يكاد الجميع يجمع اليوم على أن الكعكة الاقتصادية وراء جذب كبرى القوى الدولية نحو القارة الإفريقية، لكن واشنطن اختارت منذ سنوات مواجهة المد الاقتصادي الذي يزحف على القارة السمراء، خاصة المد الصيني، بإقامة آلة عسكرية كبيرة ومخصصة بالكامل لهذه القارة، في استباق للاختيار العسكري الذي باتت تنهجه واشنطن حاليا في مواجهة انكماشها الاقتصادي. ففي صيف العام 2008، كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأولى في تاريخ هذه القوة الاقتصادية والعسكرية التي استرعت انتباه سكان أفقر قارات العالم وأكثرها أمراضا وحروبا وخضوعا للاستغلال، أي القارة الإفريقية. لم يكن الأمر يرتبط بتنافس مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري في تقديم الوعود السخية لانتشال هذه القارة من ظلم تاريخي لحقها على مرّ العصور، بل بكون أحد المتنافسين وأكثرهما حظوظا من أبناء جلدة الأفارقة، وسليل أسرة كينية حديثة الانتقال إلى إمبراطورية العالم الجديد، والرجل الذي سحر الأمريكيين قبل غيرهم بشعار «نعم نستطيع»، الرئيس السابق باراك أوباما. إلا أن أهم ما سيميّز فترة ولايتين متتاليتين قضاهما هذا الرئيس الديمقراطي للولايات المتحدةالأمريكية، وإلى جانب زيارات خاطفة لكل من القاهرة ودكار وجنوب إفريقيا، تحقيقه أكبر مشروع عسكري أمريكي غير معالم الانتشار العسكري الأمريكي في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، والمتمثل في إحداث قيادة عسكرية إفريقية، على غرار نظيراتها الأوروبية والآسيوية والشرق أوسطية. «أفريكوم» ليست أحد وعود البرنامج الانتخابي للرئيس الديمقراطي، باراك أوباما، بل إن هذا الأخير، حين كان يجري آخر استعداداته ويحصي قيمة التبرعات المالية التي راكمها لخوض الانتخابات، ويتفقد فرق دعايته الفيسبوكية التي ستحمله إلى البيت الأبيض، كانت إدارة الرئيس الجمهوري الشهير بغزواته المدمّرة، جورج بوش، تصادق على حلم طالما راود القادة العسكريين الأمريكيين، يتمثل في نقل جزء من القوة العسكرية الأمريكية المتمركزة في أوروبا نحو الجنوب، لتحكم قبضتها القوية على «العالم الجديد» للعصر الحالي، بعدما كانت أمريكا نفسها قبل بضعة قرون الأرض العذراء التي تتنافس الدول في استكشافها وغزوها واستيطانها. المعطيات المؤرّخة لنشأة هذا العنصر الجديد في البنية الدفاعية الأمريكية تقول إن تفكير جنرالات واشنطن في إفريقيا بدأ مستهل الثمانينات، حيث جرى إدخال القارة السمراء ضمن مجال إشراف القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي، باعتبارها مجرّد حديقة خلفية لحلفاء أمريكا الأوروبيين، ومستعمرات «سابقة» لدول مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وهولندا… تدريجيا، أخذت طموحات الجنرالات الأمريكيين تتّسع، ليطالبوا رسميا، وابتداء من أواخر التسعينات، بإحداث قيادة جديدة مخصصة بالكامل لإفريقيا، وهو ما سيتحقق في عهد بوش في العام 2006. وبدا أن القرار في البنية السياسية الأمريكية لا يصدر إلا بناء على عملية ضغط و«لوبيينغ» وإقناع بجدوى الخطوة، وكان في صدارة المدافعين عن الفكرة مركز تفكير أمريكي إسرائيلي اسمه «IASPS». وكما لو كانت إدارة بوش الجمهورية تسابق الزمن لتوريث الديمقراطيين هذا المولود الجديد، أُعلن تأسيس القيادة الإفريقية للجيش الأمريكي مستهل العام 2007، لتنتهي الإجراءات الإدارية، التي يصفها جل القادة العسكريين في القواعد الأمريكية بشتوتغارت الألمانية ب«البيروقراطية البطيئة»، في أكتوبر 2008، أي شهرا واحدا قبل انتخابات الرئاسة. وكان أول من عيّن على رأسها، الجنرال وليام وورد، صاحب البشرة الإفريقية، وكان العسكري الذي اشتغل طويلا منسقا أمنيا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وذلك برغبة من امرأة سمراء أيضا، هي وزيرة الخارجية السابقة كوندوليسا رايس. «دورنا في ضربات حلف شمال الأطلسي، أثناء تدخله في ليبيا، كان المراقبة والتموين، والتأكد من خلوّ الأجواء ممن لا يفترض أن يحلقوا في المنطقة»، يقول المتحدث باسم القوات الجوية لأفريكوم، وذلك خلال زيارة سابقة قامت بها «أخبار اليوم» لمقر هذه القاعدة العسكرية بشتوتغارت الألمانية، مضيفا أن هذه الأخيرة تقوم بمراقبة الأجواء الإفريقية بشكل مستمر. فيما كشف مايك أندرسون، عن القوات الأمريكية الخاصة التابعة للقيادة الإفريقية، لائحة داخلية للقيادة، تتكوّن من ثماني دول قال إنها تعتبر الأكثر أهمية وتأثيرا في إقليمها في نظر الجيش الأمريكي، وهي كل من الجزائر وليبيا وأنغولا ونيجيريا وجنوب إفريقيا والكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وكينيا. لائحة قال المتحدث العسكري إن الإدارة الأمريكية، وتحديدا البيت الأبيض، هي التي أعدتها. في وثيقة داخلية للجيش الأمريكي، يبين رسم بياني، يقارن الحضور العسكري الأمريكي في السواحل الإفريقية بين عامي 2010 و2014، كيف تضاعفت تغطية هذه السواحل، سواء منها المتوسّطية أو الأطلسية، بالحضور والنشاط العسكريين، حيث يستعمل القادة العسكريون الأمريكيون عبارة «تطوير الشراكة» مع الجيوش الإفريقية. يقسّم الجيش الأمريكي القارة الإفريقية إلى أقسام متعددة، تختلف وتتباين حسب فروع الجيش واهتماماتها. فقيادة القوات الخاصة التابعة لأفريكوم توزّع إفريقيا إلى ثلاث مناطق أساسية، غربية وشرقية ووسطى. ترتبط المنطقة الغربية بتنسيق مباشر مع القيادة الأوروبية، لأن الأخطار الآتية من الساحل الإفريقي، من إرهاب ومخدرات وهجرة سرية، تمسّ بشكل مباشر المنطقة الأوروبية. وإلى جانب المناورات والتكوين وتدريب الجيوش الإفريقية والتنسيق مع الجيش الأمريكي، تسهر القيادة الإفريقية على تشكيل جيوش إقليمية توحّد قوى الدول المتجاورة، وهو ما نجح على مدى سنوات في منطقة القرن الإفريقي. وتعمل واشنطن بقوة إلى إقناع نيجيريا بقبول تكتّل عسكري مع جيرانها المعنيين بتهديدات جماعة «بوكو حرام»، فيما أعلن مستشار الأمن القومي للرئيس دونالد ترامب، جون بولتون، في محاضرة ألقاها أول أمس الخميس بواشنطن، دعمه المباشر لتكتل «ج5» الذي بدأ تأسيسه في منطقة الساحل والصحراء.