بعد وصول السلطان سليمان العلوي إلى سدة الحكم، خلفا لوالده محمد بن عبد الله، ألغى الكثير من المعاهدات التي كانت تربط المغرب ببعض الدول الأوربية، ونهج سياسة الاحتراز التي تقوم على تقليص حجم الصادرات المغربية من حبوب وزيوت ومواشي وغير ذلك، وتوجيهها للأسواق الداخلية، وفرضِ رسوما جمركية مرتفعة على الواردات بغرض حماية المنتوجات المحلية من المنافسة الخارجية، من جهة، والاستفادة من عائدات الرسوم الجمركية من جهة أخرى. وقد وضعته هذه السياسة في مواجهة مباشرة مع القوى الاستعمارية التي كانت تسعى إلى خلق المزيد من الأسواق لبيع منتوجاتها، فوضعت بعضها قواتها على أهبة الاستعداد لمهاجمة المغرب كما هو الحال بالنسبة لفرنسا، وجندت جيشا من الجواسيس لجس نبضه، وفضلت بلدانا أخرى حل المشكل بطرق دبلوماسية كما هو الشأن بالنسبة لأمريكا التي دخلت في صدام مباشر مع الإيالة الشريفة أول الأمر، ثم عدلت عن ذلك مرغمة بعد سلسلة من المناوشات مع الأسطول المغربي. أمريكا تسعى إلى مهادنة المغرب بعد وفاة السلطان محمد بن عبد الله، عهد كاتب الدولة الأمريكي إدموند راندولف إلى الوزير المفوض في البرتغال «ديفيد هامرفي» بأن يقوم بكافة الإجراءات للحصول من السلطان سليمان العلوي على تجديد للاتفاقية الموقعة عام 1786 م، والتي عدت بمثابة اعتراف رسمي للمغرب بأمريكا، وقد تكللت مساعي هامرفي بالنجاح، إذ سيحصل على وعد من سلطان المغرب باستئناف كافة الاتفاقيات والمعاهدات التي تربط بين البلدين، حيث سيوجه هذا الأخير رسالة إلى الرئيس الأمريكي بتاريخ 18 غشت 1795م جاء فيها «نحن على السلم والمهادنة معكم على نحو ما كان بينكم وبين والدنا». وقد تليت الرسالة على أعضاء الكونغرس فاستبشر بها الأمريكيون خيرا وعدوها فتحا دبلوماسيا ستتمكن أمريكا بموجبه من مواصلة نشاطها التجاري في سواحل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وسيتم اعتماد «جيمس سيمبسون» لاحقا قنصلا بالمغرب لتلافي حالة «البطء الدبلوماسي» التي كادت تعصف بالعلاقات بين البلدين في عهد السلطان محمد بن عبد الله. المغرب يعلن الحرب على أمريكا في أيام الرئيس الثالث للولايات المتحدةالأمريكية «طوماس جيفرسون»، شبت الحرب بين الأمريكيين وبين طرابلس بسبب تملص أمريكا من الضرائب، حيث كانت دول شمال إفريقيا تفرض رسوما على كل السفن الأوربية التي ترسو بموانئها، وهو الأمر ذاته الذي خضع له الفيدراليون الأمريكيون، غير أنهم قاموا بإضافة قطع جديدة لأسطولهم البحري دون زيادة مقدار الضرائب، فتوترت العلاقات بسبب ذلك بينهم وبين حكام طرابلس، ثم تحول التوتر إلى حرب ستستمر لسنوات، وفي عام 1802 م ورد سفير طرابلس على المغرب يلتمس من السلطان سليمان أن يمد بلاده بالقمح، فاستجاب له العاهل المغربي مما أثار حنق الأمريكيين. كان المغرب قد أشار في المعاهدة الموقعة مع الأمريكيين إلى أن المغرب يعتبر كل المسلمين وإن كانوا غير مغاربة في صلح معه، وأنه ملتزم تجاههم بما يمليه عليه الدين، وهكذا سيرد المغرب على العدوان الأمريكي على طرابلس بإعلان الحرب على أمريكا. وسيعلن العاهل المغربي انحيازه التام لطرابلس عبر رسالة وجهها للقنصل الأمريكي بالمغرب، جاء فيها: «إن الذين وردوا علينا من إخواننا المسلمين مستنجدين بنا كان من الصعب علينا أن نرد طلباتهم، وحتى لو فرضنا أن الطرابلسيين أعداء لكم، فحيث إنهم وصلوا إلى دارنا فقد كان عليكم أن لا تمسوهم رعاية لجانبنا وعلى وجهنا وإن الرايس الذي وقف إلى جانبهم إنما فعل ما تمليه عليه عاطفته…». المغرب يحتجز سفنا حربية أمريكية صدرت الأوامر للسفينتين المغربيتين «ميمونة» و»مبروكة» بالتحرك لإيقاف السفن المتوجهة لحصار طرابلس، وتلقى إبراهيم لوباريس (أحد قادة السفن المغربية) تعليمات مباشرة من عامل طنجة أشعاش ليكون على أهبة الاستعداد تحسبا لأي طارئ. وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن السفينتين تمكنتا من إيقاف سفينة حربية أمريكية تحمل شعار بوسطن اسمها (سيلي)، وتسكت المصادر التاريخية عن تفاصيل هذه المعارك وعدد ضحاياها، خاصة أن الأمريكيين أنفسهم أغفلوا ذكر الكثير من تفاصيلها وصاروا يسمونها فيما بعد بالحرب المنسية، ولكن الرسائل المتبادلة بين المغرب وأمريكا في تلك الحقبة تكشف بعض الغموض الذي لف هذه المعارك، إذ تشير إلى أن المغرب احتجز سفنا ومعدات حربية تخص الأمريكيين، حيث سيطالبون بها لاحقا بعد انفراج الأزمة بين البلدين. وسيوجه سلطان المغرب رسالة بشأنها إلى عامله الجديد، محمد بن عبد الصادق، يأمره بإعادتها إلى أصحابها ومعها كل الأغراض المحجوزة عليها، وفي نفس السياق تشير الوثائق الأمريكية إلى أن المدمرة «فيلادلفيا» التي كان يقودها الربان بينبريدج وقعت في الأسر وعلى متنها ثلاثمائة وثمانية من البحارة، وأن القوات الأمريكية خشيت أن يستغلها رجال طرابلس ضدها فبعثوا إليها فرقة خاصة عملت على تدميرها. وقد شهدت هذه الفترة تنسيقا مباشرا بين المغاربة وطرابلس، وهو ما كان له أثر كبير ولا شك في إيقاف المدمرة المذكورة، والتي كانت تعتبر أقوى قطعة بحرية في الأسطول الأمريكي في ذلك الحين. وأمام هذه التطورات ستتحرك الدبلوماسية الأمريكية من جديد لاحتواء الأزمة، حيث سيتم اعتماد قنصل جديد بالمغرب هو جوهن مولوني بدل سيمبسون وستستأنف المراسلات بين البلدين، وقد خرج الرئيس الأمريكي طوماس جيفرسون بإعلان يؤكد فيه أنه قد تم التغلب على كل المصاعب التي كانت تقف في طريق تعزيز التعاون مع المغرب، وأن ما حدث من مناوشات صار من حوادث التاريخ، وستعمل أمريكا بعد ذلك على إرسال هدية للسلطان المغربي بواسطة قنصلها جوهن، لتضع بذلك حدا للتوتر الذي نشب بين الدولتين.