بوريطة يستقبل وزير الشؤون الخارجية القمري حاملا رسالة من الرئيس أزالي أسوماني إلى الملك محمد السادس    دعاية هزيلة.. بعد انكشاف مقتل ضباط جزائريين في طهران.. نظام العسكر يُروج وثيقة مزورة تزعم مقتل مغاربة في إسرائيل    الملك محمد السادس يهنئ دوقي لوكسمبورغ الكبرى بمناسبة العيد الوطني لبلادهما    توقيع اتفاقية شراكة إطار بين وزارة الشباب والثقافة والتواصل والوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات لتعزيز الإدماج السوسيو اقتصادي للشباب    قطر تُدين بشدة الهجوم الذي استهدف قاعدة العديد الجوية من قبل الحرس الثوري الإيراني    قطر تعلن عن إيقاف حركة الملاحة الجوية مؤقتا بسبب تطورات الأوضاع بالمنطقة    الرئيس السوري: لن يفلت مرتكبو تفجير كنيسة مار إلياس من العقاب    حموشي: المديرية العامة للأمن الوطني تولي أهمية خاصة لدعم مساعي مجابهة الجرائم الماسة بالثروة الغابوية    شرطي يستعمل سلاحه الوظيفي بالقنيطرة لتوقيف شقيقين عرضا سلامة عناصر الشرطة والمواطنين لتهديد جدي    انطلاق أولى جلسات محاكمة المتهم في "حادثة الطفلة غيثة".. وهذه هي التهم الموجهة إليه    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    بوتين: لا مبررات قانونية أو أعذار للعدوان ضد إيران    ياسين بونو يتوج بجائزة رجل المباراة أمام سالزبورج    عبد النباوي: قيادة القاضيات أولوية        بنعلي: لن نتوفر على دينامية في البحث العلمي في الطاقات المتجددة بدون تمويل مستدام    كأس العالم للأندية.. "الفيفا" يحتفل بمشجعة مغربية باعتبارها المتفرج رقم مليون    19 جريحا في حادثة انقلاب سيارة لنقل العمال الزراعيين باشتوكة    إشكالية التراث عند محمد عابد الجابري بين الثقافي والابستيمي    بسمة بوسيل تُطلق ألبوم "الحلم": بداية جديدة بعد 12 سنة من الغياب    صديق المغرب رئيس سيراليون على رأس المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا ( CEDEAO)    خيي كاتبا جهويا ل "مصباح الشمال" ومريمة وبلقات يحجزان معقدا عن تطوان    الشعباني: "نهائي كأس العرش ضد أولمبيك آسفي سيكون ممتعا.. وهدفنا التتويج باللقب"    مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج تنظم المعرض الفوتوغرافي "أتيت من نظرة تَعْبُرُ" للفنان المصور مصطفى البصري    نقابيو "سامير" يعودون للاحتجاج على الموقف السلبي للحكومة وضياع الحقوق    ترقب إغلاق مضيق هرمز يثير مخاوف ارتفاع أسعار المحروقات في المغرب    "تالويكاند" في دورته الرابعة.. تظاهرة فنيّة تحتفي بتراث أكادير وذاكرتها    رأي اللّغة الصّامتة – إدوارد هارت    وسط ارتباك تنظيمي.. نانسي عجرم تتجاهل العلم الوطني في سهرة موازين    هذه تدابير مفيدة لتبريد المنزل بفعالية في الصيف    العدالة والتنمية يدين الهجوم الأمريكي على إيران    بنك المغرب.. الأصول الاحتياطية ترتفع إلى 400,8 مليار درهم    موازين 2025.. الفنانة اللبنانية نانسي عجرم تمتع جمهورها بسهرة متميزة على منصة النهضة    إسبانيا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى "التحلي بالشجاعة" لمعاقبة إسرائيل    المغرب ‬يعيد ‬رسم ‬خريطة ‬الأمن ‬الغذائي ‬في ‬أوروبا ‬بمنتجاته ‬الفلاحية ‬    الناخب الوطني النسوي يعقد ندوة صحفية بعد غد الثلاثاء بسلا        أمطار رعدية مرتقبة بالريف وحرارة قد تصل إلى 38 درجة    ألونسو: من الأفضل أن تستقبل هدفًا على أن تخوض المباراة بلاعب أقل    معنى ‬أن ‬تصبح ‬العيون ‬نقطة ‬وصل ‬بين ‬شمال ‬أفريقيا ‬وعمقها ‬الجنوبي    الكركرات.. توقيف شاحنة محملة بالكوكايين القادم من الجنوب    موازين 2025 .. الجمهور يستمتع بموسيقى السول في حفل المغني مايكل كيوانواكا    كيوسك الإثنين | تسجيل 111 حريقا غابويا أتى على 130 هكتارا من يناير إلى يونيو    كأس العالم للأندية 2025.. ريال مدريد يتغلب على باتشوكا المكسيكي (3-1)    طنجة.. تتويج فريق District Terrien B بلقب الدوري الدولي "طنجة الكبرى للميني باسكيط"    منحرفون يفرضون إتاوات على بائعي السمك برحبة الجديدة وسط استياء المهنيين    الأستاذ عبد الرحيم الساوي يغادر المسؤولية من الباب الكبير.. نموذج في الاستقامة والانتصار لروح القانون    إيران تبدأ هجوماً صاروخياً جديداً على إسرائيل    إيران تتحدى الضربات الأمريكية: مخزون اليورانيوم والإرادة السياسية ما زالا في مأمن    موجة الحر في المغرب تثير تحذيرات طبية من التعرض لمضاعفات خطيرة    دراسة تكشف وجود علاقة بين التعرض للضوء الاصطناعي ليلا والاكتئاب    وفاة سائحة أجنبية تعيد جدل الكلاب الضالة والسعار إلى الواجهة    ضمنها الرياضة.. هذه أسرار الحصول على نوم جيد ليلا    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوريد: خيبات ما بعد الربيع العربي دفعتني لكتابة"سيرة حمار"
نشر في اليوم 24 يوم 23 - 03 - 2018

يعود حسن أوريد، الأديب والمثقف المغربي، ورجل السلطة السابق، في هذا الحوار، إلى وضع أعماله الأدبية في سياقاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية.
حاورته: سناء القويطي
– بعد روايتي "الموريسكي" و"زفرة الموريسكي" أخذت القارئ مرة أخرى إلى الأندلس في روايتك الأخيرة "ربيع قرطبة" لماذا الأندلس فضاؤكم المفضل للكتابة؟
كنت قد زرت غرناطة في دجنبر 1997، وكان لتلك الزيارة تأثير كبير في نفسي، وصالحتني مع الحضارة الإسلامية، وهو ما أشرت إليه في كتابي "رَواء مكة" وهو عبارة عن سيرة ذاتية ذات طبيعة روحية.
عشر سنوات بعد ذلك أي عام 2007 وكنت إذاك واليا على جهة مكناس، أخذت عطلة بعد عمل مرهق جراء تنظيم ملتقى فلاحي بالمدينة وكنت تعبا جسميا ونفسانيا، ورحت إلى الأندلس وتقلبت ما بين إشبيلية وقرطبة، وحاولت أن أستقرئ المكان، كما قد يفعل الشاعر ما قبل الإسلام (وليس الجاهلي).
اختزنت ذاكرتي كل ما شاهدته، إلى أن اخترت مسارا في حياتي حينما عزفت عن أي مسؤولية في الإدارة أو السياسة، فأكببت على البر بما كنت قطعته على نفسي إحقاقا لحق أناس مسلمين ويهود ومسيحيين لم يكن يوثق في مسيحيتهم، واجتُثوا من أرضهم.
كتبت "الموريسكي" باللغة الفرنسية، وكنت أود أن تترجم إلى الإسبانية لأَنِّي أردتها حديثا إلى الإسباني، لكن ذلك لم يحدث، رغم أني وقّعت عقدا مع ناشر إسباني للترجمة والنشر، ولم يقم بذلك لصعوبات مالية فيما يخص الترجمة. إلا أن هذا العمل الروائي لقي قبولا حسنا عندما تُرجم إلى اللغة العربية، وأنا سعيد بذلك.
الأمكنة تختزن أسرارا ويمكن أن تحدث من له قلب. عندما يجول المرء في جنبات قصر الحمراء لا يرى فقط البناء والزخرفة وإنما يرى روحا ثاوية في ذلك الصرح، وهو ما أشرت إليه في ثنايا كتابي "رواء مكة".
فخلال لقائي بشخصية إسبانية، ونحن بالمكان المعروف بالقصر بإشبيلية، وعند مرورنا بنافورة ينبجس منها الماء سألني ما هذه؟ فقلت: نافورة. رد: لا هذه موسيقى. أجمل موسيقى على الإطلاق. المتصوفة المسلمون يقولون ذات الشيء عن نافورة الماء التي هي حديث للروح.
للأندلس سحر خاص وهي تسكن وجدان المغاربة بمختلف مشاربهم، ولا ينبغي أن نختزلها في بعض المظاهر مثل الموسيقى والطبخ والمعمار. هي روح، وهي زاوجت بين العقلانية والروحانية، بين الجمال والفعالية، وقدمت رسالة سامية للبشرية، إذ أن أهم ما في حضارة البحر الأبيض المتوسط من تراث فكري، على اعتبار أن النتاج الفكري للحضارة المصرية القديمة ضاع أغلبه، هو الحضارة اليونانية والحضارة الأندلسية.
– روايتك "ربيع قرطبة" تتناول مرحلة مهمة من تاريخ الأندلس وشخصية أساسية هي الخليفة المستنصر بالله، لكن عدد صفحاتها لا يتجاوز 160، لماذا هذا الإيجاز؟
العبرة ليست بالكم، هناك أعمال أدبية متميزة من دون أن تكون مستفيضة. وروايتي "سيرة حمار" عدد صفحاتها أقل من رواية "ربيع قرطبة" ومع ذلك لقيت نجاحا كبيرا.
لم يكن يهمني إجراء دراسة تاريخية، بقدر ما كان يهمني أن أجعل شخصية سياسية تتكلم، وأن أتقمص شخصية الخليفة لأبرز هواجسه ورؤيته حول السلطة.
بالتأكيد، حاولت إحياء أو بعث الأندلس والتعريف بها وبروحها، وسعيت بذات الوقت للتعريف بجوانب من تاريخنا، فقلما يعرف المغاربة مثلا أن المغرب كان شيعيا لأزيد من قرن.
– معظم رواياتك مستلهمة من التراث والتاريخ، كيف تفسر حضور التاريخ في رواياتك؟
اشتغلت على التاريخ لما تقلدت منصب مؤرِّخ المملكة، وأشتغل حاليا مستشارا علميا لمجلة زمان التي تُعنى بالتاريخ، فالتاريخ جزء من اهتماماتي. والأمم لا ترجع إلى التاريخ إلا عندما تقض مضاجعها قضايا آنية. التاريخ ليس للتسلية والإخبار فقط، إنما هو سعي لاستنطاق مرحلة تاريخية من أجل فهم للحاضر.
الرواية ليست تاريخا، بل هي توظيف للتاريخ ومساءلة للواقع. أتناول في "ربيع قرطبة" الصراع بين عالمين: السُّني وتمثله الدولة الأموية، والشيعي وتمثله دولة الفاطميين، وهذا الصراع يحيلنا إلى ما نعيشه اليوم، أو على الأصح: صراع اليوم ما أحالني على التاريخ.
انحلال دولة الخلافة آنذاك يذكرنا بانحلال العالم العربي أو ضعف جامعة الدول العربية. استقواء البويهيين وبعدهم السلاجقة، يذكرنا بما يجري الآن من دور لكل من إيران وتركيا، في رسم معالم المنطقة. الإحالة إلى القرامطة وما يمثلونه من فهم جذري للإسلام يذكر بداعش (تنظيم الدولة). فهذا التاريخ لم يمض، ونحن نحتاج أن نعرفه ونسائله من أجل فهم أعمق لواقعنا.
وفي جميع الأحوال، لا ينبغي أن يستند تقييم العمل الروائي فيما إذا كان قد اعتمد على التاريخ أو لا، بل نحكم عليه جماليا، وهذا أمر يرجع للقراء والنقاد.
– هذا التوجه، يتقاسمه معك عدد من الروائيين المغاربة والعرب الذين توجهوا نحو التاريخ لقراءة الواقع الراهن، هل لهذا الرهان الإبداعي دواعٍ؟
هنا أنتقل من الروائي إلى أستاذ العلوم السياسية لأشير إلى نص شهير لكارل ماركس اسمه 18 برومير وهو دراسة حول الانقلاب الفرنسي عام 1851، إذ استحوذ لويس نابليون بونابرت (الثالث) من خلاله على السلطة، يقول فيه إن الشعوب مسكونة بالذاكرة وإنها عندما تعود إلى التاريخ، فلأن هناك قضايا حاضرة وآنية تؤرقها.
وقد يكون من أعراض هذه القضايا ما تعيشه من غبش، وعدم وضوح رؤية، وتمزق، آنذاك تنثني على التاريخ، أو يسائله مثقفوها أو نخبتها الفكرية. والشعوب إن لم تفعل، عاشت تاريخها مرة ثانية في شكل ملهاة، أو بطريقة عبثية. نحن هنا كما في عملية استشفاء نفسي، أو ما يسمى في علم النفس بالتطهير الروحي catharsis، هكذا أنظر إلى الرواية التاريخية.
في فترة ما، كانت هناك الرواية الاجتماعية مع نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، وقد اضطلعت بدور أساسي بدون شك. أعتقد أن الأسئلة الوجودية التي نعيشها في المغرب وفي العالم العربي هي ما يفسر هذه الانعطافة نحو التاريخ.
– يقولون إن الإبداع الأدبي نتيجة تفاعل الكاتب مع السياق الخارجي وتجربته الشخصية، إلى أي حد ينطبق هذا الكلام على أعمالك الإبداعية؟
لا يمكن أن أنكر ذلك. حينما أنظر إلى حياتي مثلا وأسعى إلى أن أستشف ما أنا عليه الآن، أرى أن الظروف التي عشتها والسياق الذي اضطربت فيه هو ما أملى علي ما كتبته. لم يكن يدور بذهني يوما أنني سأكتب رواية عن الخليفة الحكم بن عبد الرحمن، ولم يدر بذهني قبلها أنني سأكتب رواية سيرة حمار.
فالانحسار الذي عرفه الربيع العربي وما تلاه من خيبات هو ما دفعني لأن أكتب سيرة حمار، والوضع الذي يعيشه العالم العربي حاليا وخاصة الصراع بين السنة والشيعة هو الذي دفعني لأكتب ربيع قرطبة.
فالكتاب الذي ينهل منه أي كاتب هو تجربته الشخصية، أو هي الدواة التي يكتبها منها. هناك جملة شهيرة للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبيز قال فيها "مدام بوفاري هي أنا" متحدثا عن روايته الشهيرة مدام بوفاري لأنه يعتبر هذا العمل تعبيرا عن شخصيته أكثر مما هو تعبير عن شخصية البطلة. وقد قلت مرة إن "سيرة حمار" أي الرواية هي أنا، تحمل أفكاري ورؤاي.
– في رواياتك، وخاصة ربيع قرطبة والموريسكي، تميط اللثام عما يدور في القصور وما يحاك من دسائس بين الحاشية، وتصف هواجس السلاطين ونظرتهم للسلطة، ألست تستلهم في رواياتك تجربتك الذاتية وتنقلها على لسان أبطالها؟
تجربتي حاضرة فيما أكتبه. أعترف أنه لا مطابقة مطلقة بين ناصر الدين أفوقاي، وهو شخصية تاريخية صاحب آخر نص كتب بالعربية بالأندلس، وروايتي الموريسكي. ما كتبته في رواية الموريسكي عمّا يدور في قصور السعديين من صراعات ووشايات استوحيته من تجربتي.
وفي روايتي ربيع قرطبة، وصفت الطقوس وبنية السلطة وهواجس السلطان وتطلعات الحاشية، هذه أشياء مستوحاة من تجربتي، وإن سعيت أن أضبط الطقوس في بلاط قرطبة، مما ورد في كتب التاريخ، مما قد يجعل عملي مملا، ولكنه مفيد للمؤرخ، ولأن كثيرا من تلك الطقوس استمر بالمغرب وما يزال.
– لوحظ خلال الخمس سنوات الأخيرة غزارة إنتاجاتك الأدبية، هل خلعك جلباب السلطة فتح شهيتك بهذه الشراهة للكتابة؟
ليس هناك ما يمنعني من التفكير ومن التعبير عن رأيي. لست مرتبطا لا إداريا ولا ماليا بأي جهة، فأنا حر وأعيش من قلمي. مرد ما تسمينه بالغزارة هو من دون شك الحرية. والحرية شيء أساسي لدى الأفراد ولدى المجتمعات وهو ما يطلق عقال المؤهلات الكامنة في نفوسهم. ثم إنني كما كتبت في رواء مكة، أقبرت تجربة واستقبلت أخرى. اكتشفت أن اليوم حياة، مثلما أن الحياة يوم. واليوم الواحد سبح طويل، وإن أحسن المرء تنظيمه نال قطوفه. حياتي بسيطة، أنام باكرا وأستيقظ باكرا، لا أسهر ولا أدخن. هذه البساطة هي لربما سبب هذه الغزارة.
– ماذا أعطاك الأدب ولم تمنحك إياه السلطة؟
كنت قريبا من قمرة القيادة في منظومة الحكم، وعشت هذه المرحلة وقد حملت الكثير من الآمال، هذه التجربة أعطتني من دون شك أشياء كثيرة، من فهم لطبيعة السلطة وميكانزماتها والبنية الذهنية وأثرها، ولا أريد الدخول في التفاصيل لأنها ليست ملكي.
عام 2007 قمت بسفر خاص إلى الأندلس، كما أشرت له في مستهل حديثي، من أجل التقييم، وتبينت أن الأمور راحت في اتجاه آخر، ليس مما كنت أراه وألا مكان لي في التوجه الجديد، إلى أن انتهى الأمر بي بطلب الإعفاء ورفضي تقلد أي منصب صوري لا يلتئم ورؤاي وطبعي وتربيتي، وكان سيُختزل نهاية المطاف في شكليات ولقب، وليس أسوأ من أن يُختزل الإنسان في لقب، واستحضرت البيت الشعري الذي كنت حفظته في الثانوية مع زملائي للحطيئة واعتبرته العرب أهجى بيت:
دعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها فاقعدْ فأنت الطّاعم الكاسي
رفضت أن أكون الطاعم الكاسي. الأدب والكتابة أعطياني شعورا إيجابيا تجاه نفسي. شعرت أنني أقوم بدور، فليس المهم أن نضطلع بأدوار كبرى في الحياة ولكن المهم أن نتقن الأدوار التي أوكلتنا إياها الظروف.
هناك مقولة للإمام علي كرم الله وجهه "قيمة المرء ما يحسنه" فقيمة المرء ليس في وضع أو لقب يحمله، ولكن فيما يُحسنه، وأنا وجدت في الأدب سببا للوجود وفي الفكر غاية، وفي الكتابة رسالة.
– تكتب رواياتك بلغة عربية راقية تمتح من قاموس توارى عن الاستعمال بالأدب العربي، إلى أي حد يحضر تكوينك في المدرسة المولوية على يد فطاحلة في العربية بأسلوبك في الكتابة؟
أنا مدين من دون شك إلى التكوين الذي تلقيته بالمدرسة المولوية. وقد أشرت في كتابي "رواء مكة" إلى تأثير ما أسميتهم بأساطين اللغة والعارفين بأسرارها، وأشرت لشخصيتين فذتين هما المرحوم الحاج با حنيني وكان محبا للعربية ومعجبا بالمتنبي، وكان من يكتب خطب الملك الراحل الحسن الثاني، والمراسلات المهمة.
والشخصية الثانية، أمد الله في عمره، هو محمد شفيق، منظر الحركة الأمازيغية بعدها، وهو عارف للعربية وفروقها وأسرارها، بالإضافة إلى شخصيات أخرى منهم أساتذة النحو والبلاغة، فقد تعلمنا النحو على يد جمهرة من كبار النحاة منهم عبد الرؤوف البرنوصي وعبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة وَعبد الكريم حليم.
لكن لابد أن أشير إلى أثر البيت الذي درجت به، فالوالد أمد الله في عمره، حافظ للقرآن الكريم وأشرف على تحفيظي جزءا منه، ودرّسني النحو والإنشاء مما كان ينسخه من كتاب بوزارة المعارف المصرية لأحمد الهاشمي. فأثر البيت لا ينكر.
وأنا أستشهد دائما بمقولة الشاعر البريطاني ووردس ورث "الطفل هو أب الرجل" فمن دون شك أن البنية الأساسية هي البيت، رغم أنني من بيت تزاوج فيه اللسان العربي والأمازيغي، إلا أن العربية كان لها في وجداننا قدسية لكونها لغة القرآن. وكنت قد تحللت من ذلك في فترة، ولعل هذا التحلل كان ضروريا، مثلما يقول غوته في رائعته فوست: ما ترثه عن أبيك اكتسبه لكي تمتلكه.
– في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم العربي، أي دور وأي حضور للمثقف في هذا الخضم؟
لا يمكن أن ننجز إلا ما تصورناه كما يقول هيغل. وهي ذات الفكرة التي يعبر عنها المتنبي "الرأي قبل شجاعة الشجعان". فالحاجة ملحة اليوم إلى رؤية وتصور. العالم العربي موزع ما بين المعتقدات، أي أفكار نرثها، وتقنيات، أي وصفات نستوردها، وليس هناك فكر، أي أفكار نصوغها من خلال تفاعل الجهد الفكر والواقع لتجاوز معضلاته.
وهي أشياء غائبة في القضايا الكبرى، علاقة الحاكم والمحكوم، علاقة الدين والسياسة، إنتاج الثروة وتوزيعها، وينعكس ذلك في هشاشة بنية الدولة، وفي ضعف الفكر الاقتصادي، بل غيابه، وليس هناك أدنى إسهام للعرب فيما يخص الإشكاليتين الكبيرتين في الاقتصاد، علاقة العمل والرأسمال، والإنتاج والتوزيع، ويمكن أن نضيف التربية التي تُخلط والتعليم، والحال أن التربية هي عملية تحويل وبناء إنسان جديد.
التقييم الذي قام به نزار قباني عام 1967 في قصيدته هوامش على دفتر النكسة، ما زال صالحا إلى الآن، فنحن عالم لا يقرأ ونصْدر من الكتب أقل مما يُصْدر بلد مثل اليونان لا يتجاوز عدد سكانه تسعة ملايين نسمة، هذا بغض النظر عن نوعية ما ينشر.
– في السنوات الأخيرة، حصد عدد من الكتاب والروائيين المغاربة جوائز في مجالات مختلفة، كيف تقيم المشهد الثقافي المغربي على ضوء هذا الاحتفاء؟
بكل موضوعية، ما يكتب وينشر في المغرب من حيث النوعية يتميّز بكثير عما يُكتب في أرجاء أخرى من العالم العربي سواء ما يكتب في الصحافة وفي العلوم الاجتماعية يحمل بوادر وإرهاصات الحداثة ويحمل بنية عقلانية. ومرجه هذه البنية تراكم وإلى التعددية الثقافية التي تتيح نوعا من التنافس الشريف.
ولا غرو أن يتألق المغاربة حينما يجدون إطارا ملائما، ولا أن يحصدوا جوائز الإبداع الروائي أو يتألقوا في مراكز البحث أو في مؤسسات خارجية لأنهم يتميزون بالعمق والرصانة.
غير أنه لا نهاية للكمال ولا حدود للفضيلة ونتوق لما هو أحسن، كميا ونوعيا، لأنفسنا وللعالم العربي. مشكلتنا أساسا في المغرب هو ما قد يسمى الصناعة الثقافية.
بالنسبة للجوائز، ليست معيارا، وبالأخص في قضايا إبداعية قد تخضع لاعتبارات ليست بالضرورة موضوعية.
عن "الجزيرة نت"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.