالح ومحمود درويش وغيرهم، خاصة حين كان رئيس فرع اتحاد الكتاب الألمان لمدينة لايبزغ، ويعد بالغ الحضور في الساحة الثقافية العربية والألمانية، لما يتمتع به من صفات، فهو شاعر وكاتب ومترجم . ولد في دمشق سنة 1936 وهاجر إلى ألمانيا منذ ما يقرب من أربعين عاما ويعتبر من أهم الشعراء الأجانب الذين يكتبون بالألمانية، حصل على عدة جوائز منها: جائزة لايبزغ 1985، ومنحته الأكاديمية البفارية للفنون الجميلة جائزة شاميسو وهي أهم جائزة تمنح لكاتب أجنبي يكتب بالألمانية سنة 1992، أصدر ما يفوق سبع مجموعات شعرية باللغة الألمانية ك»حرير من دمشق» و«وطن في الغربة « و«هكذا تكلم عبد الله». وترجم عادل القرشولي،أشعار درويش إلى الألمانية، لإعجابه الشديد بتجربة درويش الشعرية، والتي يعتبرها أدبا يصمد في كل حلبات التنافس العالمية، وانفتاحها على الكون. يقيم عادل القرشولي في مدينة لايبزغ منذ 49 عاما، قدم إليها مغتربا، وما لبث أن ارتبط اسمه إبان الموجة الشعرية بأسماء شعراء أمثال فولكر براول، وسارة أورايني، كيرش وهاينس تشيخو فسكي وأدولف أندل وآخرين.
- عاصرت شعراء الموجة الشعرية بألمانيا منذ الستينيات وبدأت في كتابة القصيدة العربية في الخمسينيات، هل بإمكانك أن ترصد لنا هذه التجربة؟
< كتبت القصيدة وأنا في الخامس عشرة من العمر، ونشرت لي أول قصيدة في نفس السن وأصبحت عام 1957 أصغر أعضاء رابطة الكتاب العرب آنذاك، التي كانت تضم كتابا من جميع الأقطار العربية، من مصر، العراق، سوريا ولبنان... وكانت تضم الكتاب المعروفين آنذاك ثم اضطررت لمغادرة سوريا عام 1959 وذهبت لبيروت التي قضيت بها سنة ومنها إلى ألمانيا.
أكتب الشعر باللغة العربية وبالألمانية، وفي ألمانيا درست بمعهد الأدب في مدينة لايبزغ وهو معهد فريد على الصعيد العالمي، حيث كان يدرس به فقط الأدباء الشبان الألمان وكنت الطالب العربي الوحيد في هذا المعهد.
وصادف, خلال دراستي آنذاك, أن عرفت جمهورية ألمانيا الديمقراطية انطلاق الموجة الشعرية، كما تسمى في تاريخ الشعر الألماني، وتضم شعراء شباب كانوا يذهبون إلى النوادي والمصانع وإلى المسارح والجامعات والمدارس وحتى الحدائق العامة، ليقيموا الأمسيات الشعرية. وجرى حوار حاد جدا حول الشعر الألماني المعاصر آنذاك قاده شعراء معروفون الآن بألمانيا وكنت أنا أحد هؤلاء الشبان الذين ساهموا في هذه الموجة الشعرية.
أما عن القصيدة العربية فلابد لي أن أتكلم عنها قبل ذهابي إلى ألمانيا، فقصيدتي العربية في البدايات انتظمت في ما كتب في الخمسينيات شعرا رومانسيا متأثرا بجبران وعلي محمود طه وأمين نخلة ونازك الملائكة وأبي شادي وغيرهم، ثم توجهت مع المد الوطني في منتصف الخمسينيات إلى الشعر السياسي ومحاولة المزاوجة بين الرومانسي والسياسي. ففي هذه الفترة وقعت حرب السويس في مصر وهنا جرى تحول ليس في قصيدتي فحسب وإنما في مجمل الشعر العربي، حيث انتقل هذا الأخير إلى أن يضع الهم السياسي في مقدمة هذا الهاجس، وطبعا انتظمت قصيدتي التي كانت ما تزال غضة رغم أنني انضممت إلى رابطة الكتاب العرب في دمشق كدم جديد كما قيل، وكنت أصغر أعضاء الرابطة آنذاك، وقصائدي الأولى كما أقرها اليوم وكما قرأها الدكتور عبد الغفار المكاوي الذي كتب كتابا عني في مصر بعنوان»الزيتونة والسنديانة» تزاوج بين الرومانسي والسياسي، ولم تستطع هذه التجربة المبتدئة أن تكتمل قبل خروجي من دمشق.
في ألمانيا في هذه الموجة الشعرية التي تحدثنا عنها قبل قليل، كنت قدمت قصائد مترجمة عن اللغة العربية بالألمانية المبسطة، لأن لغتي لم تكن قد نضجت بعد، فكنت أصوغ هذه القصائد مع زملائي الألمان، والذي أدهشني أن هذه القصائد تحديدا لاقت إقبالا بشكل غريب هناك، وأصبحت بين ليلة وضحاها من المشاهير، ووجدت صورتي على أغلفة إحدى المجلات، هذا أحدث عندي شيئين نقيضين، طبعا، الاعتزاز والغرور، ولكنه في الآن نفسه أرعبني أيضا لأني كنت من المقدرة بأن أدرك بأن قصائد زملائي من الألمان تعجبني أكثر من قصائدي، هاته الأخيرة كانت تتحدث عن مواضيع بعيدة عن الهم الألماني الشاب في تلك الآونة، وتولد لدي شعور أن ما أعجب الجمهور هو الغرابة في هذه القصائد، وأنا لم أشأ أن أكون نبتة نادرة في مزهرية ما، وإنما كنت قد بدأت في تلك الآونة بعد إنهاء الدراسة، في كتابة رسالة الدكتوراة عن الكاتب المسرحي «برتول بريخت» الذي كنت معجبا به خلال دراستي الجامعية، و«بريخت» كان يحاول أن يغير العالم من خلال مسرحه وأدبه الشعري وتنظيراته، وكان في تلك المرحلة «أي منتصف الستينيات المتأخرة تسود على الصعيد العالمي هواجس تغييرية كثيرة، ومن هنا قلت لنفسي علي أن أحارب بنفس الأسلحة : أي كنت أكتب أيضا عن القضايا التي تهمني وتهم العالم هناك، والتي يمكن أن تمحو عني صورة الغرابة، وأحيانا كنت أكتب قصائد نقدية عن العالم العربي وعن هواجسي، ولاحظت أن هذه النظرة النقدية لم تكن تساهم في وضع الأحكام المسبقة في مكانها الحقيقي، بمعنى أنني كنت هكذا آنذاك، أما اليوم فأرى الموضوع بشكل مغاير قليلا، ومن نماذج هذه الأحكام المسبقة، أذكر قصيدة لي عنوانها»سلمى عشقت ديبان» ولأنها رفضت أن تتزوج من رجل آخر قتلوها، طبعا القصيدة كانت في تلك المرحلة مكتوبة في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، هذه القصيدة في سوريا قد تلعب دورا تغييريا، أما في ألمانيا فكانت في اعتقادي آنذاك تلعب دورا تكريسيا لحكم سبق عند الألمان، وهكذا بدأت بكتابة القصيدة باللغة الألمانية.
أحيانا لكي أمحو عن جبني وشم الغرابة كنت أحذف من قصيدتي الألمانية كل ما يمكن أن يدل على هذه الغرابة حتى في الصورة الشعرية، ومن هنا كتبت قصائد جدلية وسياسية وتغييرية، وفي اعتقادي أنها لم تغير شيئا، فكانت قصائد جدلية ولكنها لم تكن شعرية، واستمر هذا الوضع الى منتصف السبعينيات تقريبا، وفي هذه الفترة بدأت أحاكم الأمور والوضع بشكل عام، وحتى السياسي في ألمانيا الشرقية آنذاك، ليس من وجهة نظر أو من مفهوم المقارنة بين سوريا وألمانيا الشرقية، لأن كل مقارنة كانت لصالح ألمانيا الشرقية، وفي تلك الفترة بدأت نظرتي تتخذ منحا آخر أكثر نقدا للمجتمع الذي أعيش فيه، وبدأت قصائدي تسعى في هذا الاتجاه.
على مستوى التركيب الجمالي طبعا كانت أدواتي الشعرية قد نضجت، في البداية كتبت قصائد بسيطة، ولكن بساطتها أيضا أعجبت الجمهور جدا.
- بمعنى قدمت سهلا ممتنعا؟
< بالضبط، لأن الشعراء الألمان لم يكونوا يستطيعون كتابة مثل هذه القصائد لأنهم يريدون أن يلعبوا باللغة وبالصور الشعرية المعقدة، أنا كان لدي أشياء كبيرة جدا أريد أن أقولها خاصة وأني كنت أستطيع أن أقارن بين ثقافتين، بين حضارتين، بين موقفين من الحياة ومن العالم، بينما الشعراء الألمان لن يستطيعوا فعل ذلك، خاصة في ألمانيا الشرقية، لأن السفر والتحرك كان ضعيفا بالنسبة لهم، أما أنا فهذه المقارنة قد أعطتني رؤية ليست فلسفية وسياسية فقط، وإنما أيضا شعرية، وكنت أكتب قصائد قصيرة وأحيانا تبدو بسيطة، ولكن خلف هذه البساطة كان العمق الموجود في خلفيتها في داخلي، من بين القصائد الأولى التي كتبت قصيدة بعنوان «ديالكتيك»، أي جدلية، أقول فيها:
لأني أحبك. أحب العالم
لأني أحبك. أجده جميلا
لو كنت أستطيع أن أكرهك. لكرهت العالم
ولأن العالم في ذاتي. لكرهت نفسي
ولأني لا أريد أن أكره نفسي. فإني أحبك.
يعني قصائد بسيطة جدا، ولكن ليست بهذه البساطة التي تكون عادية، يعني هناك رؤية محددة محكمة خلف القصائد التي أكتبها، لأنني أحمل ميراثا غنيا من الشعرية العربية، وكنت أحمل موقفا فكريا ناضجا، ولكن كنت أحيانا كرجل يلبس عباية طفل لغوية.
- اشتغلت في مجال الترجمة، هل لك أن ترصد لنا هذا المسار الفكري، ولماذا هذا الاختيار؟
< قبل هذا، أريد أن أضيف إلى حديثي عن كتابتي للقصيدة الألمانية، أنه قد أتى وقت شعرت فيه أنني لا أستطيع تغيير العالم من خلال قصائدي، فتوقفت عن النشر في فترة لابأس بها، وفي هذه الفترة قرأت التراث الصوفي ليس فقط التراث الإسلامي، وإنما قرأت أيضا التراث الصوفي المسيحي في الغرب، الذي هو في الحقيقة ذو أبعاد فلسفية أكثر منها دينية، وقرأت النفري ثانية والذي كنت أعرفه طبعا، وأثارتني عبارته «أوقفني في موقف كذا وقال لي عبد الله»، وهذا الأخير في هذه المجموعة تحديدا شخصية مفترضة، هو ذات تموضعت في القصيدة لإجراء حوار مع الذات الأخرى الكائنة في الداخل، كان يمكن لعبد الله هذا أن يحمل من هذا المنطلق أي اسم آخر، اخترت عبد الله الذي كان مستخدما في الشعر العربي قبلي طبعا، لأنه يعبر عن الإنسان المطلق، وقال عبد الله لي : سمحت لي بأن أجعل نفسي مخاطب نفسي، أي أني أصبحت مخاطب القصيدة، حيث موضعت إحدى الذاتين في الخارج، وجعلتها تحاور ذات الداخل، ومن هنا سمحت لي هذه اللعبة التقنية إن سمح لنا أن نسميها كذلك، سمحت لي بأن أجري حوارا مع الذات، وبأن أناقض نفسي أحيانا، حيث كنت اعبر عن فكرة فلسفية في قصيدة، وأناقضها في قصيدة أخرى لأنه نوع من الحوار الشعري.
في هذه التجربة أعتقد قد اكتملت، ومن ناحية أخرى لم أعد أخشى أن أعود إلى الصورة الشعرية الشرقية، وقد قلت في إحدى المقابلات، أعتقد أنني قد تمكنت من المزاوجة بين بريست ولوركا، هذا الأخير أثر في طفولتي، في فتوتي، وبريخت أثر في شبابي، وفي هذه المجموعة زاوجت بين الاثنين.
الترجمة في الحقيقة كانت مرادفة لهذه الكتابة، أنا لم أترجم الكثير، ترجمت ما أعجبت به، ولكن تجربتي الأغنى هي ترجمتي لمحمود درويش وكانت في الحقيقة بالصدفة، فأنا أعتقد أني أعرفه من ضمن قلائل، حتى وهو في إسرائيل، لأنني رأيته لأول مرة في صوفيا عام 1968، كان هناك مهرجان الشبيبة العالمي، وقد ذهب وفد من ألمانيا الشرقية، إلى هذا المهرجان، وبحكم أني صرت في تلك الفترة معروفا من لدن الأسماء الثقافية في ألمانيا، فأخذوني معهم لأن الوفد كان أكثره من الشيوعيين الموحدين، وأنا هناك لم أكن في يوم ما منظما في أي حزب، ولكن كنت قريبا من الماركسية طبعا، ولكن لم أكن منظما، أخذوني معهم وحين وصلنا بعد يومين، عقد اجتماع لنا وقال رئيس الوفد هناك محمود درويش وسميح القاسم موحدين في صوفيا تحت العلم الإسرائيلي، ويحظر على أعضاء الوفد أن يذهبوا إلى هذه الأمسية، فأنا طلبت الكلام وقلت لرئيس الوفد أنا أقول لك إني سأذهب إلى هذه الأمسية ولو طردت من ألمانيا اليوم، وكنت السوري الوحيد الذي ذهب آنذاك إلى الأمسية، وبعد سنة جاء محمود درويش إلى مدينة لايبزيغ، حيث دعي من طرف بعض الفلسطينيين المنتمين إلى حزب ركح، وكان هو عضوا بهذا الحزب الإسرائيلي، وللأسف الشديد مزق بعض زملائنا العرب ملصقات إعلانات الأمسية، وأنا استضفته في منزلي في 1969، وأنا أحترم ذاكرة محمود حينما قدمته في عام 1995 في بيت ثقافات العالم للجمهور الألماني، فقلت له هل تذكر عندما زرتني سنة 1968، فقال لا كانت سنة 1969.
كنا نلتقي بين الحين والحين حتى عام 2004، كان الأدب العربي ضيفا على معرض فرنكفورت للكتاب بألمانيا وطلبت مني دار النشر التي تنشر كتبي أن أعطيها مجموعة شعرية جديدة حتى ينشروها بهذه المناسبة، فقلت ليس لدي مجموعة مكتملة، ولا أحب السرعة في الكتابة، ثم تذكرت أن لي بعض القصائد التي قدمتها في برلين لمحمود درويش واقترحت أن أترجم مجموعة له، لأنه في ذلك الوقت كانت قد صدرت له قبل أيام «لا تعتذر عما فعلت»، فطلبتها وقرأتها وأعجبت بها أيما إعجاب، فقلت سأختار من مجموعة محمود مجموعة قصائد، والترجمة أسهل إلي من أن أكتب قصيدة، وإن كانت الترجمة بدورها تتطلب جهدا وعملا وتدعو إلى إيجاد معادلات للنص فقط، أما أن أكتب بسرعة فلا افعل هذا، وترجمت لمحمود 54 قصيدة من مجموعاته الأخيرة بداية من «لماذا تركب الحصان وحيدا» إلى «آخر مجموعة كانت صدرت قبل أشهر «لا تعتذر عما فعلت» وفي الحقيقة ترجمتي لهذه القصائد، وكأنها كتابة خاصة لأن الهم الفلسطيني عشت معه وأنا صغير، في سنة 1948 والدي أتى بلاجئين من طبرية، وهم من عائلة القرشولي، ليست هناك قرابة بيننا، ولكن يحملون نفس الاسم وباتوا عندنا قبل أن نجد لهم بيتا، وأذكر أن والدي حمل مدفئة غرفتنا وأنا حملت بواري الصوبيا معه، الهم الفلسطيني كان أحد همومي الأساسية، حتى باللغة الألمانية، كتبت هذا الموضوع قبل ذلك.
أعتز بهذه المجموعة التى ترجمتها، وأحيانا أخجل أن أقول، ولكن لا بد لي أن أقول ذلك، محمود مترجم منذ الستينيات والسبعينيات، وله كتب مترجمة إلى الألمانية، لكن أن تكتب جريدة «السايت» مقالها في صفحة كاملة عن هذه المجموعة وتعنونها «اكتشاف متأخر لشاعر عظيم» فهذا يدعو للاعتزاز، وقد لاقت الترجمة في الحقيقة صدى كبير جدا، وكان درويش، رحمه الله يرغب في أن أترجم له الجدارية، ولكنني لم أستطع أن أنفذ له هذه الرغبة، كنت أكتب أشيائي، ولكن ليس هذا فحسب، إنما لأنني أعرف أن هذه الجدارية كانت تحتاج مني جهدا كبيرا أكثر من سنة أو سنتين لأجد لها معادلات ألمانية صحيحة، لأن الترجمة ليست بالسهولة التي يعتقد البعض، هي عمل مواز للنص الأصلي لا يطابقه، ولكن يوازيه، ولم أكن أجد القوة عندي لترجمتها، وحينما سمعت برحيله، كنت قد قرأت «لعب النرد»، وهي قصيدة مطولة وتقرب من 400 بيت تقريبا، فقررت أن أترجمها تكريما له، وترجمتها بسرعة كبيرة وصدرت باللغتين العربية والألمانية، وفي مداخلتي بأصيلة، وكما لاحظت لم أتحدث عن نفسي، بقدر ما تحدثت عن محمود، مثلا في اليوم الذي ألقيت فيه الكلمة بإذاعة بفاريا الألمانية ساعة كاملة عن محمود قرأت خلالها مقطعين من سجل «أنا عربي» وقرأ أحد الممثلين الألمان لعب النرد» بكاملها وكانت تقطع مقاطع من قصيدة «لعب النرد» بالعربية، وأجريت معي مقابلة ضمن نفس الحلقة وسأقيم في 13 شتنبر القادم في مهرجان برلين العالمي للأدب أمسية شعرية أقدم خلالها بعض الترجمات، لكن سيقرأ بعض الشاعرات والشعراء العرب قصائد محمود درويش باللغة العربية، وربما سأقرأ مع شاعر ألماني أيضا قصائد محمود من ترجمتي باللغة الألمانية وقد يقرأ محمود عن طريق الفيديو قصيدتين من أشعاره، وأقرا أنا هاتين القصيدتين باللغة الألمانية.
- من خلال ترجمتك ومتابعتك للساحة الثقافية على الصعيد الأوربي وبلدان أخرى كيف تجد حضور محمود درويش؟
< أزور مهرجانات للشعر في العالم، وحيث ما ذهبت سواء في كندا أو فرنسا وأمريكا وهولندا، وكلاسكو أو ساراييفو، والآن كنت في نابولي، حيث ما كنت وأينما ذهبت أسال عن محمود دوريش، وهذا إنجاز نحن لن نقدره بعد، لم نقدره ربما لأن هناك شعراء آخرين أسال عنهم أيضا بقدر أقل، لكن إنجاز محمود هو حمل القضية الفلسطينية إلى هؤلاء جميعا، وحملها كقضية كونية، كما كتبت في مقدمة قصائده المترجمة «البياندوزر الإسرائيلي هدم منزل طفولة محمود، المنزل الذي ولد فيه وكتب ما كتب عن المحتل الإسرائيلي وعن القضية الفلسطينية وعن الشوق الفلسطيني وعن الجرح». وعندما أٌسأل عن محمود وهذا ما ركزت عليه في مقدمتي بالذات وأنا سعيد بالغ السعادة لا لشيء سوى ما أردت أن أوصله خلال هذه المقدمة. لحد الآن كتب عن المجموعة التي صدرت في مارس الماضي، في سويسرا وفي النمسا، وألمانيا، وقد أخذ هؤلاء ما أردت أن أقول أن المحتل محتل، وأن البيلدوزر الإسرائيلي هدم بيت محمود وأن هذا الأخير لم يصل إلى حلمه, وقلت إنه كان مع السلام ولكنه لم يكن يريد أن يجري هدنة بسيطة، كان يريد أن يحقق السلام العادل والكامل، السلام الإنساني السلام الذي يحفظ لنا جميعا كرامتنا، وأعتقد أن محمود استطاع أن يوصل هذا إلى العالم، وهذا هو الإنجاز الذي أسميته في مداخلتي الإنجاز المبين لمحمود درويش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.