عند الحديث عن رموز العيطة، اللواتي عانين الأمرين في تجبر السلطة، لا بد من استحضار “لبؤة العيطة”، زهرة الحامدي، المعروفة بخربوعة، والتي لا حديث في محركات البحث على الإنترنيت إلا عن مرضها ورحيلها الصامت السنة الماضية بعد حفلات تكريم والتفاتات إعلامية لم تنصفها حية وميتة. خربوعة، التي تعد هرما من أهرام العيطة المغربية عاشت آخر أيامها تتحسر على “ريبرتوار” فني غني لم ينصفها، وهي التي لم تحظ بتكريم يليق بما قدمته للعيطة الزعرية، بل حتى صدى “عيوطها” تحول في آخر أيام مرضها إلى صمت رهيب ونظرات أعين تحمل سنوات من العز والمعاناة معا، قبل أن تسلم الروح إلى بارئها بتاريخ 26 دجنبر 2017. يقول المهدي الأصفاري، الصحافي الباحث والمهتم بشؤون العيطة والفنون الشعبية، في تصريح ل”أخبار اليوم” إن خربوعة ازدادت سنة 1929، بإحدى قبائل واد زم، قبل أن تنتقل في سن مبكرة برفقة والدتها إلى منطقة زعير، ويأتي سبب تغييرها لمسقط رأسها، بعد أن طالب قائد المنطقة من أم زهرة بأن تلحق ابنتها الصغيرة بقصره، إلا أنهما رفضتا، ليقرر في الأخير سجنهما”. وحين مغادرتها لأسوار السجن قررتا الالتحاق بمنطقة زعير، حيث ستتعلق بفن العيطة وتصبح مولوعة ب”التاشياخت”، بل وهناك ستلتقي بالشيخ محمد العواگ، رفيق الدرب، الذي أسس برفقتها مدرسة متكاملة وذاكرة في فن العيطة الزعرية، بعدما كان من متتبعيها فقط، والمعجبين بأدائها للعيطة الزعرية، وقبله صالح بوراس، الذي رافقها بالعزف في بداياتها، حيث كان أول لقاء بينهما في مدرسة الرعاة العصامية الشهيرة لدى المهتمين بفن العيطة، فالكمنجة والأهازيج ظلت ولاتزال رفيق الرعاة ومؤنس وحدتهم في البراري، كما هو الحال بالنسبة إلى العديد من شيوخ الكمنجة وشيخات الغناء القروي بالمغرب. استقرت الشيخة خربوعة بمنزل معلمتها الشيخة الكبيرة، وهناك تلقت أبجديات “عيوط زعير”، ك “جعيدان”، “حوز القصبة” و”البنية”، ولم تنكر قط خربوعة، أنها “كانت تردد هاد الوجبات وهي تبكي لأنها تعلمتها بعد حصص ضرب حتى صارت تتقنها رغم صعوبتها”. ولهذا أصبح ترديد هذه العيوط اليوم، صعبا بسبب تماسك اللحن بالنص الشعري، فصوت وأداء خربوعة المصحوب بعزف العواك، سيظل مرجعا تاريخيا فريدا لن يتكرر. وبما أن العيطة لا يصدح صوتها إلا في حضرة قياد وباشاوات عصرهم، فالقائد المكي الزعري لعب دورا جوهريا في الدفع بموهبة خربوعة، وكان له الفضل في الحفاظ على هذا التراث الموسيقي الزعري، خاصة وأن عيوط زهرة كانت تردد في جلساته وخرجاته إلى مواسم التبوريدة، وبكل فخر وشموخ أمام مجموعة من الأعيان يترأسهم القايد المكي، تحت شجرة بالقرب من منزله كان يطلق عليها اسم “سالف عذراء”. وفي هذه المرحلة من الحياة الفنية للشيخة خربوعة، التي عرفت آنذاك شهرة واسعة، حتى أصبحت صورها رفقة العواك تملأ أسطوانات الخمسة والأربعين لفة التي تصدح في كل البيوت، وهنا دخلت العيطة الزعرية في منعطف إبداعي جديد، أغنى الخزانة الموسيقية المغربية بأغاني وطنية خالدة، وصفت بالتحريضية ضد المستعمر إبان حقبة الحركة الوطنية ونفي محمد الخامس، أدت إلى سجنها في خمسينيات القرن الماضي. وبالعودة إلى قصة سجنها يحكى أنها كانت مدعوة رفقة “رباعتها” إلى الأفراح بالمنطقة، قبل أن ينتشر خبر البحث عنها من قبل السلطات الفرنسية، فتم القبض عليها للتحقيق معها رفقة كل الحاضرين بمن فيهم “صالح بوراس” وأصحاب الحفل وحتى المتفرجين، لتعترف خربوعة أنها كانت تؤدي أغنية تقول فيها: “يحيا الملك يحيا الدين ويسقطوا الناس الخاينين، أجي تشوف القهر، عامين و3 أشهر، الملك خاوي القصر والمغرب مصاب صبر والله مانحني ولاتجي فيديا، من غير إلا رجع الخامس وجاب الحرية وفي أيام عاشورا هزوا زين الصورة (في إشارة إلى محمد الخامس) راه القبايل مكسورة”. وهنا وجب التذكير أن الشيخة خربوعة كانت لها قدرة كبيرة على الارتجال الشعري، فبسببه تم اعتقالها سنة 1953، ما اضطرها إلى مغادرة قبيلة الكناديز المجاورة لمنطقة زعير، التي ازدادت بها سنة 1929 والاستقرار ببلدة الرماني، حيث قضت خربوعة شهرا سجنا بالسجن المحلي بالرماني، وشهرا آخر بسجن وادي زم، وشهرا ثالثا بسجن خريبكة، وفترة أخرى بسجن ابن أحمد، وسنة كاملة في سجن اغبيلة بالدار البيضاء، إلى أن أفرج عنها بعد عودة الملك محمد الخامس إلى عرشه، لتبقى خربوعة أيقونة نقلت بصوتها المتميز آمال الناس البسطاء وآلامهم، وأرَّخت للعيطة الزعرية ولمنطقة زعير وللأحداث التي عرفتها البلاد عموما، على مدى عقود من الزمن.