الملك يهنئ محمود عباس ويجدد دعم المغرب لحقوق الشعب الفلسطيني    "التقدم والاشتراكية" يعلن رفضه لمشروع قانون مالية 2026 ويصفه ب"المخيّب للآمال"    نواب "العدالة والتنمية" يطالبون بلجنة تقصّي حقائق في صفقات الدواء وسط اتهامات بتضارب المصالح بين الوزراء    نشرة انذارية تحذر من امطار قوية بالمناطق الشمالية    "ترانسافيا" تطلق أربع رحلات أسبوعياً بين رين وبريست ومراكش على مدار السنة    إطلاق الموسم الفلاحي الجديد مع برنامج بقيمة 12.8 مليار درهم وتوزيع 1.5 مليون قنطار من البذور المختارة    ترامب يلمح لقرار بشأن فنزويلا والجيش الأمريكي يبدأ عملية ضد تجار المخدرات في أمريكا اللاتينية    محام: المحجوزات تتراكم في المحاكم    الركراكي: علينا المحافظة على الثقة في هذه المجموعة ونحن نعرف كيفية تحقيق الفوز    خطاب "العُكار": حين يفضح "أحمر الشفاه" منطق السلطة..تحليل نقدي في دلالات وأبعاد تصريح وزير العدل حول الفساد    طقس ممطر في توقعات اليوم السبت بالمغرب    الجديدة تحتضن المؤتمر العام الإقليمي للاتحاد العام للمقاولات والمهن بحضور شخصيات وازنة    هل تستطيع الجزائر تفكيك سردية العداء لبناء وطنها المُتخيَّل؟ .    مباراة ودية بطنجة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الموزمبيقي بهدف لصفر    المغرب يهزم الموزمبيق ودياً بهدف أوناحي.. والركراكي: "لدينا اليوم أسلحة متعددة وأساليب مختلفة"    الشرطة تحجز آلاف الأقراص المخدرة    المسرحية المغربية "إكستازيا" تهيمن على جوائز الدورة 30 لمهرجان الأردن المسرحي    ترقية استثنائية لشرطي بآسفي بعد تعرضه لاعتداء خلال تأمين محيط مؤسسة تعليمية    المنتخب المغربي يهزم موزمبيق وديا.. أوناحي يسجل أول هدف في ملعب طنجة بعد تجديده    منظمة الصحة العالمية تعترف بالمغرب بلدًا متحكمًا في التهاب الكبد الفيروسي "ب"    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون المالية لسنة 2026    الجزائر.. إجلاء عشرات العائلات جراء حرائق غابات كبيرة غرب العاصمة    تداولات بورصة الدار البيضاء سلبية    المغرب يُنتخب لولاية ثانية داخل اللجنة التنفيذية لهيئة الدستور الغذائي (الكودكس) ممثلاً لإفريقيا    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    الطرق السيارة بالمغرب.. افتتاح فرع مفترق سيدي معروف بمعايير هندسية وتقنية دقيقة    أبوظبي.. ثلاثة أعمال أدبية مغربية ضمن القوائم القصيرة لجائزة "سرد الذهب 2025"    ملعب طنجة.. الصحافة الدولية تسميه "ابن بطوطة" ومطالب محلية بتثبيت الاسم رسميًا    إطلاق المرحلة الثالثة من تذاكر "الكان"    أمطار رعدية ورياح قوية بعدة مناطق    مبديع: "أنا ماشي شفار ومنطيحش ريوكي على فلوس الجماعة"    وزارة الصحة تطلق حملة وطنية للكشف والتحسيس بداء السكري    جنوب إفريقيا تحتجز 150 فلسطينيا    بوانوو: بلاغ وزارة الصحة لم يحمل أي معطى حول شبهة تضارب المصالح ولم يشرح التراخيص المؤقتة للأدوية التي يلفها الغموض التام    شَرِيدٌ وَأَعْدُو بِخُفِّ الْغَزَالَةِ فِي شَلَلِي    متابعة "ديجي فان" في حالة سراح    إحباط محاولة لاغتيال أحد كبار المسؤولين الروس    بطولة اسكتلندا.. شكوك حول مستقبل المدرب أونيل مع سلتيك    دراسة: ضعف الذكاء يحد من القدرة على تمييز الكلام وسط الضوضاء    الملك يهنئ خالد العناني بعد انتخابه مديرا عاما لليونسكو    موقع عبري: الجالية اليهودية في المغرب تفكر في استخراج جثمان أسيدون ونقله إلى مكان آخر بسبب دعمه ل"حماس"    شركة الإذاعة والتلفزة تسلط الضوء على تجربة القناة الرابعة في دعم المواهب الموسيقية    تصفيات مونديال 2026.. مدرب إيرلندا بعد طرد رونالدو "لا علاقة لي بالبطاقة الحمراء"    رشق الرئيس السابق لاتحاد الكرة الإسباني بالبيض في حفل إطلاق كتابه    بوعلام صنصال بعد الإفراج: "أنا قوي"    استطلاع: 15% من الأسر المغربية تفضل تعليم الأولاد على الفتيات.. و30% من الأزواج يمنعون النساء من العمل    مجلس النواب يصادق على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2026    مدير المخابرات الفرنسية: المغرب شريك لا غنى عنه في مواجهة الإرهاب    المركز الثقافي الصيني بالرباط يُنظّم حفل "TEA FOR HARMONY – Yaji Cultural Salon"...    تحطم مقاتلة يصرع طيارين في روسيا    المسلم والإسلامي..    ثَلَاثَةُ أَطْيَافٍ مِنْ آسِفِي: إِدْمُون، سَلُومُون، أَسِيدُون    دراسة: لا صلة بين تناول الباراسيتامول خلال الحمل وإصابة الطفل بالتوحد    مرض السل تسبب بوفاة أزيد من مليون شخص العام الماضي وفقا لمنظمة الصحة العالمية    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عصمة الأنبياء .. وترهات بوهندي

نشرت مجلة هيسبريس الإليكترونية تصريحين للدكتور مصطفى بوهندي، أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني، وصاحب كتاب " أكثر أبو هريرة"، حول موضوع عصمة الأنبياء، الأول بتاريخ 6/6/2013، والثاني بعد يوم من ذلك التاريخ، وقد جاء التصريحان – مع الأسف – مليئين بالأخطاء والمغالطات والتطاول على مقام النبوة والأنبياء بغير علم. وهذا نص التصريحين، قبل أن نعلق عليهما بما يسر الله من ملاحظات.
يقول الدكتور بوهندي في تصريحه الأول : " موضوع العصمة هذا، فلا بد أن نربطه بالسياق الذي طرحت فيه علي الأسئلة السابقة، برنامج دوزيم، كانت الغاية هي بيان أنه يمكن الاستفادة من أخطاء الأنبياء، كما يستفاد من الجوانب الإيجابية عندهم، فقصص الأنبياء الله سبحانه وتعالى يقول: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً – قرأها بوهندي بالضم - لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فالاعتبار من هذا القصص هو النظر في كل شيء من أجل أخذ ما نرحم به ونهتدي به، ونفصل به جميع الأشياء، ونصدق كذلك ما جاء به الرسل والكتب السابقة، الناس عموما بسبب القول بالعصمة، التي تعني أن الأنبياء لا يخطئون وعصمة الأنبياء، ركزوا على الجوانب الإيجابية للأنبياء، ولم يتحدثوا أبدا عن الجوانب السلبية، والتي كانت فيها دروس مهمة وكثيرة جدا، هم يقدمون لنا باعتبارهم بشرا، يتعثرون بكل ما يتعثر به البشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتكونون بجميع ما يتكون به البشر، ولذلك فقصصهم ليست مقتطفات من حياة أشخاص، بل هي قصص حياة كاملة، تكوين من الأول إلى النهاية، فقصة موسى عليه السلام هي قصة الرجل السياسي الذي سيحرر شعبه، من أول لحظة إلى آخر لحظة، وقصة يوسف عليه الصلاة والسلام هي قصة تكوين الرجل الاقتصادي، لا بد أن يتكون من أول لحظة إلى آخر لحظة، موسى الذي يدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، يرى أحد المتخاصمين من شيعته، والآخر من عدوه، يقتتلان، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فوكزه موسى فقضى عليه، هذا واقع، وهذا واقع ثقافي فاسد، فالتربية، هذا العمل الذي قام به موسى، حين وكز هذا الرجل، كان عملا سلبيا، ولكن القرآن قدم لنا به درسا، ماهو الدرس: ( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين)، هنا سيتغفر ربه، وسيطلب أنه بما أنعم الله عليه فلن يكون ظهيرا للمجرمين، ولكن التربية الفاسدة والدخول في هذا النفق، نفق القتل، من قتل أول مرة يدخل في نفق خطير جدا، ولذلك بمجرد أن رأى رجلا ثانيا في الغد، في اليوم الثاني، فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، هنا سيتكلم العدو، سيقول له أمرا لم يخطر على باله، ( ياه)، كيف، أنت موسى رجل صالح ونراك من المحسنين، ماذا تريد أن تفعل، هذا ليس من شيم الصالحين، هذا طريق الفراعنة، ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)، إذن هنا يقدم القرآن قراءة جديدة، هذه القراءة الجديدة ماذا تقول، إن الأمر ليس هذا عدو وهذا من شيعة، القضية أنك قتلت نفسا وستقتل نفسا أخرى).
وأما التصريح الثاني، فقد ذكر فيه بوهندي أن " القول بالعصمة هو انتقاص من كمال الأنبياء، وأن النبي محمد – عليه الصلاة والسلام – كامل وليس معصوما، وأن الله اختاره وسائر الأنبياء للرسالة لعلمه بكمالهم، وليس لأنه يعصمهم ويتحكم فيهم، كما يتحكم البشر في الروبوهات، لأن للرسول عقلا وقلبا وفؤادا، وبالتالي فالقول بالعصمة بهذا المفهوم هو انتقاص من كمال الرسل".
وقد وقع الدكتور بوهندي فيما ذهب إليه في أخطاء بالجملة، وخالف معتقد أهل السنة في الأنبياء، في أمور عدة، نوردها على النحو الآتي:
الخطأ الأول: ينكر بوهندي أي خصوصية للأنبياء، وأي اختلاف بينهم وبين سائر الناس، فهم – في زعمه – بشر كسائر البشر، لا يتميزون عنهم بميزة، ولا يفضلونهم بفضيلة، ولا ينفردون عنهم بشيء، ولذلك، فهم – بتعبيره - " يتعثرون بكل ما يتعثر به البشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتكونون بجميع ما يتكون به البشر"، هكذا بهذا التعميم والتعتيم، ودون تفصيل أو تمييز لما يجوز في حقهم من الخطأ، وما لا يجوز، كل ذلك من أجل الطعن في عصمتهم ببعض الأخطاء الاجتهادية التي يسميها العلماء ب " خلاف الأولى"، وبعض المخالفات الصغيرة غير المقصودة، التي لا تتنافى مع العصمة ولا تقدح فيها، والتي ضخمها بوهندي تضخيما، حتى حولها إلى جرائم وكبائر، كما ورد في تقييمه لقتل موسى للقبطي. وانظر كيف جعل من عبارة " يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق" بيانا لعبارة " يتعثرون بكل ما يتعثر به البشر"، مع ما بينهما من بون دلالي شاسع، إذ تدل الأولى على بشرية الرسل، وأنهم يجري عليهم من الأعراض والصفات الخلقية – بكسر الخاء – ما يجري على سائر البشر، كالأكل والشرب والمرض غير المنفر والزواج وغيرها، في حين تنفي الثانية، كما هو ظاهر كلام المصرح، أي تميز خلقي – بضم الخاء – للأنبياء عن سائر البشر، وهذا زعم باطل لم يقل به قبل بوهندي أحد، وإنما المتفق عليه عند الأمة علماء وعامة في موضوع عصمة الأنبياء: أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يتعلق بتبليغ الوحي، فلا يتصور منهم كذب، أو غفلة، أو نسيان، وقد تواترت الدلائل الشرعية على إثبات ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم، وحق سائر الأنبياء، ومن تلك الدلائل ما وعد الله به نبيه من عصمته من النسيان قال تعالى:(سنقرئك فلا تنسى) (الأعلى:6)، ومنها تزكية الله له من جهة البلاغ عنه، قال تعالى: ( وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى) (النجم:3- 4).
هذا فيما يتعلق بحال الأنبياء في تبليغ الوحي، أما ما سوى ذلك من أحوالهم، فمذهب السلف من أهل السنة والجماعة: أن الرسل بشر، يعتريهم ما يعتري سائر البشر من العوارض والأمراض، إلا أن الله يعصمهم من كبائر الذنوب، والصغائر التي تدل على خساسة الطبع، صيانة لعلو مكانتهم، وحرصا على أن يكونوا في منزلة الإمامة والقدوة لسائر الناس.
وأما صغائر الذنوب التي لا تدل على خساسة قدر، وضعة منزلة، والتي تكون في بعض الأمور الاجتهادية التي لا نص شرعي فيها، فمذهب السلف جواز وقوعها من الأنبياء، إلا أن الله لا يقرهم عليها، بل سرعان ما ينزل الوحي مصححا وهاديا، وقد ذكر الله لنا بعضا مما وقع من أنبيائه، مما عاتبهم عليه وأرشدهم فيه: من ذلك قوله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: ( عبس وتولى (1) أَن جاءه الأعمى) (عبس:1-2)، وسبب نزولها أن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى أتى النبي يستهديه، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لانشغاله بدعوة سادات قريش، فنزل عتاب الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك عتاب الله لنبيه في قبول الفدية عن أسرى المشركين في بدر، قال تعالى: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) (الأنفال:67).
وفي صحيح السنة نماذج أخرى من أخطاء الأنبياء الاجتهادية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة ) رواه البخاري ومسلم.
فهذا بعض ما ورد في الكتاب والسنة، مما يثبت جواز وقوع الخطأ اليسير والاجتهادي في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مع التأكيد أن ذلك غير قادح في عصمتهم ومنزلتهم ووجوب الاقتداء بهم، كما قال تعالى:( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ) (الأنعام:90) ، ذلك أن الله لا يقرهم على خطأ، بل ينزل الوحي هاديا ومرشدا.
وأما الحكمة من جواز وقوع الخطأ اليسير منهم فذلك من رحمة الله بهم، حيث لم يحرمهم من أعظم العبادات وأحبها إليه سبحانه وهي التوبة والإنابة، وقد وصف الله خليله إبراهيم – عليه السلام – بأنه: ( حليم أواه منيب) ( هود: 75)، وقال صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) رواه البخاري.
الخطأ الثاني: يفهم من كلام الدكتور بوهندي جواز وقوع الأنبياء في الكبائر، بدليل ما ورد في تصريحه من قتل موسى عليه السلام للقبطي، وما صدر منه في حق موسى عليه السلام من الكلام الذي لا يليق بمسلم عادي أن يقوله، فضلا عن أن يكون أستاذا باحثا في مقارنة الأديان، من قبيل قوله: " ولكن التربية الفاسدة والدخول في هذا النفق، نفق القتل، من قتل أول مرة يدخل في نفق خطير جدا، ولذلك بمجرد أن رأى رجلا ثانيا في الغد، في اليوم الثاني، فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، هنا سيتكلم العدو، سيقول له أمرا لم يخطر على باله، ( ياه)، كيف، أنت موسى رجل صالح ونراك من المحسنين، ماذا تريد أن تفعل، هذا ليس من شيم الصالحين، هذا طريق الفراعنة". والذي يظهر أن بوهندي لا يفرق في سير الأنبياء، بين مرحلة ما قبل البعثة وما بعدها، ولا يدري أن قتل موسى للقبطي كان قبل بعثته ونزول التوراة عليه، وأنه كان قتلا خطأ لم يقصده موسى عليه السلام، ولا خطط له، ولا فكر فيه مطلقا، وإنما حصل منه في لحظة تسرع وغضب، كان يريد فيها فض الشجار بين الرجلين، وصرف القبطي عن العبراني، فوكز القبطي وكزة أدت إلى موته، ولم يقصد ذلك أبدا، ولذلك ندم في الحال، واعترف أن ذلك ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (15)، واستغفر الله ووعده عدم نصرة الظالمين: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)، وذلك ما ذهب إليه كبار المفسرين في فهم الآيات:
قال الإمام الشوكاني في " فتح القدير": " لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه فأتى ذلك على نفسه، ولهذا قال ( هذا من عمل الشيطان)، وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل، لأنه لم يكن إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار. ( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)، فغفر الله له ذلك، (إنه هو الغفور الرحيم)، ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وقيل: إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو سنة المرسلين، أو أراد إني ظلمت نفسي بقتل هذا الكافر، لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به، ومعنى ( فاغفر لي): فاستر ذلك علي لا تطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى- عليه السلام - ما زال نادما على ذلك خائفا من العقوبة بسببه، حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها ، كما ثبت ذلك في حديث الشفاعة الصحيح. وقد قيل : إن هذا كان قبل النبوة، وقيل: كان ذلك قبل بلوغه سن التكليف وإنه كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء، ولا شك أنهم معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل".
وقال العلامة بن عاشور في " التحرير والتنوير": " كان هذا قتلا خطأ صادف الوكز مقاتل القبطي، ولم يرد موسى قتله"... وجملة ( قال هذا من عمل الشيطان) مستأنفة استئنافا بيانيا، كأن سائلا سأل: ماذا كان من أمر موسى حين فوجئ بموت القبطي؟. وحكاية ذلك للتنبيه على أن موسى لم يخطر بباله حينئذ إلا النظر في العاقبة الدينية، وقوله هو: كلامه في نفسه. والإشارة ب ( هذا) إلى الضربة الشديدة التي تسبب عليها الموت، أو إلى الموت المشاهد من ضربته، أو إلى الغضب الذي تسبب عليه موت القبطي. والمعنى: أن الشيطان أوقد غضبه حتى بالغ في شدة الوكز. وإنما قال موسى ذلك، لأن قتل النفس مستقبح في الشرائع البشرية، فإن حفظ النفس المعصومة من أصول الأديان كلها. وكان موسى يعلم دين آبائه لعلمه بما تلقاه من أمه المرأة الصالحة في مدة رضاعه وفي مدة زيارته إياها".
الخطأ الثالث: ويكمن في تفريق بوهندي بين كمال الرسل وعصمتهم، وادعائه أن القول بالعصمة هو انتفاص من كمال الرسل، لأنهم يصبحون حينها – بتعبيره - أشبه ب ( ربوتات) يتحكم فيها الله عز وجل، دون وعي ولا إرادة منها، ودون أن يكون لها دخل في الموضوع. ومثل هذا الفهم أقل ما يقال عنه، أنه كلام سخيف مضحك، يدل على جهل مطبق فاضح، وعلى جرأة زائدة جاهلة، فإن كمال الرسل ليس كمالا ذاتيا ناتجا عن إرادة وكسب منهم كما يفهم من كلام بوهندي، وإنما هو محض هداية وتربية وعناية ربانية، يحيط بها الله رسله، ويكلأهم ويرعاهم بها، بدء باصطفائهم من أزكى الأصلاب وأطهر الأرحام، ومرورا بما يهيئه لهم من البيئة الصالحة والتربية الحسنة، لصناعتهم على عين الله، وإنباتهم نباتا حسنا، وانتهاء بما يكلفون به من أنواع الرياضة الروحية وتزكية النفس، للارتقاء بهم في مدارج الكمال الخلقي والروحي. ثم إن مدد الله لرسله لا ينتهي باصطفائهم للرسالة، وبإنزال الوحي عليهم، وإنما يستمر هدايات تترى، ورحمات تتنزل، وإرشادا لا يتخلف، وتسديدا لا ينقطع، وحفظا دائما مستمرا من أذى الخلق ووساوس الشيطان، فإذا لم يكن كل هذا عصمة فما هي العصمة إذن؟. وهذا الذي ذهبنا إليه، هو منطوق عشرات النصوص الشرعية الصريحة، والتي نذكر منها:
- قوله سبحانه في حق نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) ) ( الضحى: 6- 8).
- قوله تعالى في سورة طه في حق نبيه موسى عليه السلام: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38) أنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي( 39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى( 40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)).
فمثل هذه النصوص وغيرها كثير، تدل دلالة صريحة قطعية، على أن الله تعالى، يصنع الرسل على عينه، ويكلأهم برعايته، ويبلغهم من منازل الكمال والرفعة ما شاء عز وجل، فإذا لم تكن هذه هي العصمة، فما معنى العصمة إذن؟.
ولا بد من الإشارة إلى أن الأخطاء الثلاثة التي ذكرناها، إنما تمثل الزلات الكبرى والأساسية للدكتور بوهندي في تصريحيه، وإلا فللرجل أخطاء أخرى بالجملة لا يتسع المقام لذكرها.
وفي الختام فإن المرء ليحار، فإن وهو ينظر إلى جرأة البعض واقتحامهم، لكثير من المباحث والمواضيع، التي فيها من النصوص الصريحة القطعية العشرات، بمجرد الخرص والتخمين، مع قلة زاد ونقص بضاعة، ويتساءل عن المقاصد والدوافع، وعمن يشجع ويدعم، نسأل الله أن يثبتنا على الحق، حتى نلقاه وهو راض عنا، لا مبدلين ولا مغيرين، ولا فاتنين ولا مفتونين، آمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.